.
يبدو جليًّا أن الفلسفة هي حقًا أغنية بلا صوت، تمامًا كما هو الأمر بالنسبة لحركة الموسيقى.
– دولوز
عن صواب أو عن خطأ، وُصِفَ دولوز على أنّه متكبّر في ما يتّصل بذوقه المترفّع في الموسيقى، الفن والأدب. غالبًا، صوّر دولوز ما هو رائج شعبيًّا بإعتباره الآخر غير المرغوب به، أو حتّى أسوأ، بإعتباره آلة مجانَسةٍ ضخمة تنتزع الفن من موضعه وتحرمه قيمته في المجتمع المعاصر (1). في هذا المنظور، على الأقل، يبدو دولوز شبيهًا جدًا بأدورنو، حداثيًا بالتمام والكمال.
ومع ذلك، أعتقد أن أعمال دولوز، بالرغم من ذوقه الشخصيّ، يمكن أن تفسَّر بالأحداث المميزة لظاهرة الثقافة الشعبية إن استطعنا فكّ نصوص وممارسات الثقافة الشعبيّة [pop cultural]، عن المصفوفة غير المتبلورة للرأسماليّة. يعرّف دولوز [هذه النصوص] ويتعامل معها بالمنظور عينه وبالإنفعال نفسه الّذي تعامل به مع كتابات كافكا، على سبيل المثال. قد يقود ذلك الأمر إلى إكتشاف وربط شكل من الإبداعيّة الفريدة بالثقافة الجماهيريّة.
بدلاً من مغايرة الفن والثقافة الشعبيّة وتكرار إجراء [تقليدي]، عُرِفَ عن دولوز بأنه قد نفرَ منه، كانت الحاجة لإيجاد طريق من أجل تجنّبٍ تام لقسيمات كهذه، وهو أمرٌ جعله دولوز شغله الشاغل. كان التجريد طريقه في الخروج من الديالكتيك، أو إكتشاف فنّية artistry أي نصّ. هذا بشكلٍ خاص ضروريّ في حالة الموسيقى الشعبية، لانها بالنسبة للكثيرين ليست سوى تمرين ضخم على تحصيل الأموال، وبالتالي مُفرَغة كلّيا من القيمة الجمالية (2). بكلامٍ آخر، تقف حاجزًا أمام ضرورة التجريد.
وبينما يبدو صحيحًا أن كافكا لم يقصد يومًا نشر أعماله، ويمكن بحقّ القول أنه كتبها من أجل نفسه لا لغاية الربح، إلاّ أنّ الصحيح أيضًا أن كافكا ألّف وهو في وسطٍ رأسمالي. لم يستطع كافكا تجنّب التفكير بالرأسماليّة، مهما حاول ذلك. الإدّعاء الأهمّ في مجمل عمل دولوز وغواتاري حول كافكا ينصّ على أن هذا الأخير كان، في الجوهر، معارضًا للرأسماليّة من خلال أسلوبه في الكتابة (3). ما يُصار إليه ، وهو ما لا يمكنني إلاّ أن أجدّه ملفتًا للنظر، ربط كتابات كافكا بتلك الإشارةٍ، أعني رفضه للنشر؛ وهو ملفت للنظر لأنه يشوّه تعقّد complexity استجابة كافكا لبيئته بطريقة مضادّة لمزاج فكر دولوز.
بدايةً، فإنّه [أي فكر دولوز] يجعل من الفنانين كلّ شيءٍ سوى أنّهم ممانعون أمام تقلبات الحياة اليوميّة في معناها الاجتماعي– التاريخي، كما لو أمكن القول، أن كافكا لم يكتب فقط لنفسه، ولكنه عمل أيضًا من داخل نفسه؛ هذا الأمر، بدوره، يتيح لدولوز وغواتاري أن يتابعا المؤشرات الديناميّة– النفسية في كتابات كافكا بذات الشهيّة والمرونة التأويليّة التي استمتع فرويد بها (والّذي قرّعاه). في نهاية المطاف، يطرح هذا الاستئصال توكيدًا كبيرًا على مدلولات الرأسماليّة وليس بما فيه الكفاية على العلاقة بين الكاتب وعالمه.
