.
على الغلاف مروان بابلو من تصوير فوتومترو.
لا أعرف ماذا غنى أمير الغناء العربي في السنوات العشر وربما العشرين الأخيرة، لكنني أعرف أنه منع الكثيرين من الغناء. آخر من منعهم هاني شاكر مجموعة من مطربي المهرجانات، مقابل السماح للرابرز بالعمل تحت مظلة النقابة، مع إشادة خاصة من النقيب بـ ويجز، “خريج الجامعة الأمريكية”، تبعتها إشادة مماثلة من شريف منير، مهاجم فيلم ريش الأبرز. أضحكتني تصريحاتهم أن ويجز شاب محترم ولا يغني كلامًا سيئًا، ولم أستطع تحديد ما إذا كانت تلك التصريحات تنم فقط عن نظرة طبقية لمطربي المهرجانات، أم أن النقيب لم يرد أن يعادي قطاع الشباب إن قرر منع نوعي الغناء الأكثر انتشارًا بينهم مرة واحدة. كأنما يقول لنا ها أنا أفتح لكم بابًا بينما أغلق آخر. ربما يذكي بذلك صراعًا تحت الرماد بين بعض جمهور الراب وبعض جمهور المهرجانات، لتبدو المشكلة وكأنها بين الشباب وبعضهم البعض، لا بينهم وبين أدوات السلطة. الاحتمال الأخير والراجح هو أن كلًا من هاني شاكر وشريف منير ليس لديهما أدنى فكرة عما يدور في مشهد الراب المصري.
استفزتني التصريحات رغم إيجابيتها. لا يفترض أن يكون الراب مرضيًا لمن ينظرون إلى فن الطبقات الدنيا باحتقار ولا لمن يشنون حملة على فيلم بدعوى تشويه صورة البلد، بل يفترض أن يكون مزعجًا لمن يفكر بهذه الطريقة. فكرت في كتابة بوست يجمع ما قاله ويجز وغيره من الرابرز مما يمكن أن يكون صادمًا لحملة لواء شرطة الأخلاق والذوق الفني، غير أني تراجعت لأنه سيضر بهم، وفكرت بدلًا من ذلك في كتابة مقال يشرح حقيقة ما يدور في مشهد الراب لمن لا يتابعه.
إذا كنت شخصًا حينما يرى صور حفلات الراب يتساءل ما الذي يعجب هؤلاء الشباب في ذلك “الصخب المزعج غير المفهوم”، وإذا فهمته لا تجد سوى “استعراضًا فارغًا للعضلات وقلة الأدب”، هذا المقال لأجلك. هذا بالطبع إذا كنت مرنًا بما فيه الكفاية لترغب بفهم ما الذي يعجب هؤلاء الشباب فعلًا، ولم يكن سؤالك فقط لأنك تستكثر عليهم الاستمتاع بأغانٍ وموسيقى غير التي تعجبك.
بدأ الراب أو الهيب هوب عمومًا في أمريكا في السبعينيات في أحياء السود، وكغيره من الفنون كان الراب وسيلة للتعبير والاستمتاع بشكل عام؛ خاصةً أنه بدأ أصلًا في الحفلات، وكان تطويرًا لمهنة الرجل الذي يقف على المسرح ممسكًا بالميكروفون بجوار الدي جاي لإشعال حماس الجمهور. تمامًا مثل نبطشي الأفراح عندنا الذي تطورت مهنته أيضًا ليخرج من عباءتها مطربي الحظ، مثل رضا البحراوي، ومطربي المهرجانات أيضًا.
بجانب ذلك أصبح الراب وسيلة مهمة لمحاربة العنصرية وللتعبير عن رفض ممارسات الشرطة، وعن نمط الحياة في أحياء السود الفقيرة، التي كانت تقوم في الغالب على الانتماء إلى مجموعات / عصابات تحاول فرض سيطرتها على شوارع منطقتها أمام محاولات سيطرة باقي العصابات. كان الرابر واحدًا من هؤلاء، ومن كل منطقة كان يخرج الرابرز الذين يفتخرون بها على باقي العصابات والمناطق.
