.
في السابع والعشرين من آب / أغسطس الماضي احتل كندريك لامار مسرح ذ فورم في كاليفورنيا، والذي استضاف حفل إم تي ڨي لأفضل الأغاني المصورة للعام. ثمانية ترشيحات فازت أغنية هامبل المصورة بستة منها، أهمها جائزة فيديو العام. عند إعلان فوزه بالجائزة الأخيرة خالف لامار عرفًا سائدًا ولم يعتلِ المنصة وحيدًا. كان متواضعًا. شكر الرب في الربع الأوَّل من خطابه المقتضب، ثم أمضى بقية الخطاب يشكر الرجلين الذين رافقاه، أحدهما على وجه الخصوص، أربعيني أبيض، جثة ضخمة واعتداد بالذات أضخم، يرتدي ملابس مبهرجة باعتدال، أكثرها لفتًا للنظر جاكيت أزرق ارتُدِيَ بأريحية. بعد انتهاء كندريك تقدم هذا الرجل بنفسه لحمل الجائزة وإضافة كلمتين.
هذا الرجل هو دايڨ مايرز، أحد هؤلاء الذين لا نعرف أننا نعرفهم. إذا كان إمنم هو فتى الراب الأبيض، فمايرز هو مراهقها. في الوقت الذي يتبع فيه كانيه وِست نصيحة پيكاسو بالدفاع عن الطفل / الفنان الذي بداخله قال پيكاسو: كل طفل هو فنان، السؤال كيف نحافظ على هذا الفنان بداخلنا عندما نكبر، ويشير كانيه بشكل مباشر إلى هذه الفكرة في أغنية پاور: أنا محاصر بأفكار الأشخاص الناضجين / يحاول الواقع ابتلاعي / انتزاع طفلي الداخلي الذي أحارب لحقوق حضانته، يدافع مايرز عن روح المراهقة التي صانها لوقتٍ طويل ومكنته من المساهمة في صناعة ثقافة الپوپ لفترة أيقونية، تجعلني لا أزال خلال كتابة المقال أواجه صعوبة في تقبل أن أحد ملوك الإم تي ڨي خلال التسعينات، والذي عمل مع تويستا وجاي زي وكيد روك أثناء اشتهارهم، هو نفسه الذي يصوِّر اليوم الضربات التجارية الخاصة بكايتي پيري وكندريك لامار وسِزا.
يستخدم السوريون عندما يريدون التطرف بالمدح كلمة اللاوي، أي نظير الله، ويبدو أن أحدهم أخبر مايرز بأن همبل تحتاج إلى فيديو اللاوي، حرفيًا ومجازيًا، لأنَّ هذا ما حصلنا عليه. لا يمتاز الفيديو بالرهبة فقط، بل يتسع إلى طيف واسع من التأويلات، كعمل كلاسيكي خالد. أشار مقال في مجلة بيلبورد إلى أن فلسفة لامار القائمة على الإسراف بالزيف للإشارة إلى ما هو حقيقي قد تمت ترجمتها عبر لقطات مايرز ضد التوافقية.مشهد لامار في زي البابا، ومشهده جالسًا وسط طاولة العشاء الأخير، وصفا بأنهما تجلٍ مؤثر للسخرية السوداء. أخيرًا تساءل كاتب المقال: هل اختار مايرز مشاهدًا معينة لما فيها من معانٍ عميقة مكثفة؟ أم فقط لأنه بدا له أنه من الرهيب تصوير مشاهد مماثلة؟ تم تذييل التساؤل اليتيم بعبارة: لم يرد ممثلوا مايرز بشكلٍ مباشر فوري على تساؤل مجلتنا.
