.
بقدر ما ساهمت الأغاني العربية المعاصرة والكلاسيكية بالحفاظ على الشعر مألوفًا ومتداولًا، بقدر ما ساهمت هذه الاستعادات أو الاستخدامات للقصائد بربط الشعر بما هو فصيح رصين أو رقيق مرهف، وأدخلته متاحف يُظهر الناس فيها إجلالًا لا أريحية. غمر هذا التوجه أجزاء واسعة من الشعر العربي، وبالتالي نواحٍ من الشخصية العربية، فيها جموح أو عنجهية أو بذاءة.
عند استعادته لهذا النوع من القصائد، يمثِّل مسلم غنائيًا شخصيات الشعراء، مقدمًا إياهم كسكارى، منتشين، محبين للكيف بلا وازع ولا تحرُّج، مسفين بالمتعة وبالانهماك بالذات، نسونجيين، مسرفين بعواطفهم، بذيئين بذاءةً سوقية، ليسوا محصنين تجاه الكآبة والحزن. متحررًا من تقييدات أخلَقة وإجلال الماضي، وواثقًا بإسقاطاته على هؤلاء الشعراء، يستكشف مسلَّم في استعاداته أقصى ما قد تقدمه هذه القصائد.
بعد صوت صفير البلبل التي أنتجها بنفسه وأصدرها منذ عام، مستكشفًا سعار وعنجهية الأصمعي، نزَّل مسلَّم أمس خانك الأغنية هي أحدث عينة من ألبومه المقبل ما بعد الاحتلال، المأخوذة كلماتها من قصيدة أبي العتاهية خانك الطرف الطموح. اكتسب أبو العتاهية لقبه مرد كلمة العتاهية للتعته، أي التهتك أو التحذلق، وقد عرف الشاعر بالاثنين من حياة المجون التي عرف بها في شبابه، قبل أن يلتفت إلى تأليف قصائد ذات نفور وشهية مضطربة إزاء الحياة. يحمل هذا التحول المفاجئ إلى النفور أكثر من تأويل، لكن ساد النظر إليه على أنه نفورٌ تعفُّفيٌ زاهدٌ بالمعنى الديني. قصيدة خانك الطرف الطموح، والتي كانت من الجيل الأوَّل من القصائد التي تخلت عن البنية التقليدية للقصيدة العربية أو بدأت بالتجريب ضمنها، هي إحدى شواهد المرحلة الزاهدة. تم تسجيلها حديثًا كنشيدٍ إسلامي، تؤدى بخشوع يضخِّم الجانب الديني فيها.
في المقابل، يركِّز مسلم في أدائه للقصيدة نفسها على شخص أبي العتاهية لا على المواعظ والعبَر. يغني بشكلٍ منفعلٍ منهمكٍ بالذات، مشيرًا إلى أن حديث أبي العتاهية عن التهتك بالألم والخوف من الموت مرده حس الأنا المتضخم فيه، وأن خطابه الذي يجيء على شكل موعظة هو في الواقع رثاء ذاتي مستبق لشخصٍ محتجٍ على الموت والقدر، لا تسليم وتذكير بهما. يدعم ذلك تركيز مسلَّم بغنائه على اقتباسات بذاتها: “كيف إصلاح قلوبٍ إنما هي قروح”، “بين عيني كل حيّ علم الموت يلوح / كلنا في غفلةٍ، والموت يغدو ويروح.”
إلى جانب غناء مسلَّم التمثيلي، عمل الآركديوسر على تسخير الأدوات الإنتاجية كالإيقاعات والتأثيرات لبناء تصوره عن مزاج الشاعر والقصيدة، ناسجًا بيئة صوتية ضيِّقة وداكنة، تحاكي فترة سجنه القصيرة والعرضية التي قضاها أبو العتاهية في عصر هارون الرشيد. يقدِّم الآركديوسر في النصف الثاني من الأغنية أبواق شبيهة بتلك التي استخدمها كانيه وِست في بلد أُن ذ ليڨز. أبواق الآركيدوسر ضخمة بما فيه الكفاية لربطها بالأنا والعنجهية، لكن مكسورة ومترددة في ذات الوقت لتأكيد تفسير القصيدة على أنها أزمة وجودية واضطراب ناتج عن تذكر الموت أكثر منها عِظة زاهدة، الأمر الذي يبدو أكثر اتساقًا مع أبي العتاهية المعروف بالمجون وحب الحياة.
تساعدنا استعادة الأغنية لهذه القصيدة على تذكر وتخيل الشخصية العربية بشكلٍ أكثر تدرجًا وواقعيةً، ناجيةً من فخ القوالب الثنائية أو التنقل الحاد بين صور نمطية متناقضة كالفجور والزهد، ومركزةً على المساحات البينية الغنية التي تجعل البشر أنفسهم، وبالتالي تجعلنا أكثر قدرةً على التفاهم والتعاطف معهم واستخدامهم كمرجع هوياتي في حياتنا اليوم.
غلاف المقال صورة عن لوحة بورتريه ذاتي على المرحاض، مسلّم هديب. ٢٠١٤.