مع نجاحهم كانوا بطبيعة الحال ينتقلون إلى طبقات اجتماعية ومستويات مادية أعلى، وكان هذا أيضًا مصدرًا للفخر بالنسبة لهم. كان من الممكن أن يوازي هذا النجاح نجاحًا في البيزنس الذي بدأ كعصابة من الشارع. لكن في الوقت الحالي لم يعد هذا سائدًا، إذ استقل الهيب هوب كمجال فني عمومًا، فضلًا عن أنه حين خرج من أمريكا إلى باقي دول العالم لم يعد مرتبطًا بعالم عصابات الشوارع الأمريكية، وإنما اندمج في ثقافات مختلفة، حتى أصبح لكل دولة تقريبًا مشهد الراب أو الراب سين الخاص بها. لكنه في كل ثقافة منهم ارتبط أيضًا بالأحياء الفقيرة ولغة الشوارع وطبقة الحرافيش.
ربما تكون سمعت أحمد مكي قبل أكثر من عشر سنوات وهو يقول إن الراب أصله عربي. رغم أنها كانت محض هبدة منه، إلا أنها كانت لطيفة إن جاز القول، باعتبارها محاولة من مكي لتقريب الراب من الثقافة العربية. بالفعل كانت المبارزات الشعرية العربية القديمة تشبه الراب من عدة أوجه، لكن لا يمكن القول إنها كانت أصله بأي شكل من الأشكال. يمكن فقط أن نقول إن هذا النوع من الفن له شبه في تاريخنا وثقافتنا لا أكثر.
قبل أن أبدأ في شرح معالم مشهد الراب المصري، أحتاج لأن أترجم بعض المصطلحات لأنها تقال كما هي حتى لو كان هناك مصطلحات تعادلها تستخدم مع الأنواع الأخرى، لأن أغاني الراب لها طرق وتكنيكات مختلفة نوعًا ما. على سبيل المثال غالبًا ما يستخدم جمهور الراب كلمة تراك بدلًا من أغنية، ومثلها:
١. ڤِيرس verse: الكوبليه أو المقطع الغنائي بين كل كورَس وآخر.
٢. بار Bar: السطر أو بيت الشعر في أغاني الراب.
٣. بِيت Beat: الإيقاع أو الموسيقى المصاحبة في الراب.
٤. بروديوسر Producer: المنتج الموسيقي أو الموزع.
٥. فلو Flow: اللحن الغنائي وطريقة إلقاء الكلمات والبارات وإيقاع القوافي. يحتاج الفلو عدة مهارات مثل تعدد القوافي وبناء مخطط جيد للقافية scheme ومهارة الإلقاء delivery. من أمثلة ذلك تلاعب أبيوسف بحرف الصاد قبل أن يصل بك إلى قافية البار: “خد وصلك أصلًا إنت وصلت بواسطة يا اسطى ودا باركور.” ستلاحظ أنه استغل حتى تشابه النطق العامي لحرفي السين والصاد في كلمتي واسطة واسطى. من أمثلة تعدد القوافي أيضًا استخدام سانتا لقافيتين داخل كل بار: “سوبر هيرو من غير بدلة، بس إترب من تأثيره / هي معادلة متبادلة، والسنتوت ليه تقديره.”
٦. فيت: اختصار كلمة feature، وهو مثل الدويتو، تعاون بين اثنين أو أكثر من الرابرز.
٧. دِس: اختصار لكلمة disrespect، وهو تراك هجومي على رابر منافس أو أكثر؛ ورغم أن الدسّات لا تعرف الرحمة أو الخطوط الحمراء، إلا أنه ليس شرطًا أن يكون وراءها خصومة حقيقية بينهم، ربما تكون مجرد منافسة فنية ولعبة راب.
