دولة التلاوة بين قراء مشهورين وقارئات مجهولات

إذا أدرت مؤشر الراديو ناحية إذاعة القرآن الكريم ستجد القرآن يتلى آناء الليل وأطراف النهار بصوت رجالي من دون تواجد نسائي، ما يدفعك للتساؤل عن سبب غياب المرأة عن دولة التلاوة، وهل كان لها وجود بين قراء آخر كتاب سماوي.

في هذا المقال، سنستند إلى كتاب «ألحان السماء» للراحل محمود السعدني، الذي أصدره، عام 1959، متحدثًا خلاله عن فن قراءة القرآن الكريم، في 134 صفحة للحديث عن القارئات المصريّات: تاريخهن، وأبرزهن، وأسباب اختفائهن.

يقول «السعدني» أنّه «بموت السيدة نبوية النحاس العام 1973، انطوت صفحة رائعة من كتاب فن التلاوة والإنشاد الديني في العصر الحديث»، كاشفًا أنّها «آخر سيدة مصرية ترتل القرآن الكريم في الاحتفالات العامة وفي المناسبات الدينية وفي المآتم والأفراح وكان الاستماع إليها مقصورًا على السيدات». لافتاً في فصل «من الشيخة أم محمد إلى الشيخة كريمة العدلية»، إلى أن السيدة نبوية كانت واحدة من 3 سيدات اشتهرن بتلاوة القرآن الكريم ومعها السيدة كريمة العدلية والسيدة منيرة عبده.

تاريخ المقرئات في مصر

ويرجع انتشار قارئات القرآن في مصر بحسب السعدني إلى تقاليد الأسرة المصريّة. فمن بداية القرن العشرين، كانت تقاليد المآتم تقتضي بإقامة ثلاثة أيّام للرجال ومثلها للنساء، وكان لا بد من تواجد مقرئات لإحياء ليالي المآتم لدى السيّدات. مشيراً إلى أن أولئك المقرئات ينحدرن من مهن النياحة أو المعدّداتكما كان يطلق عليهن.

بعد ذلك، انتشرت أصوات المقرئات خارج المآتم أيضاً، وقرأت مقرئات مثل كريمة العدلية القرآن عبر الإذاعة المصريّة إلى جانب مقرئات أخريات قبل أن يتم إخماد أصواتهن. ففي عهد محمد علي، أحيت الشيخة أم محمد ليالٍ في قصور مسؤولي الدولة. لتشتهر بعدها الشيخة منيرة عبده التي كانت تتقاضى، بحسب السعدني، 5 جنيهات، في حين كان يتقاضى الشيخ محمد رفعت 10 جنيهات.

مستذكرين أن المقرئات وجدن أصواتهن إلى جانب أصوات بارزة أسّست لجيل مقرئين يستمر صداه إلى الآن، مثل مصطفى إسماعيل ومحمد رفعت وعبد الفتاح الشعشاعي ومحمد علي البنّا.

وكما يقول سامح فايز في مقاله بجريدة التحرير: “نحن نتحدث عن فترة زمنيّة كانت المرأة في حد ذاتها عورة وليس صوتها فقط. ففي تلك الآونة ذاتها تقريبا ظهر كتاب تحرير المرأةلصاحبه قاسم أمين، الذي كان يتحدث في فصوله عن حق المرأة في كسر حجاب البيت، وليس خلع خمار الرأس، كان يطالب بحقها في أن تذهب إلى التعليم وإلى العمل. لكن قاسم أمين نفسه لم يجرؤ على أن يشطح بخياله أبعد من ذلك، حيث برر طلبه في كتابه تحرير المرأة أن المرأة يجب أن تحصل على العلم الذى يكفل لها الأمان إن مات عنها زوجها حتى تتمكن من الخروج إلى سوق العمل وتسير البيت في غياب الرجل، وليس كما يظن البعض أن قاسم أمين طالب بأن تخلع عنها خمارها، قاسم أمين نفسه له كتاب يدافع فيه عن الشعائر الإسلاميّة كان يرد فيه على مستشرق فرنسي هاجم خمار المرأة وبعض شعائر الإسلام“.

الدعوات لإعادة إحياء تقليد المقرئات

دعا نقيب القراء الشيخ أبو العنين شعيشع، بحسب هيثم أبو زيد، إلى عودة الأصوات النسائيّة التي تتلو القرآن إلى الإذاعة، مذكّراً أن مصر عرفت قارئات القرآن من سنوات طويلة مضت، وأن الإذاعة المصريّة عرفت عدداً من القارئات المعتمدات المجيدات، وأن نقابة القراء التى يرأسها منحت مؤخراً ترخيص القراءة لعدد من الأصوات النسائيّة بعد اختبارات دقيقة من قبل عدد من كبار العلماء.

لكن أبو زيد يرصد تعرّض شعيشع للنقد باعتباره دعا إلى حرام، ونادى إلى منكر، وكأن مصر في النصف الأول من القرن العشرين لم تكن تعرف دينها ولا تحترم إسلامها، عندما عرفت قارئات مشهورات أمثال الشيخة كريمة العدليّة، ونبوية النحاس، ومنيرة عبده، وسكينة حسن التى أحتفظ لها بتسجيل نادر تقرأ فيه من سورة طه بصوتها الجميل، أو الشيخة مبروكة التى اكتشفت لها تسجيلاً عمره مئة عام بالتمام والكمال، تقرأ فيه أول سورة الإسراء بصوتها الجهوري الممتلئ“.

