شعبي سوري
عربي جديد

دفاعًا عن اﻷورغ | الموسيقى الشعبية السورية وآلاتها

حسّان علي ۲۱/۱۲/۲۰۱۷

في منتصف التسعينات بدأ يبرز الأورغ في الموسيقى الشعبية السورية، حتى أصبح العنصر الأهم والوسيلة الأساسية فيها. رافق هذا هجوم وازدراء متزايد من قبل النقاد السوريين والعرب على اعتبار أنه يسيء للتراث والفن الأصيل، وأنه آلة صخب وحسب. لكن عند محاولة فهم هذه الآلة والموسيقى الصادرة عنها نجد أن الآراء السابقة تنم بشكل أو آخر إما عن عدم دراية عميقة بطبيعة الموسيقى الشعبية السورية، مثل أنواع الدبكات ومواويل العتابا والميجانا وقوالب الارتجال الغنائي والآلي والبنيات السلّمية المختلفة، أو أنها تستند إلى معايير إشكالية حديثة نسبيًا مثل مفهوم الأصالة في الموسيقى العربية الشرقية، أو على وجهات نظر مسبقة حول هذه الثقافة تتعلق بالطبقية والمناطقية.

بدأ استخدام الأورغ في الموسيقى العربية منذ الستينات، وإن كان على استحياء. في الموسيقى الشعبية في سوريا أخذ وجوده منحًى تطوريًا حادًا لأسباب عدة، منها أن الجانب الغنائي في هذه الموسيقى – خارج قوالب المواويل والعتابا – له هامش صغير مقارنةً بالدور التي تأخذه آلات كالمجوز والشبابة والزمر، آلات لها طابع صوتي عالٍ وحاد إلى حد كبير، يشكل بدوره إحدى أهم جماليات هذه الموسيقى.

ترتبط الدبكة موسيقى ورقصًا بحالة الحماس، وتتمحور حول لحظة دخول الآلات لبناء التصاعد الحماسي بعد انتهاء مقطع الغناء. تسمى هذه اللحظة التشييلة، وهي التي انطلق منها عازفو الأورغ. كان هدفهم إيجاد طبيعة صوتية جديدة لهذه الألحان والجمل الموسيقية ذات الطابع التكراري بما يتناسب مع الجماليات المذكورة سابقًا. يتطلب عمل ذلك بنجاح مهارةً في العزف ومعرفة تقنية للآلة، حيث يجب استخدام السنثات الأولية بالإضافة إلى مؤثرات بسيطة فوقها، تكون فيها موجة صوت الصولو المستخدم ذات هجوم سريع جدًا، يصل إلى ذروته بشكل لحظي. بعد ذلك يجب المحافظة على استمرارية[Mtooltip description=” Sustain” /] مطلقة وإبقاء[Mtooltip description=” Release” /] كبير يستمر ثوان عدّة.

يجدر بالذكر أن أحد أنواع الأورغ الأكثر استخدامًا في فترة التسعينات Ketron، كان فيه مجموعة من أصوات السّنث الأولية، إضافة إلى أصوات آلات شرقية مثل العود والناي والقانون. بدأ الأمر عند استخدام صوت إلكتروني من نوع wave lead مضافًا إليه مجموعة من المؤثرات الصوتية كالصدى[Mtooltip description=” Delay” /] ومؤثرَي الـ Chorus والـ Flanger، فنتج عن هذا صوت جديد ثقيل وممتلىء مثالي لهذه الموسيقى. بعد ذلك بدأت مسيرة العمل على ابتكار وتركيب أصوات جديدة انطلاقًا من تلك الأصوات الإلكترونية البدائية، فأضحى جزء كبير من العمل مسألة تقنية تحاول بشكل أو آخر تسخير العناصر الموجودة مسبقًا في الأورغ لصناعة الأصوات الجديدة. كان هذا التحدي التقني أحد أهم العوامل التي أدت إلى نجاح بعض العازفين دون غيرهم مثل طلال الداعور، عبد الرحيم صالح وأحمد الجراش.

إثر هذه الموجة، عملت شركة كترون الإيطالية على إنشاء نسخة جديدة معدلة من الآلة تحتوي على أساسات صوتية مناسبة للموسيقى الشعبية السورية، حيث أُضيفت أصوات مثل الربابة والشاقول والمجوز والزورنا، مع قابلية التعديل والدمج مع الأصوات والمؤثرات الإلكترونية، ما أدى إلى توسيع مجال التعديل التقني بشكل كبير، وبالتالي أصبح العمل على تركيب الأصوات والإيقاعات مسألة ذات أهمية توازي أهمية الأداء الموسيقي. استمر الأمر بعد إنتاج نسخ أحدث من الشركة نفسها ومن شركات أخرى مثل كورج وياماها.