٨. بيف Beef: حين يتبادل اثنان – أو أكثر – من الرابرز الدسّات.
٩. باتل Battle: حين تكون المواجهة مباشرة، في الشارع أو على مسرح.
١٠. فري ستايل Freestyle: هو ببساطة فن الارتجال. قد يكون معناه ارتجال الكلام نفسه أثناء تشغيل البيت، وقد يكون الرابر لديه كلمات مؤلفة مسبقًا، ويقوم أحدهم بتشغيل بيت موسيقى يسمعه الرابر لأول مرة ويرتجل الفلو وأداء الكلام لنرى ما إذا كان سيتمكن من ركوب البيت أم سيقع من عليه.
١١. سيركل Circle: تجمُّع الشباب في الشارع لغناء الراب والاستماع إلى بعضهم وتحدي بعضهم البعض فيه.
١٢. إم سي MC وأو جي OG: الأسطوات والمعلمين في هذا الفن يشار إليهم بهذين المصطلحين. إم سي اختصار لـ master of ceremonies، أي سيد الحفلات، وكان هذا في الأساس لقب لأسطوات العاملين في مهنة النبطشي بصورتها الأمريكية، قبل أن يصبح مرتبطًا بالهيب هوب. أما OG فهو اختصار لـ Original gangster، ويعد الأخير مسمًى أقوى أو رتبة أعلى، لأنه صار مرتبطًا بالأقدمية والأهمية والتأثير في مجال الراب. لذلك كان مروان بابلو يقول “الحمد لله، كلها كام سنة وهبقى أو جي.”
١٣. شاوت آوت shoutout: حين يشير رابر إلى رابر آخر في أحد تراكاته بشكل إيجابي، نقول إنه قد أعطاه شاوت آوت أو ريسبكت. مثل شاهين عندما أشار إلى مروان بابلو: “هنروح الجميزة عند مروان”، أما حينما يشير رابر إلى رابر آخر بشكل سلبي فإننا نقول إنه قد “نكشه” بالعامية. لا يوجد مصطلح أمريكي متداول للإشارة السلبية.
من وجهة نظري، أخذ الراب من الرياضة مثلما أخذ من الفن. كما تكون الرياضة منافسة فيها نوع من العنف البدني المقنن، وفي نفس الوقت توفر لجمهورها متنفسًا لتفريغ مشاعر التنافسية وإرضاء غريزة الصراع، وكل ذلك يفترض أن يكون بروح رياضية تجعل المنافسة داخل الملعب او الحلبة فقط، الراب أيضًا منافسة، لكن فنية. في الراب نوع من العنف اللفظي المقنن، المرتبط بتقديم إمتاع فني يوفر لجمهوره متنفسًا لتفريغ مشاعره، لكن داخل التراكات فقط. حينما كان سانتا يدس عفروتو قال له “بالنسبة لي ماتش بوكس، برة الحلبة مفيش ضغينة” والدسات بالفعل أقرب إلى المباريات، الفائز فيها هو من ينتصر على خصمه بتقديم أفضل كتابة وموسيقى وأداء.
قام الراب أصلًا على محاولات أبناء المناطق الفقيرة لتقديم فن يعبر عنهم بلغة الشارع، وقام على مواجهات مباشرة بينهم. في تلك المواجهات تكون المنافسة صريحة والصراع معلنًا، بل وجزءًا من الفن الذي يقدمونه، بخلاف أنواع الأغاني الأخرى سواء كانت طرب أو بوب أو غيره، والتي تكون المنافسة الفنية فيها خلف الكواليس، ولكل مطرب مسار مستقل، وتأثيره في غيره أو تأثره بغيره يكون بشكل غير مباشر. في الراب يصبح النجاح الذي تحققه تراكات وحفلات الرابر مصدرًا للفخر في التراكات التالية، كما أن السخرية من الخصوم وتوجيه الإهانات لهم، سواء في العموم أو لأحدهم على وجه الخصوص، إحدى الوسائل المشروعة للتباري بالكلمات والموسيقى. الراب إذًا رياضة كلامية، ومثل أي فن أو رياضة له مجموعة من الأصول أو المبادئ الأساسية، سأشرحها بمعرفتي البسيطة في عشر نقاط.