لم تصنف مجلة پايست فيديو آوتكاست، بومبز أوفر بغداد، الأوَّل في قائمتها لأفضل خمسين فيديو للعقد ٢٠٠٠-٢٠٠٩ عن عبث. يضع مايرز مهمته هنا تصوير فيديو الراب القياسي: سيارات، راقصات، الاحتفال في أماكن علنية والأسنان المذهبة. دافعًا كل هذه الجوانب إلى حدودها القصوى، تحت تأثير هوية بصرية مبهَّرة بألوان أسيدية. العظيم في الفيديو بالنسبة لي أنه يؤدي غرضه ككبسولةٍ زمنية لكيف بدت إم تي ڨي في السنوات العشرة السابقة لصدوره، وتنبؤًا لا يخلو من الدقة لكيف ستبدو عليه هي ويوتوب في السنوات العشر اللاحقة.
في نفس الحفل الذي فازت به هامبل بجائزة الأغنية المصورة للعام، تم تقليد پينك جائزة مايكل جاكسن الفخرية لمسيرتها في الأغاني المصورة. صوَّر مايرز حوالي نصف أغاني بينك، وطور خلال هذه الأغاني فلسفته المتبعة في العديد من أعماله، والقائمة على تقديم الموسيقيين بصفتهم الشخصية، مع تضخيم ومبالغة جانب الشهرة فيهم / في حياتهم، فيما يشبه صيغة مبكرة من برامج التلفاز الواقعي، والتي طغت على إم تي ڨي منذ بداية الألفينات. أرست فيديوهات كـ جِت ذ پارتي ستارتِد وسو وَات اثنتين من أكثر خمس أغاني پينك نجاحًا تجاريًا، صور مايرز أربعًا منها جماليات هذا الأسلوب: هكذا تستيقظ پينك، هكذا تقرر ما سترتدي للحفلة، هكذا تعثر على نادٍ ليلي لقضاء الليلة، هكذا تتعامل مع انفصالها مع حبيبها، ولو أردتم أن تكونوا صايعين فستعيشون حياتكم بذات الطريقة.
استُقبلت أغنية جوڨنايل هذه كردٍّ تأخر سبع سنواتٍ على بايبي جَت باك لـ سِر ميكس أ لات، وبالتالي كان على فيديو الأغنية أن يكون رد مايرز على نظيره المخرج آدم برنستين، والذي كان بكافة المقاييس تحديًا صعبًا. نظرًا لكون الأغنيتين ذات موضوع محدد الآس، أراد مايرز أن يعطي الجمهور الفيديو البذيء الذي يطالب به، دون أن تكون سبله للبذاءة فظة وبدائية. النتيجة كانت فيديو بدا أن العاملين فيه قد تمت محاسبتهم بعلب السجائر. المونتاج بدائي، التصوير رعاعي، الراقصات غير محترفات، تنسيق الحركات الجماعية اعتباطي وقد يكون مرتجلًا. بدكم بذيء؟ خذوا بذيء. احتلت الأغنية المرتبة السابعة والخمسين لقوائم مبيعات عام ١٩٩٩ في الولايات المتحدة، وظلَّت أنجح أغاني جوڨنايل تجاريًا حتى ٢٠٠٤.
بأكثر من ١١ مليار مشاهدة لفيديوهات قناتها على اليوتوب، قد تكون شاكيرا صاحبة الأغاني المصورة الأكثر مشاهدةً في التاريخ. حققت شاكيرا نجاحها اللاتيني في التسعينات المتأخرة، إلا أن ألبوم لوندري سرڨِس الصادر في ٢٠٠١ هو ما أطلق شهرتها الأمريكية فالعالمية. ضرب الألبوم أولاً مع الأغنية المصورة وِنإفر، ويرإفر، والتي أخرجها فرانسيس لورنس ومنح فيها شاكيرا مظهرًا بريتني سبيرزيًا / كرستينا آليجِرا-ئيًا. تولى مايرز تصوير ضربة الألبوم الثانية، أوبجكشن، والتي تفاهم فيها مع شاكيرا وفق شروطها الخاصة. يبدأ الفيديو كما مسيرة شاكيرا في نادٍ موسيقي لاتيني، حيث العرق المتصبب والدم الحامي والبشرة السمراء، ثم ينتقل، كمسيرة شاكيرا مجددًا، عبر سيارة أمريكية إلى نادٍ ليلي أمريكي، حيث تبدأ سلسلة استعراضات سريعة لأوجه شاكيرا الأدائية: الرقص اللاتيني المحكم، مقاطع كرتونية بتعليقات نسوية عابرة وتهكمية، فورملا فرق الروك المستقل الأمريكية، وتوحيد سوبرمان وباتمان أمام الكميرا قبل خمسة عشر عامًا من هوليود.
