.
يوم قال لي أخي إنني أزعج الجيران بغنائي المتواصل، كنت قد خرجتُ إلى الشرفة كعادتي في الخامسة مساءً بعد انتهائي من اللعب. كل مساء أخرج إلى الشرفة، أتمسّك بالحافة كي يصل غنائي إلى السماء، الغيوم والعصافير والبنايات الكبيرة خارج البيت. أصيح أغنياتي، لعبتي الصغيرة، بابا اليوم جبلي بالون، يا بنت السلطان، أديش كنا نروح، إلخ… قبل أن تغرب الشمس ويتحوّل كل شيء إلى سواد، ونشعل الشموع وبابور الكاز في الداخل.
من الممكن، بل من المؤكد والحتميّ، أنّ هناك من لا يستمتع بغنائي اليومي مثلما يستمتع أبي بصوتي. قد لا يقول لي أبي الحقيقة، لكنّ أخي صريح معي. يوم قال لي “أولاً صوتك مزعج ومش حلو، ثانيًا حاجة تصرّخي هيك، في جيران!” صدّقته، وقد اكتشفت حقيقة جديدة عمّا يحصل خارج المنزل، ما بعد السماء والغيوم والعصافير والبنايات، وعمّو الذي يخرج من دكانه تحت شرفتي كي يصفّق لي بعد أن أنتهي من الغناء، ويسألني إذا كنت سوف “أروح “التِّش (الكزدورة)”، وهو يعلم أنّ التِّش الوحيد الذي سأحصل عليه في بيروت آنذاك هو شرفة بيتنا الصغيرة. اكشتفتُ صمتًا آتيًا من داخل البيوت بعد كل أغنية أؤديها بكل ما أوتيت من قوّة. أدركت أنّ ذلك الصمت هو استنكار بل تذمّر لبق من غنائي المتكرّر، وأنّ عليّ أن أخبئ صوتي في مكان ما.
يوم قال لي أخي أنني أزعج الجيران بغنائي المتواصل، هو اليوم الذي بدأت فيه بتسجيل أغنياتي على مسجلةٍ صغيرة أعطاني إياها أبي ومعها كاسيت أبيض.
الآن تغيرت الأمور عندنا في البيت. كلما أحسّ برغبة في الغناء، أركض إلى المسجّلة، وأغني بصوتٍ ليس عاليًا كثيرًا ولا خافتًا. صوتٌ متوازن. أفعل ذلك وحدي كي لا يسمعني أحد، لكنّ أبي يساعدني في التسجيل، وأحيانًا في تذكّر كلمات الأغنية. ثم أستمع إلى صوتي. لا اعتقد أنّ أدائي مزعجٌ إطلاقًا، ولكن يبدو أنّ رأيي ليس مهمًا في ذلك العالم الخارجي، خارج البيت. وأنا ما زلت لا أعرف الكثير.
لا أذكر الآن كيف بدأ كل شيء، من اقترح فكرة الحكومة ومن أعطاها اسم الهارستو، وكيف انتهى بالانشقاق والتنظيم لعملية خطف الكاسيت وإخفائه، وكيف أتتني القوة والشجاعة، أنا، الأصغر سنًا في العصابة، التي لم يؤخذ برأيها يومًا في تنظيم لعبة الفوتبول، والتي تلقت طابة في وجهها خمس مراتٍ على الأقل كحارسة مرمى ولم تقل شيئًا، ولا حتى “آي”. لا أدري كيف أتتني الشجاعة، أنا، لأن أقرر فجأة مع ليلى أنّ الكيل قد طفح وأنّ الانشقاق واجب وأنّ الصبيان لا يطاقون ولا نريد أن نلعب معهم بعد الآن، وأنه يجب علينا التحرك أولًا وسرقة الكاسيت للحفاظ على حكومتنا قبل فوات الأوان، حكومة الهارستو، حكومة الإنقاذ الوطني.