أولًا: كلمة Rap نفسها اختصار لـ rhythm and poetry، الإيقاع والشعر، هذان هما عمودي الأساس. لكي تغني راب تحتاج لأن تقول كلامًا موزونًا ومقفًى على إيقاع معين تحاول تحريك الجمهور به. يلخص أبيوسف تلك الفكرة وهو يقول: “لغة ورتم بعمل لوغاريتمات”، وحينما تسمعها من أبيوسف وهو في ذروة أدائه وتنتبه لتشابه النطق بين كلٍّ من “لغة ورتم” و”لوغاريتم”، ستنبهر. هذا ما يسمى في اللغة جناسًا ناقصًا، ويسمى في الراب تلاعبًا لفظيًا أو word play بحسب المصطلح السائد.
ثانيًا: شرط أساسي للرابر أن يكتب لنفسه. هذا الفن فيه اعتزاز بالذات لدرجة أنه لا يصح أن يكتب أحد لآخر ولو أغنية واحدة. بالمناسبة يكون أقل تراك في حدود الـ٤٠ بار أو سطر، وهناك تراكات ربما تتجاوز الـ١٠٠ بار، ومطلوب من الرابر أن يقول كل هذا خلال ثلاث أو أربع دقائق، ولا بد أن يركب البيت دون أن يقع من عليه؛ أي يحافظ على إيقاع أدائه للكلمات بالتوازي مع الموسيقى ويحاول تغيير الفلو كل بضعة بارات. لذا فإن موضوع الشعر والإيقاع في الراب ليس بالسهولة التي قد يبدو عليها، لأنه مختلف عن أنواع الأغاني الأخرى التي لا يكتب المغني لنفسه فيها، وإنما يلجأ لكلمات أي شاعر يريده، كما أنه يقول عددًا أقل بكثير من الجمل في نفس المدة تقريبًا مع إيقاع أكثر هدوءًا وبطئًا فيكون لديه مساحة أكبر للحفاظ على إيقاعه.
في الراب لو لجأ رابر إلى كلمات شخص آخر تكون فضيحة. لذلك مثلًا حينما أراد أبيوسف أن يدس شاهين عايره بأنه لم يكتب كلمات تراك “حديث مع الأنا”. كذلك حينما أراد الخطاف أن يدس إم سي أمين قال له “مانتش مقدس، عندي إلحاد بالمسروق، لو الهيب هوب دين، أنا عندي إيمان بالمكتوب.” كان أمين متهمًا بسرقة كلمات بعض تراكاته، كما أنه قديم ومن الجيل الأول في الراب سين المصري، فالخطاف يقول له ببساطة أنت لست مقدسًا لمجرد أنك قديم، فلو اعتبرنا الهيب هوب دينًا، فأنا ملحد بالكلام المسروق ومؤمن بالمكتوب. هنا مثلًا يوجد وورد بلاي ومعنًى مزدوج لكلمة المكتوب، يقصد بها عندي إيمان بالكلام الذي كتبه الرابر لنفسه ولم يسرقه، ويقصد أيضًا عندي إيمان بالمكتوب والقدر. في نفس الدس أيضًا يقول له الخطاف إنت “إزاي إم سي؟ حرامي الكلمات! إزاي اسمك أمين؟ اللي شفعلك بس انك قديم”. يستكثر عليه لقب إم سي الذي يحمله أمين منذ ١٥ عامًا أو أكثر، بل ويستكثر عليه اسم أمين، لأن الأمر عندهم بالفعل فضيحة تكاد تكون لا تغتفر.