هناك تبجح، وهناك ديرت أُف يور شولدر، ويجب عدم الخلط بين الاثنين. نزلت هذه الأغنية في ألبوم جاي زي الثامن، ذ بلاك ألبوم، أحد صروح الراب من السنين الخمس الأولى من الألفينات، والذي وقفت وراءه ترسانة منتجين من ريك روبن وتيمبلاند إلى كانيه وِست وإمينِم. قدَّم كلُّ من عمل على الألبوم أفضل ما لديه، ثم وصل الدور إلى مايرز، الذي أعدَّ لهذه الأغنية تقنية تصحيح ألوان داكنة فريدة، استقبلت الألبوم الأسود بأمريكا سوداء مماثلة. يحمل إيقاع الفيديو وتيرةً مستلهمة من الراب: هو يقتحم، يشاكس، يهرب بأناقة، ويصل إلى ذروة تبجحه بلقطة راقصة تم تصويرها بكميرا حرارية. المجاز واضح هنا: الفيديو نار.
لو كان هذا الفيديو متجر دوناتس، فإن استراتيجية مايرز لإشهاره هي الإكثار من السكّر الملوّن والمكسرات. خطرت له أفكار لخمسة فيديوهات، يستكشف كل منها الحدود السخيفة القصوى لمخيلة مراهق ألفيناتي نشأ على مشاهدة إم تي ڨي، ثم استخدام الأفكار الخمسة سويةً. راقصات، فتية يرتدون أقنعة هوكي ويحملون مضارب بايسبول، دخان، المزيد من الراقصات، أسطورة تقول أنه “لو رقصتي بدرجة كافية من الإثارة سيظهر لوداكريس من المرآة”، لوداكرس يلقي رابًا صايعًا لدرجة أن ملابس الفتيات تبدأ بالتساقط، المزيد من الراقصات. لا تزال هاو لاو أكثر أغاني لودا نجاحًا تجاريًا حتى اليوم، بمبيعات تجاوزت المليوني نسخة، وهي الأغنية السادسة والثلاثين الأكثر مبيعًا في الولايات المتحدة عام ٢٠٠٩.
لو تسكعتم في أي مول في صيف ٢٠١١ فستكونون قد ميزتم تلك الأغنية التي لم تكل متاجر الملابس والإلكترونيات من تكرارها. جولة تسوق من ساعتين كانت كافية لسماعها خمس مرات على الأقل. كانت الأغنية تتويجًا للصعود السريع والكاسح للموسيقى الراقصة كزعيمٍ صيفي للبوب، الصعود الذي بدأ يتضح في ٢٠٠٩ مع أمثال دايڨِد جِتا وكِشا. بدأ المخرجون بإرساء كليشيهات لفيديوهات هذه الصرعة الصيفية: رمال، رقص وبيكيني. مزيجٌ أدى أداءً حسنًا لكن ليس أكثر من ذلك، وظل ينقصه شيء. في ذات الوقت كان مايرز، على ما يبدو، منهمكًا بالدراسة. يستعد لتحويل خطه المهني من الأغاني إلى الإعلانات المصورة، ويدرك أن انتقالًا مماثلًا يحتاج ما يدعمه من طلاقة في الأسلوب البصري والتعامل مع هامشٍ زمنيٍ ضيق. بالنسبة لمخرج إعلانات، فإن فيديو أغنية من أربع دقائق فيلم روائي، مساحة لا نهائية لتجريب أفكار مختلفة والانتقال بينها براحة، وهذا ما جعل فيديو وير ذِم جرلز آت أحد الضربات المبكرة للأغاني المصورة الراقصة برصيد ربع مليار مشاهدة.