ولا أظنّ أن دولوز يسلّم بأن وسائل هروب كافكا من قبضة الرأسماليّة تبقى متاحةً لأيٍ كان، وهي متاحةً أقل بكثير لأنصار الموسيقى الشعبيّة Pop music من المراهقين، وهذا ما يجعل من الرأسماليّة وحشًا من القدرات والأحجام الضخمة. ويصبح ذلك الأمر واضحًا، حين يرفع دولوز من قيمة الإبداع الغرائبي لمنتجي الثقافة الصغرى مثل بيكيت، ميسيان Messiaen [مؤلف موسيقى فرنسي شهير] وكلي Klee [رسّام سويسريّ]، وهم من يمتلك قيمةً فعليّة بفضل خطوط الهروب أو الفرار التي استحضروها، بالمقارنة مع الامتثاليّة الغبيّة الّتي ينسبها دولوز إلى منتجيّ الجماهير، أو الموضوعات الثقافيّة الضخمة كالفيديوهات الجماهيريّة، والّذين يكمن فشلهم الرئيسي بالتحديد في أنّهم يأخذوننا إلى حيث لا يوجد شيء بالرغم من وعودهم. إن الأغلبية بالنسبة إلى دولوز هي كل نموذج عليك أن تتماثل [تتطابق] معه، وبالتالي فهو لا أحد وكلّ أحد، وهو هذا التأثير الشاحب الذي يتوجب على الفن مقاومته. (4)
إن الثقافة الشعبيّة [ثقافة البوب]، وبقدر ما تغري، تقودُ أو بشكلٍ آخر تؤدّي إلى الامتثال والتكيّف، ولا تستطيع كما هو بيّنٌ أن تفي بالوعود الجوهرية للفن وتحررنا من تلاعبات السوق المتجانسة. بكلمة أخرى، لا يمكنها أن تقود إلى الجديد، بالمعنى الحداثوي للعبارة. وعلى الرّغم من تقديره المنخفض لما هو شعبي ورائج، يقدّم دولوز العديد من الأدوات النقديّة الناجعة لتحليله، وهذا ما سأحاول أن أظهره عبر مناقشة الموسيقى الشعبيّة.
يكمن تأثيرُ الموسيقى، أو أي قطعة فنيّة، في ما تحرّكه لدى مستمعٍ محدد. وسبق ورأينا أن بالنسبة لدولوز يكون الامتثال أثرَ [الموسيقى] الشعبيّة، بينما الهروب هو أثرُ كل ما هو ليس شعبيًا non-pop. ما أريد الاعتراض عليه هو ما يتم معه تشفير coded القيمة السلبيّة الامتثاليّة. إن الامتياز الممنوح للأصالة هو بلا شك أقوى وبطرقٍ أخرى (من وجهة نظر الثقافة الشعبيّة على الأقل) أخبث وجوه تراث الحداثة وهو في قلب ما تقوله هذه عن التأثير الاجتماعي للفن. وإن هذا الامتياز الممنوح لما هو أصيل هو في الوقت عينه آيديولوجي ومنهجي methodological، وبالرغم من أن الاثنتين [الآيديولوجيا والمنهجيّة] تدعمان بعضهما البعض، إلاّ انّ خيطيّ هذه الشبكة المحددة يمكن لهما أن يُقطَعا.
في هذا القرن [القرن الماضي] وحده، تمّ تقدير قيمة الجديد أو المختلف عبر الحداثيين والماركسيين على حدٍّ سواء على أساس واقعة أنّه يوضّح أن شكّل المجتمع الحاضر يرجع إلى تغيّرات تاريخية، ليست طبيعيّة أو تعود إلى قوى لا يمكن تجنّبها، ويمكن له دومًا أن يتغيّر إلى حدٍّ بعيد، وربما نحو الأفضل. كلا المدرستين اعتبرتا أن الجديد يخضع لتهديد مستمرٍ من الاحتواء من قبل النظام الرأسمالي، ويمكن بسهولة تقدير هذا الخوف حين نأخذ بعين الإعتبار مركزيّة الندرة في نظام التبادل، ولكن لا يمكننا ألاّ نرى أن ابتلاعًا كهذا يمكن له أن يكون في الواقع إيجابيًا أكثر مما هو ضار. حتّى أن ابتلاعًا كهذا ليس فقط لا يمكن تجنّبه، ولكنه أمرًا مرغوب فيه بقدر ما تفرض ذلك التغيرات المتراكمة. أريدُ أن أحاجج أن الامتثاليّة الجوانيّة للموسيقى الشعبية لهي أثرٌ من جدّيتها، وأن هذه الجِدّة newness لها جانبًا إثباتيًا تكافىء خط الهروب.