قبل بضعة أسابيع كانت بيري تواجه اتهامات مشابهة، وسرّبت المخرجة مها محمد سكرين شوت ادّعت أنها لبيري وهي تطلب من أحدهم أن يكتب لها. لأن المنافسة صريحة في هذا المجال ليس هناك أسرار فيه تقريبًا، فخصوم اليوم كانوا أصدقاء الأمس. طوال الوقت هناك حركة وديناميكية، وخريطة التحالفات والخصومات تتغير باستمرار، وهو ما يعطي المجال نوعًا من الحيوية والإثارة والمتعة الإضافية.
ثالثًا: الافتخار بالمنطقة تقليد أساسي، لذلك يقول ويجز مثلًا “نتصيت ونصيتوا الجيهة”، أي حين نشتهر ستشتهر معنا منطقتنا. يعلم محبو ويجز أنه من الورديان والمتراس في الإسكندرية، لأنه كثيرًا ما يفتخر بهما. أما مروان بابلو فمن حي الحضرة في الإسكندرية، وتحديدًا من عزبة الجامع، وتحديدًا تحديدًا من “الجمّيزااااا“، وأبيوسف “نجم أبو الفدا، صور وكدا“، ومروان موسى من الاسماعيلية، وليجي سي من طنطا، وعفروتو من السيوف، وسانتا من الزيتون، وأبو الأنوار من مصر الجديدة، وموسكو من الهرم وتحديدًا الطالبية، وعلي ويزي أيضًا من الهرم لكن من شارع سهل حمزة.
رابعًا: الافتخار بالصحاب الجدعان (الشلة أو البفة أو الجانج) مقابل التقليل من شأن الخصم وأصحابه. بالطبع سمعنا من ويجز: “بفتنا تعاشر المظابيط”، ومن أبيوسف: “شلتك آهي يا اسطى راكنة، شلتي زي اليافطة راكبة”، ومروان بابلو أيضًا: “زميلي دي صحابي وما بتقصرش”، ومروان موسى “صحابك صفر ع الشمال، صحابي مية ع اليمين”، وهكذا.
خامسًا: احترام الأقدمية، يحظى القدماء في مجال الراب باحترام خاص باعتبارهم آباءً روحيين أو معلمين للأجيال الأحدث. لذلك مثلًا يقول ويجز “الدنيا ملكي حالًا رافع كابي للقدامى”، أي أنني بعد ما سيطرت على المجال، أرفع قبعتي (أو الكاب الذي يرتديه الرابرز) تحية للقدامى؛ ومروان موسى مثلًا حين أراد أن يفتخر بنفسه ذات مرة وصف نفسه بأنه “أو جي زي بوفلوط”؛ كون عمر بوفلوط من أول الرابرز في مصر لو لم يكن الأول على الإطلاق. يفتخر مروان هنا بنفسه وفي ذات الوقت يعطي الشاوت آوت أو الريسبكت لعمر بوفلوط.
لذلك أيضًا حينما أراد الخطاف أن يدس إم سي أمين قال “هاهين تاريخ رابر قديم للأسف”، لأنه شيء مؤسف عندهم، لكن هذا لا يمنع أن يستخدم الخطاف أقدمية أمين كسلاح ضده ويقول عنه ساخرًا “ممنوع اللمس، لأن الأنتيكة قابل للكسر”. عمومًا، رغم أن احترام الأجيال القديمة مبدأ عام في الراب، لكنه لا يكون مانعًا إطلاقًا من حدوث بيف بين رابر جديد ورابر قديم، لأن الاحترام هنا صفة تنسحب على الجيل القديم بشكل عام لكنها لا تنسحب على كل رابر فيه بشكل خاص. لا يوجد مانع من أن تكون رابرًا جديدًا وتدخل في بيف مع رابر أقدم منك رغم احترامك للجيل القديم، لأن حدوث الخلافات وارد بين أي اثنين. أحيانًا يبدأ الرابر الجديد بالدس على الرابر القديم سعيًا لإثبات ذاته وقدرته على مناطحة القدامى، أو حتى سعيًا للشهرة (لكن الآخر سيستغل هذه النقطة ضده بالتأكيد). كل هذه ألعاب مشروعة داخل مشهد الراب.