في ٢٠١٠ كانت الأمور تبدو واعدةً لجيل زِد تصنيف علم دراسة الأجيال لمواليد أواخر التسعينات والعقد الأول من الألفينات، الانفتاح الفيَّاض بين مراهقي العالم على وسائل التواصل الاجتماعي وألعاب الشبكة ومواقع الترفيه كـ ناين غاغ، وما أتى به هذا الانفتاح من غمر الجيل بروح إنسانوية فتية، قبل أن تنحو الأمور منحًا ذريعًا، فبلغت معدلات الانتحار والكآبة أرقامًا قياسية في هذا الجيل نفسه. في ذات العام كانت كايتي پيري تحظى بنجاحٍ تجاريٍ تاريخي مع ألبومها الثالث تينايج دريم، والذي أصبح الألبوم الثاني فقط (بعد ثريلر لمايكل جاكسن) الذي تصدرت خمس من أغانيه المنفردة المبيعات. كان مايرز ثالث أطراف الاحتفال إلى جانب كايتي ومراهقي ٢٠١٠، بتصوير فيديو فايروورك الإنسانوي، والذي استثمر فيه فهمه لنفسية المراهق الأمريكي المساء إليه، الفهم الذي أتى به من عمله على فيديو إعلاني لحملة مكافحة العنف المنزلي صدر في ذات العام.
لمحت مؤخرًا مقالًا بعنوان: هل سيتقبل الجمهور العريض أكثر من ملكة راب واحدة في ذات الوقت؟ عدَّد المقال من اعتبرهنَّ ملكات الراب وتواريخ حكمهن. ظهرت ميسي إليوت في القائمة مرتين، الأولى في حقبة ١٩٩٧-٢٠٠٠ عندما تشاركت السيادة مع لِل كيم وفوكسي براون وإيڨ، والثانية بين ٢٠٠٢-٢٠٠٥، وحدها لا شريك لها. صوَّر مايرز معظم فيديوهات ميسي وكان ركيزةً لسيادتها المتكررة، بفيديوهات مثل جِت يور فريك أُن ولوز كنترول، وخاصةً وورك إِت التي توثق ذروة نجاح ميسي في مطلع الألفينات، ولا تزال أكثر أغانيها مبيعًا حتى اليوم. لكن في صفحة الويكيبيديا الخاصة بالأغنية يظهر شيء غريب. الفقرة الخاصة بفيديو الأغنية تأتي أولًا، قبل كلمات الأغنية، حتى قبل الاستقبال النقدي والتجاري. ما قد يفسر هذا التغيير بالترتيب المعتاد أن الأغنية المصورة هي واحدة من الأغاني الثلاثة التي أخرجها مايرز وحصلت على جائزة إم تي ڨي لفيديو العام (إلى جانب همبل وفايروورك).
اعتزلت ميسي في ٢٠٠٨ وعادت في ٢٠١٥ بأغنية وير ذاي فرُم، والتي تم الاحتفاء بالفيديو المستقبلي المرافق لها لدرجة فاقت تقريبًا الاحتفاء بالأغنية نفسها. حقق الفيديو ٥٥ مليون مشاهدة على يوتوب وساعد الأغنية على بيع نصف مليون نسخة. بالنسبة لمغنية راب تعود في السادسة والأربعين من اعتزالٍ طويل: ميسي لا تزال في اللعبة، وهي مرشح قوي لكسر قالب الملكة الواحدة. أما مايرز فيملك من قوة الذراعين واستقامة الظهر ما يزوده من طاقة لدفن جيلٍ جديدٍ بعد من مخرجي الأغاني المصورة، والاستمرار في الوقوف مبتسمًا ومراهقًا فوق شواهد قبور مسيراتهم الفنية.