بالعودة إلى ثمانينيّات [القرن الماضي]، أكانت فقاعة الموسيقى الشعبيّة في ذلك العصر، والتي بدت، يومها والآن، وكأنّها تخط طريقها عبر التغيّرات في نمط تصفيف الشعر كما في الابتكار الموسيقي، أكانت فعلاً جديدة؟ نعم، يمكنني القول، على مستوى المفعول، كثيرها كان جديدًا. والآن، بالطبع، تبدو غير ملائمة وفجّة، ومتخلّفة تكنولوجيًا وثقافيًا، على حدٍّ سواء، ولكن حينها كانت وليدة لحظتها. وبالفعل، فإن موسيقى العصر انتجت اللحظة باعتبارها لحظةً عبر منحها صوتًا خاصًا، يرافقها مزاجٌ أو طريقةٌ في ارتداء الثياب والشراء.
هل من جديدٍ يختلفُ بين ثقافةٍ شعبيّة وتلك العليا [النخبويّة]؟ بحكم التعريف، للجديدِ أسبقيةٌ على كلّ شيء. وإلاّ فإنه لن يصدمنا، ولن يكون جديدًا أو مختلفًا كفايةً يجعلنا، في الواقع، نلتّف وندور إن كان بكل بساطةٍ مغالاةً، أو حتّى سخريةً [ابتذالاً]، لما هو موجود مسبقًا. إن الجديد يثيرنا لأنه يربكُ حواسنا، أي أنّه يفتّتنا من دون أن نمتلك المَلَكَة المناسبة كي نقبض عليه. هذه هي بالطبع حجة كانط، أن الجديد سامٍ، ولكنها حجّة قبْلية تستند إلى الأثرِ. وإن تعريف كانط للفن لا يمكنه بحد ذاته أن يفسّر متعة الدوار [الدوخة] أو إثارة المُبهَم، التي يمنحها السموُّ؛ ولا يمكنه أن يشرح الحنينَ الّذي نشعر به حين ينتهي [هذا السموّ]. وماذا عن الجديد الّذي يقبضُ على انتباهنا؟ الواضح للعيان، انه إختلافه [اختلاف الجديد]، ولكن ذلك لا يفسّر لنا إغرائه وجاذبيته. أقترح تعزيزَ الاعتراف بالاختلاف.
إن إغراء الجديد، كما أتصوّره، عليه أن يكون ذلك الذي لا يمكن للقديم أن يحققه. هذا الجديد بالتالي، ليس هو المختلِف فحسب، بل ذلك الّذي يجعل من الاختلافِ ممكنًا، وهو تلك القوة التي لا يمكن ان تتحقق إلاّ في علاقةٍ بين موضوعٍ وذاتٍ هي أسٌ هذا الإغراء. إن صحّة هذا التأمّل ترِدُ من واقع ان ليس كل ما تصنّفه مؤخرًا تقطيعات الأقراص المدمجة CD على أنّه جديد، ولو أنّه دائمًا مختلفًا (حتى لو كان نسخةً طبق الاصل)، وأن أي قدر من البرمجة لا يمكنه أن يضمن استقبالاً [إدراكًا] مؤاتيًا. إن قوة الجديد تنبع من حقيقة مقدرته على تأسيس الاختلاف في حقلٍ يبدو ثابتًا، ومتجانسًا. والجديد قادرٌ على ذلك لأنه يخلق الصيرورة في الحركةِ، بمعنى آخر يمكن القول أن الجديد لا يُكتسَب عبر بعض طرق الاستهلاك الصريحة، بل غالبًا ما يتمّ تفعليه.