سادسًا: كما أن للجيل القديم على الجيل الجديد حق تقديم الاحترام، فإن للجيل الجديد على الجيل القديم حق تقديم الدعم. حينما يكون لك اسمك وشهرتك في المجال فمن واجبك حينها أن تساعد الوجوه الجديدة كي تكون أو جي على حق، وذلك بأن تتبناهم فنيًا وتعلمهم وتنقل لهم خبرتك ومهاراتك، أو بأن تصدر فيتات معهم لتساعدهم على الشهرة. لذلك حينما كان أبيوسف مثلًا يدس شاهين ذكّره بأنه “كان عنده فانز كتيرة، ماقدمش وجوه جديدة، كان آذينا، ففي الآخر عملت أنا واجبك.”
لا يوجد أحد قدم وجوهًا جديدة للراب سين وساعد الرابرز الجدد في بداياتهم بقدر ما فعل أبيوسف، لذلك نجده في تراكات كثيرة يفتخر على الراب سين بجمل من قبيل “دادي دادي دادي دادي، كل اللي بيرابوا دول ولادي” أو يصفهم بأنهم “طلعوا على كتافي ترابيس“. تتغير خريطة التحالفات والخصومات في الراب سين باستمرار، لذا فإن معظم الذين ساعدهم أبيوسف في بداياتهم نشأت بينه وبينهم مشاكل وبيفات فيما بعد، لذلك تجده أيضًا في تراكات كثيرة يهاجم أولئك الذين “ع الكتف دا ياما مالوا / أول ما العين جت عليهم خانوا / في الضهر قالوا وقالوا وقالوا / عض اللي مديتهاله عايز التانية على دماغه / طب وماله!” لكن مثلما يستغل أبيوسف هذه النقطة لصالحه، من الممكن أن يستغلها خصومه ضده.
الجوكر مثلًا وهو يدس أبيوسف قال عنه “لو نضيف كانوا العيال خدوه أما عدوا”، بمعنى أن كل هؤلاء الذين ساعدتهم ثم انقلبوا عليك بالتأكيد رأوا فيك مشكلة ما، فلا يعقل – من وجهة نظر الجوكر – أن تكون المشكلة في كل هؤلاء وإنما بالتأكيد في أبيوسف. عفروتو أيضًا حين كان يدس أبيوسف اتهمه بأنه يتعمد إظهار مساعدة الرابرز في بداية مشوارهم “علشان لما نبقى فوق يقولك طلّعت الشباب”.
سابعًا: البروديوسر شريك أساسي في التراك مثله مثل الرابر. في الأنواع الأخرى أنت كمستمع نادرًا ما تعرف اسم الموزع أو المؤلف الموسيقي، المغني هو نجم الأغنية الوحيد، أما باقي صناعها سواء الكاتب أو الملحن أو الموزع أو الفرقة الموسيقية يكون نصيبهم من الشهرة أقل بكثير من نصيب المغني. في الراب الأغنية يصنعها شخصان فقط في الغالب، الرابر والبروديوسر، وفي الغالب يُكتب اسم البروديوسر على التراك مع اسم الرابر.
من تقاليد الراب أن يعطي الرابر التحية للبروديوسر في التراك. يحفظ كل جمهور الراب جملًا مثل “مولوتوف على الإنتاج” و “ويجز جَيّ طول ما توتّي حي” و “ليل بابا على البِيت”. مولوتوف وتوتّي وليل بابا أسماء البروديوسرز للتراكات التي قيلت فيها تلك الجمل، وبالمناسبة العديد من الرابرز يصنعون لنفسهم موسيقى وبيتات تراكاتهم، وفي هذه الحالة يكون الرابر وحده من صنع التراك من الألف إلى الياء.