ما أذكره أننا، أنا وناجي وأيمن وليلى، نظّمنا جميعًا نشيد الحكومة واقترحنا مبادئ وأخلاقيات الحكم. اجتمعنا في بيت ناجي وليلى وسجّلنا النشيد وبعضًا من المبادئ على كاسيت وكتبنا عليه: هارستو. وهكذا خلقت الحكومة.
يذكر ناجي وأيمن أنّ نشيد الهارستو المسجَّل على الكاسيت كان مستوحىً من النشيد المصري، ويحدّد ناجي أنّه كان مزيجًا من النشيد المصري ولحن عزيزتي كليمنتاين الذي كان مسجلًا على أورغ أيمن الأبيض:
يا بلادي يا بلادي يا بلاد الهارستو
لك حبّي وفؤادي يا بلاد الهارستو
كان أول أعمال الحكومة: ١- إقرار نقود جديدة للحكومة، تكفلنا بذلك أنا وليلى و٢- الكتابة بقلم رصاص بخط كبير جدًا على حائط كوريدور البناية خارج منزل أعدائنا \ جيراننا، والآن أعداء حكومة الهارستو الأساسيين، يوسف، الملقّب بفسوي، وفاديا:
“حكومة الهارستو آتية”
ثم غناء نشيد الحكومة قبل التقهقر سريعًا إلى بيوتنا كي لا يتم التعرّف علينا.
الآن، وبعد مضي الكثير من الزمن والتأمل في الموضوع، أرى أنّه كان بإمكاننا أن نركّز أكثر على مطالب وأخلاقيات الحكومة قبل التسرُّع بعملية الهجوم، لأننا لم نكن حاضرين بشكلٍ كافٍ لتبرير مشاريع حكومة الهارستو، خاصة عندما قبض الجيران علينا وقالوا لأهالينا أننا كتبنا على حائط البناية في الطابق الخامس شيئا ما عن هارستو. كان بإمكاننا الدفاع عن أنفسنا بشكل أفضل.
المأزق الثاني الذي وقعنا فيه فور إنشاء الحكومة كان كيفية التعامل مع حواجز حركة أمل حزب لبناني يمثل بعض الشيعة في لبنان الموجودة في حارتنا. ذات يوم، عندما كنا أنا وليلى عائدتين إلى البيت، أوقفنا عنصر من حركة أمل على الحاجز الملاصق لبنايتنا وطلب منا أن نفتح حقائبنا كي يفتشها. وضعت يديّ على خاصرتي ونظرت إليه وقلت: “شو حيكون معنا يعني، قنبلة؟” وكنت قد شاهدت أمي تفعل ذلك مرارًا، أكان في البيت أو من الشرفة لدى رجوعنا من المدرسة ودخولنا الحاجز للوصول إلى البيت. تضع يدها على خاصرتها وتقول “إنه أولاد. شو حيكون معهم يعني، قنبلة؟” لكن، ولسببٍ ما، لم يتفاعل عنصر حركة أمل مع احتجاجي مثلما يتفاعل عادة مع احتجاج امي، ضحك بسخريةٍ وقال: “افتحي شنطتك”. وهنا حصلت الواقعة.
وجد مبالغًا نقدية كبيرة جدًا لحكومة الهارستو في حقيبة ليلى وسألنا: “شو هيدا؟”
لم تكذب ليلى وقالت بكل فخر: “مصاري لحكومتنا، حكومة الهارستو”
“ما فيكم تعملوا مصاري” قال ضاحكًا، “لازم آخدهم”
“بس هودي مصاري الحكومة”
“ممنوع”.
وهكذا، بغمضة عين، اختفت أموال حكومة الهارستو على حاجز لحركة أمل، وتقاصص كل أعضائها من قبل أهلهم بعد وقتٍ قصيرٍ على إنشائها.
لا أذكر ماذا حصل بعد ذلك، لكنه أصبح من المستحيل البقاء في حكومة واحدة مع ناجي و أيمن. تعقّدت العديد من الأشياء وقررنا الانشقاق. يجب التصرف بسرعة وسرقة كاسيت حكومة الهارستو. الكاسيت هو الشيء الوحيد الذي تبقى من الحكومة. الكاسيت هو الحكومة: فيه النشيد، ومبادئ الحكم. معًا نستطيع إكمال المشروع، بلا صبيان بلا بلّوط.