مثال عن أحد الأصوات الإلكترونية المبكرة في دبكة ولدة لـ نعيم الشيخ:

أية موسيقى شعبية؟

الموسيقى الشعبية السورية التي أتحدث عنها خارجة عن إطار الإنتاج الفني الذي يمر عبر الشركات والمؤسسات. هي مرتبطة بالحفلات والأعراس والأفراح التي تقام باستمرار على امتداد الريف السوري، ولذلك فإن هنالك جمهور كامل من المستمعين والمتابعين الشغوفين بهذه الموسيقى، ليس عبر الحفلات والمناسبات فحسب، وإنما عبر التسجيلات التي يستمعون إليها بشكل منفصل كأي نوع آخر من الموسيقى. يبقى هذا خارج إطار الأغاني المسجلة في الاستوديوهات والتي غالبًا ما تنفّر محبي هذه الموسيقى، فهذه الأغاني الخاضعة لمعايير شركات الإنتاج تفتقر إلى الحرية والعفوية التي نجدها في التسجيلات الشعبية التي أفضل استوديو لها هو غرفة إسمنت خالية من كل شيء سوى بضعة كراسي ومأخذ كهربائي.

هذه الموسيقى مستقلة تمامًا عن السوق التجاري العربي العام، حيث نشأت بشكل عفوي وضمن جمهور شعبي، وهي مستمرة في هذا الطريق رغم إنتاج الشركات بعض المطربين الشعبيين مؤخرًا. لجمهور هذه الموسيقى، فإن الأولوية لا تزال للتسجيلات المحلية، هذه التسجيلات التي تشكل القسم الأهم من حفلات نفس المطربين الذين عملوا مع تلك الشركات، وهذا طبيعي لأن شركة الإنتاج لن ترضى بوجود ربع ساعة من مواويل العتابا قبل بدء الأغنية، ولا بعشرين دقيقة من تشييلة زمر أو مجوز في دبكة عرب.

إحدى أهم الأمور التي نجح بها الأورغ هي نقل ونشر كم هائل من الألحان والأغاني الشعبية بعد أن كانت محصورة ضمن إطار محلي ضيق محدود جغرافيًا ومقتصر على المناسبات الاجتماعية، وبما أن تسجيل عزف الأورغ لا يتطلب أكثر من كبل متصل بالمِكسر، أصبح بالإمكان الحصول على هذه التسجيلات في أي متجر أشرطة موسيقية وفي البسطات والكراجات في الشوارع. طالما هناك حفلات للأعراس والأفراح فهناك أغانٍ وتسجيلات جديدة، وبالتالي انتشرت هذه الألحان والقوالب بين أشخاص ربما لم يكن لديهم اتصال مباشر مع هذه الثقافة، ونتيجة لذلك كان الأورغ محوريًا في تكوين أرشيف ضخم لهذه الموسيقى.

أحد أكبر الأمثلة على هذا العبور وانتشار هذه الموسيقى هو النجاح الكبير الذي حققه عمر سليمان على الصعيد العالمي، حيث انتقلت موسيقاه من ساحة الأفراح في مناطق الجزيرة السورية إلى المسارح والمهرجانات العالمية. أصبح للموسيقيين والمستمعين من كل أنحاء العالم اتصال مع الموسيقى الشعبية السورية، عن طريق عمر سليمان وعازفَي الأورغ اللذَين رافقاه ريزان سعيد وحسن العلو. يمكن اعتبار هذا النجاح – الذي هو محط سخرية واستهجان من قبل العديد من السوريين والعرب – نتيجة طبيعية لمنتج موسيقي مميز ومختلف ذو هوية ثقافية وفنية مستقلة.

استخدام الأورغ لصناعة هذه الموسيقى ليس طبيعيًا فحسب، بل هو فعل تطور وبقاء في آن، إذ إن الأورغ يحافظ على الهوية الثقافية للموسيقى الشعبية بشكل كامل من خلال الألحان والإيقاعات والجمل الموسيقية التي تؤدى نفسها على الزمر والمجوز والربابة والطبل وغيرها من الآلات. أما بالنسبة لاعتبار استخدام الأصوات الإلكترونية بحد ذاته هو المشكلة، فهناك إذًا إشكالية أعمق، وهي خلاف أيديولوجي بين صانعي هذه الموسيقى والموسيقيين الأكاديميين والهواة ممن يدعمون أو يعارضون استخدام هذه الأصوات. لكن الإشكالية تظهر في تقبل البعض لوجود الجيتار الكهربائي وحتى الأورغ نفسه في الموسيقى الطربية فقط لكونها من “قلب الأصالة والتراث”، وعلى صعيد أكبر فهم وتقبل وجود الآلات الإلكترونية في أنماط غربية ورفضها في أنماط شرقية، والتي هي في النهاية تصنيفات عامة جدًا وغير دقيقة، تنبئ في حالة الموسيقى الشعبية السورية عن توترات طبقية ونخبوية أكثر من أي شيء آخر.

الموسيقى الشعبية السورية مستقلة بحد ذاتها، جماليًا وإنتاجيًا، هذا لا يعني عدم وجود نقاط التقاء مع أنماط أخرى، لذلك فإن عازفي ومغنّي وجمهور هذه الموسيقى هم من يحدد معايير وجماليات هذه الموسيقى، ويحق لهم اختيار الأورغ كعنصر جوهري فيها.

المزيـــد علــى معـــازف