ثامنًا: ثقافة الهيب هوب لها ٩ عناصر، أشهرها الراب بالطبع. تشمل باقي العناصر البريك دانس ورسم الجرافيتي والدي جاي والبِيت بوكس وأشياء أخرى مرتبطة بثقافة الشارع. لذلك مثلًا كان مروان بابلو – لأنه يصنع موسيقى ويرسم أحيانًا – يقول عن نفسه “مزيكا ورسم وراب، مبروك عليا لقب فنان” يقصد أنه أصبح فنان هيب هوب شامل.
تاسعًا: استخدام لغة الشارع عنصر أساسي للغاية. هناك أربعة من التسعة عناصر الخاصة بثقافة الهيب هوب مرتبطة أصلًا بثقافة الشارع ولغة الشارع، لأن الراب فن يعبر عن هذه الفئة من الحرافيش ومشاكلهم اليومية وصراعاتهم ولابد أن يظل كذلك وإلا فقد روحه. لن يناسب الجمهور الذي يريد أن يستمع إلى “راب راقي” سماع الراب أصلًا، سيجد ضالته في أنواع أخرى من الأغاني، لكن هذا يدمر فكرة الراب ويفرغه من روحه بالفعل، لأن الراب فن شارع.
يقول ويجز: “بصوتي بعمل فن شارع، انت بتعمل مش سامع”، ويقول أبيوسف “بسمع مزيكتي في الشارع زي الربابة”، بينما مروان بابلو يوجه تحذيرًا للدخلاء “نفسك تبقى منّا، في الشارع تمشي وسطينا؟ ما تعشمش نفسك، هتتعلق زي الزينة”، وهذا المبدأ يدفع بعض جمهور الراب للقول حتى بأن الرابر لا بد أن يكون من طبقة فقيرة. لكن في الواقع هناك من أثبتوا أنهم يمكن أن يكونوا من طبقات أعلى ورابرز مبدعين ومن الدرجة الأولى، بشرط أن يكونوا قادرين على استخدام لغة ومفردات الشارع بكفاءة تجعلهم قادرين على منافسة باقي الرابرز، وأبرز الأمثلة على ذلك مروان موسى. بالطبع ليس المقصود استخدام لغة الشارع لمجرد الردح والشتيمة، لأن الأصل كما قلنا هو الكتابة الشعرية والإيقاع واستخدام تكنيكات فنية في الكتابة مثل تعدد القوافي والتلاعب اللفظي والمعاني المزدوجة، وطبعا البانش لاين punch line؛ وهو البار الذي يتضمن سخرية لاذعة وإهانة بالغة للخصم، وربما يتضمن معلومة محرجة عنه، وبالبلدي هو “قصف الجبهة”.
يجب الأخذ في عين الاعتبار أنه لو كان الرابر من أصل غني فستظل هذه نقطة ضعف على هامش المشهد مهما كان قويًا. قال أبيوسف مثلًا حينما دس مروان موسى: “انت بتطلع دبي على حساب الفاميلي، بابي بليز أصور كليب عشان اسِدّ مع بابلو.” أيضًا هناك رابر سعودي اسمه اليونج كان يسخر من أحدهم قائلًا “بفلوس البابا انت صاير boss.”
عاشرًا: الترقي الطبقي هدف مشروع للغاية بل ومصدر فخر بالنسبة للرابر. لا يوجد هنا ادعاء للزهد أو ترفع عن الماديات، وذلك أيضًا على الأغلب لارتباط الراب منذ نشأته بمناطق فقيرة وشباب يكافح من أسفل السلم الاجتماعي في معركة طاحنة مع الفقر. لذلك يقولون بكل صراحة نحن نصنع هذا الفن ونتعب فيه لنكسب منه أكبر قدر من الأموال ونقب على وش الدنيا.