لكن الشيخ أبو العينين شعيشع يؤكّد، في تقرير نشر سابقاً، أنه لن يهدأ له بال حتى تعاد المرأة كقارئة للقرآن الكريم بالإذاعة، للعودة إلى العصر الذهبي للأصوات النسائية التي تجيد تلاوة القرآن، مثلما كان موجوداً قبل أكثر من 50 عاماً. ولهذا تم اعتماد 30 قارئة في المرحلة الأولى بعد الإعلان عن مسابقة لقبول قارئات جديدات. وتقدمت كثيرات للاختبارات من مختلف المناطق والمؤهلات الدراسية، حتى إن كثيرات منهن لسن أزهريات ونجحن بتفوق. وستعقب ذلك مراحل أخرى لوجود أصوات جميلة تستحق الاستماع، وهي بالفعل ثراء لعشاق القرآن. وفي الوقت نفسه رفضت لجنة القبول المئات لعدم اجتيازهن الاختبارات التي أشرف عليها وشارك فيها مشاهير القراء.

وتعجب الشيخ شعيشع في التقرير ممن يرفضون عمل المرأة كقارئة قائلاً: “هذه ردة فكرية، فقد كانت هناك قارئات شهيرات يقرأن القرآن بالإذاعة، وبين العامة والحكام على وجه سواء. والغريب أن يتم هذا في وقت كان محرّماً على المرأة التعليم والعمل، وبرزت من الأصوات النسائية الطيبة التي تجيد تلاوة القرآن الكريم بالإذاعة أمثال الشيخة منيرة عبده التي بدأت القراءة وعمرها 18عاماً، وكانت لها جماهيرية في العالم العربي لحسن أدائها. وكان أجرها قريباً من أجر مشاهير القراء آنذاك، وكذلك الشيخة كريمة العدلية التي لها بعض التسجيلات في الإذاعة، ولكنني لا أعرف سبباً مقنعاً لعدم إذاعتها، رغم أنها كانت ذائعة الصيت مع زوجها الشيخ على محمود الذي كان أيضاً أستاذاً للموسيقى العربية، علماً أنهن كانتا مكفوفات البصر. وسبقتهما الشيخة «أم محمد» التي كانت أشهر القارئات في عهد محمد علي، بل إنها كانت مقربة منه وتقرأ في المناسبات، مثل إحياء ليالي رمضان، والشيخة نبوية النحاس ذات الصوت القوي، وغيرهن من المقرئات اللواتي ظهرن في الإذاعة المصرية إلا أنه تم منعهن بسبب الفتاوى المتشددة بأن صوت المرأة عورة عقب الحرب العالمية الثانية، مما أدى إلى ذعر المسؤولين عن الإذاعة فتوقفوا عن إذاعتها“.

مقرئات السعدني

كريمة العدلية

يشير السعدني إلى أن كريمة العدليّة ذاع صيتها بداية القرن العشرين من خلال الإذاعة المصريّة. كاشفاً عن قصّة الحب التي جمعتها بالشيخ علي محمود. ملمحاً إلى قصّة حب أفلاطونيّة ينصت فيها كلاهما إلى الآخر وهو ينشد أو يقرأ بصمت. إذ حرصت كريمة على أداء صلاة الفجر في مسجد الحسين لتتمكّن من الاستماع إلى محمود وهو يرفع الأذان. بينما حرص الأخير بدوره على الاستماع إليها وهي تنشد المدائح النبويّة وتقرأ القرآن.

أم محمد

بحسب السعدني، ظهرت أم محمد في عصر محمد علي، وكان من عادتها إحياء ليالي شهر رمضان الكريم في حرملك الوالي، كما كانت تقوم بإحياء ليالي المآتم في قصور قادة الجيش وكبار رجال الدولة. كانت أم محمد كانت موضع إعجاب الباشا محمد علي، وحصلت على العديد من الجوائز والهدايا، وأمر محمد علي بسفرها إلى إسطنبول لإحياء ليالي شهر رمضان المعظم في حرملك السلطانة، وماتت الشيخة أم محمد قبل هزيمة محمد علي ومرضه، ودفنت في مقبرة أنشئت لها خصيصًا في الإمام الشافعي، وجرت مراسم تشييع الجنازة في احتفال عظيم.

منيرة عبده

بدأت منيرة بالاشتهار في العام 1920 حين كانت تبلغ 18 عاماً. حتّى أن السعدني يسرد قصّة أحد أثرياء تونس الذي عرض عليها إحياء ليالي رمضان في قصره بصفاقس بأجر 1000 جنيه في العام 1925. لكنها منيرة رفضت ليضطّر للحضور إلى القاهرة لسماع ترتيلها طيلة الشهر.

ومع إطلاق الإذاعة المصرية العام 1934، انضمّت منيرة إلى زملائها القرّاء، قبل أن تظهر فتوى كبار المشايخ في نفس العام بعدم جواز قراءة المرأة للقرآن علناً.

تنشر هذه المادّة بالتعاون مع راديو مصرفون الذي وفّر المواد السمعيّة

http://misrfone.org/