سرقناه، لا أدري كيف، وخبأناه عندنا في البيت، في مكتبة أبي.
اتفقنا على أكل البوظة للاحتفال – ليلى على شوكولا، دايمًا على شوكولا، وأنا كل مرة أنتقي ألوانًا مختلفة – ثم التوجه إلى واجهة محل أبو حسين للتفرج على الألعاب المعروضة هناك.
بعد سرقة الكاسيت، أصبح انشقاق حكومة الهارستو واقعًا. تحررنا من الصبيان وحرّرنا الحكومة. حاول أيمن وناجي أن يجدا الكاسيت عبر استعمال وسائل غير أخلاقية: الابتزاز، الركض وراءنا، التهديد بعدم اللعب معنا، إلخ… لكنهما فشلا. بقي كاسيت الهارستو قابعاً بين كتب أبي في غرفة المكتبة. يذكر ناجي أنّ انقلابنا نجم عنه خلق حكومة جديدة للبنات اسمها WR، مستوحاة من كلمتي Water Resistant المكتوبتين على ساعة ليلى، بينما بقيت حكومة الهارستو للصبيان. لكنّي اعتقد أنّ ذلك غير صحيح، لأنّ لا حكومة الهارستو من دون كاسيت الهارستو الذي يحتوي على المبادئ والنشيد.
لا أدري ماذا حصل للكاسيت بعد ذلك. قد نكون نسينا أين خبأناه، ثم نسينا حكومة الهارستو كلها. أحيانا أفكر أنه ما زال في غرفة المكتبة، في بيت طفولتي الذي لم يعد له وجود. كاسيت الهارستو هناك، بين كتابي المستطرف في كل فنّ مستظرف للأبهشي وعبد الرحمن الكواكبي: الأعمال الكاملة. أكاد ألمسه. أحيانا أخرى أتخيل أنّنا استمرينا بتسجيل رؤيتنا لحكومة الهارستو الجديدة. نختبئ في غرفة المكتبة ونسجّل شروطنا على الكاسيت:
“لا للصبيان”.
“بوظة أكثر”.
“لا للقنابل”.
“لا لتفتيش الصغار على حواجز حركة أمل”.
“أن تلعب لميا الفوتبول في دور هجومي وأن يكون أحد من الصبيان حارس المرمى”
“لا للمدرسة”
ثم نسجّل معًا أغنيتنا المفضلة لعمرو دياب: متخافيش.
لكنّي أشعر دائما بشيء غامض لا أستطيع نسيانه. كأنّ الكاسيت قد انتُزع منّا على حاجز حركة أمل، يوم فقدنا أموال حكومة الهارستو. كأننا كنا نحن المسؤولات عن فقدان الحكومة وليس حمايتها. كأنّ حارس الحاجز أخذ الكاسيت منّا، واستمع إلى نشيدنا ومبادئ حكومة الهارستو، ثم ضحك مع رفاقه، حرّاس الحواجز الآخرين. لا أدري، هل حقًا خبأناه؟ هل حقًا سرقنا الكاسيت وأنقذنا حكومة الهارستو؟
أجلس أمام الراديو الكبير في المطبخ، آتي بكاسيت جديد وأضعه في مسجلة الراديو وأفتحه. أحرّك الإبرة العمودية بين الإذاعات محاولةً أن أحفظ أرقامها. لا أعرف أسماء الإذاعات لكنني أباشر بعملية انتقائية / استكشافية لرصد الإذاعات الأجنبية التي قد تضع أغانٍ تعالج وجع القلب، أو انفطاره، أو انكساره وتحطمه إلى ٥٨٦٨٥ قطعة، أو ألمه المستمر المتناغم مع ألم معدتي.