مروان بابلو مثلًا له تراك بعنوان بواكيز يقول فيه “مش هستناكي، دماغي مفيهاش غير البواكي” وفي تراك آخر يقول “زمان كنا نلعب ع الأساتك، حاليًا بجيب البواكي وأستكها”. بينما ويجز يقول في تراك هصلا “لما تفتح معايا تقول أرنب مافهمش الباكو” (ربما كان يقصد المزايدة على بابلو)، وفي تراك آخر يقول إنه جنى أموالًا كثيرة لدرجة أنه “مش قادر أقفل الخزنة، هاتهم معايا في الشنطة”، وفي تراك الزار يقول “نفحت في الصخر، ونربي عيالنا في العز”. هذا المعنى نفسه عبّر عنه أرسينِك أيضًا في تراك الشيء حينما قال “لأني ماجيتش من عيلة غنية، العيلة الغنية هتيجي مني أنا”. وأبيوسف يقول “باعملها for cash مش for fun” ويقول أيضًا “شايف البنك مسدس، عشان بافضي الخزنة” وهنا تجد معنًى مزدوجًا للخزنة، يقصد أنه يفرغ خزنة البنك في جيبه، ويفرغ خزنة المسدس على أخصامه.
لكن مروان بابلو مثلًا يخوض صراعًا مع نفسه بخصوص تلك الفكرة في تراك جيب فلوس، فيشتكي من ناس تطلب منه طول الوقت أن “يجيب فلوس”، حتى شيخه وشيطانه يطلبون منه الفلوس، ويصف حاله قائلًا “أنا هنا محبوس أنا هنا محدوف، في خانة فاضية اتحطتلي شروط”، ويواصل الشكوى من أن “محدش مهتم بإيه الظروف، محدش مهتم بإيه في القلوب”، فبالتالي هو “جاي وماشي مفيش انتماء، مش حاسس بالذنب مفيش اتهام.”
بالمناسبة ليست كل مواضيع الراب عن الفخر والصحاب والجيهة والاشتباك مع الخصوم والغدارين والحديث عن النجاح والترقي الطبقي وحالة المنافسة، وإن كانت هي الأشهر بالطبع، لكن هذا لا ينفي وجود تراكات تتحدث عن العلاقات العاطفية أيضًا. مثل تراك سيري لشاهين، أو مثل ألبوم حبك برص لأبيوسف، والأكثر من التراكات العاطفية هي التراكات التي يمكن أن نصفها بالتراكات الذاتية، التي يتحدث فيها الرابر عن مشاكله وصراعاته الداخلية التي يمر بها مع نفسه أو في حياته الشخصية.
يمكننا أصلًا أن نضع التراكات العاطفية تحت هذا النوع من التراكات، أو تحديدًا التراكات العاطفية الخاصة بمرحلة ما بعد انتهاء العلاقة، ومن أشهر تراكات هذا النوع تراك سكرتي لويجز، وتراك فين الدوا لأبيوسف. كما أن لدينا رابر معروف بهذا النوع تحديدًا من التراكات ويكاد يكون متخصصًا فيها، وهو ليجي سي، ومن أشهر تراكاته مفيش مانع وثرثرة.
باعتباري أحد جمهور هذا الفن يمكنني القول إن هذه هي العقلية التي نفهم بها ونتفاعل بها مع أغاني الراب، فإذا أردت أن تفهم ماذا وراء هذا الخبط والرزع وقلة الأدب مما يمكن أن يعجب أي شخص، فببساطة لأن هذا النوع من الأغاني لا يقدم لجمهوره فقط إيقاعًا وموسيقى راقصة تحرك أجسادهم، وإنما لأنهم يجدون فيه أيضًا تسلية مثل الألعاب، أكشن مثل الأفلام، دراما مثل الحياة، وتفريغ عنف مثل الرياضة.