أزفر زفيرًا عميقًا وأنا أجلس في المطبخ وحدي. وضعت نفسي في مأزقٍ كبير. كيف يمكنني، أنا الميتالجيِّة، أن ألبس ثيابًا سوداء للمدرسة ولا أصفف شعري الطويل وأسمع موسيقى هِڨي مِتال كل يوم، كيف يمكنني أن أتعامل مع حرقة الحب والشوق والنبذ الآن؟ لا يوجد أغنية واحدة من الهِڨي مِتال يمكنها أن تعبّر عمَّا أشعر به. ويجب عليّ الاعتراف، على الأقل لنفسي، أن رفض موسيقى البوب مؤخرًا أصبح صعبًا جدًا عليّ، خاصةً مع قلبٍ مجروحٍ بهذه الطريقة. أصبحت أدندن دون انتباه أغاني مارايا كاري مثلًا!
مارايا كاري؟ من أنا؟
يجب ألا يعرف أحد عن هذا الموضوع، سأصبح محط سخرية الجميع في المدرسة. حسنٌ. يجب أن أتمالك نفسي الآن، قد يدخل أهلي المطبخ في أي لحظة. يجب ألا يعرف أحد عن ع.ش. وعن قلبي المحطّم، المكسور، المنفطر. سيأتي يوم وأنتقم فيه من ع.ش. وممّا فعله بي.
آخذ نفسًا عميقًا وأحاول أن أركِّز على عملية التسجيل. أحرك الإبرة مجددًا لألتقط الإذاعات المناسبة. يجب أن أتحرك بدقة وأن أتخذ القرار بشكلٍ سريع: أستمع إلى بداية الأغنية وأقرِّر إن كنت أعرفها أم لا، إن كانت مناسبةً لوجع قلبي، وإن كانت تحاكي ما أصابني. طبعًا لديّ معايير! سأتجنب إذاعة نوستالجي قدر الإمكان وأحاول إيجاد أغانٍ جميلة، لماريا كاري مثلاً. قد أبقى في المطبخ كل الليل، حتى الساعة العاشرة، وقت النوم.
فجأةً وجدت أغنية لاڤ هيرتس، وبسرعة كبست زرّ التسجيل. أغنية سخيفة ولكن، الحب يوجع فعلًا. بعدها أغنية آي سوير، أشاهد فيديو الأغنية على إذاعة إم تي في في التلفزيون بعد المدرسة. ثم، أغنية براين آدامز بليز فورجيڨ مي، أغنية ماريا كاري هيرو. يجب ألاّ يعرف أحد بهذا الكاسيت. إن عرفوا في المدرسة سأتحوّل إلى مسخرة: براين آدامز، مارايا كاري وأغنية آي سوير؟
بعد الانتهاء من التسجيل، أُخرج الكاسيت وأتركه دون علامةٍ أو اسم:
لن أكتب لائحة الأغاني لأنني لست غبية. لن يعرف أحد. هكذا، عندما أستمع إلى الكاسيت في المدرسة أو في الباص، سأحافظ على مظهري الماتيلجي الخارجي، بينما في الداخل أستطيع أن أبكي وأتحسّر على حبّي الذي ضاع مع ع.ش. قالت لي أمي إنّه لا يوجد صبيان يستحقون البكاء عليهم، وقالت إنّ ذلك لا ينطبق على الصبيان فحسب بل على الرجال ككل.
لكن صعبٌ جدا عليّ ألا أبكي. فالحب مؤلم فعلًا!
وكما تقول مارايا كاري في أغنية هيرو: “إنه طريق طويل عندما تواجهين العالم لوحدك. لكنك تستطيعين أن تجدي الحب إذا بحثت في داخلك، عندها كل الفراغ الذي تشعرين به سيختفي”.
التقيت بها في أول يوم لي في مدرستي الجديدة. وقالت لي: “أنا فرح! لنكن أصدقاء، أوكي؟”
“أوكي”
“الاسبوع القادم سأهديك مكستايب” واختفت.
بعد أسبوع، لحقت بي على درج المدرسة وأعطتني الكاسيت،
“قوليلي شو رأيك!”
“أوكي”.