ليس الجديد “مجرّد المختلف“، ولكنه الّذي يصنع الاختلاف differenciating. إنّه ما يجعل الاختلاف متميّزًا كما التعددية ممكنة. بمعنى آخر، هو ليس الظاهر [phenomenon]، بل بالأحرى هو النومين [الشيء في ذاته– noumenon] الأقرب إلى الظاهر (5). ما هو ذو دلالةٍ بالنسبة لهذا الأفهوم، على ما افترض، هي الأهمية التي يضعها على التكرار، بالنسبة للموسيقى الشعبيّة – وما يرافقها بها من حنين nostalgia – والتي تتشكّل عبر هذا التكرار. في كلّ حالةٍ، يحاجج دولوز أن التكرار هو قوّة الاختلاف وما يصنع الاختلاف: ذلك لأنه يكثّف الفرادات singularities، أو لأنه يسرّع أو يبطّىء الوقت، أو لأنّه يغيّر الفضاء space. ولنضع نصب عيننا الفهم الدولوزي الصارم للتكرار، السؤال الذي يحتاج الى الانكباب عليه هو بالطبع: هل أن التكرار الّذي يلاقي الموسيقى الشعبيّة أصيلٌ أو لا؟
ما أريد أن أبيّنه الآن، برغم ذلك، مسبوقًا بجوابٍ عن هذا السؤال، هو ان الموسيقى الشعبيّة هي لازمة refrain. كمثل تكّة الساعة، فإن اللازمة تتكوّن من ثلاثة وظائف: فهي تواسينا عبر توفير رسم تقريبيّ من التهدئة والاستقرار: ساكنٌ ومستقرٌ، في قلبِ الفوضى (6). إنها أغنية الطفل الضائع، الخائف من العتمة، والّذي يغنّي كي يجد درب بيته. إنّ النغمة أيضًا تخلقَ البيت الحميم الّذي نعود اليه حين يزداد اقتحامنا للعالم إرهاقًا. إن البيت لهو نتاجُ ايماءةٍ خاصةٍ جدًا: على المرء أن يرسم دائرةً حول ذلك المحور الهشّ والغامض الّذي يعتاد المرء على تسميته بالبيت، وذلك من أجل تعيين حدوده.
بإمكان ربّة منزلٍ أن تغنّي لنفسها وهي تغسل الصحون، أو ربما تستمع الى صوت الراديو يطلع من الخلفيّة، وبهذا الفعل تبني جدارًا من الصوت حولها كي تحميَ جوانيّتها الثمينة، الذخيرة المتكوِّنة ذاتيًا لقوّتها الداخلية. إن أغنيةً تمنحنا القدرة على الابتداء بالبيتِ، إنّها تساعدنا على البناء. مع أغنيةٍ في قلوبنا بإمكاننا أن نوسّع بشكلٍ لا محددٍ الأمان الداخلي للبيتِ: وكأننا نأخذ البيتَ معنا أينما نذهب. الأغنية هي مستقبلنا، مستقبل حلمنا الخاص. بعبارةٍ أخرى، لا نحتاج مجددًا إلى أن نغامر في العتمةِ، في العالم الفوضوي اللابيتي unhomely طالما لدينا أغنية بحوزتنا. إن اللازمة هي هذه الأمور الثلاثة في آنٍ معًا، وليس بشكلٍ متتابعٍ: إنّها كتلة من صوتٍ الّذي هو في الآن عينه دربَ بيتٍ، الأصل الحميم للبيت، والبيت في أعماقنا. ولكن، يصرّ دولوز وغواتاري على أن اللازمة ليس الموسيقى، إنّها بالأحرى كتلة محتوى خاص بالموسيقى.
يحاجج دولوز وغواتاري أن الموسيقى هي عملية فاعلة، مبدعة تكمن في تهجير [deterritorializing-إقتلاع موطني] اللازمة. واللازمة بالمقابل هي بالجوهر موطنيّة territorial، توطّن، أو تعيد توطين reterritorializing، وهي بسرعة تتطلّب الموسيقى كي تصير منغمسة في ذاتها، ما معناه متكررة من أجل سماع جملةٍ ساحرةٍ مرة أخرى. بالنسبة للأُذُن، يبدو هذا التمييز واضحًا إلى حدٍّ ما: إن الموسيقى تنزع [تحلّ] الشيفرة decodes، أي أنّها تميل نحو اجتثاث كل الشيفرات، واللازمة تعيد التشفير، أو تشفّر زيادةً، مما لا يعني أنّها تعيد النظام order، كما لو كانت الموسيقى فوضى، بل بالأحرى يعني ذلك أنّها تحاول أن تكبح الانحراف variation عبر ضبطه. إن نغمةً ترسخُ في ذهنكم ويمكن لها بسهولة أن تُصفَّر أو تُدندَن هي لازمة؛ وإن نغمةً تتطلب أكثر من وضعية للشفاه من أجل دندنتها هي، بفضل صوتيتها المتعددة polyvocality، لهي صيرورةً– موسيقيًا becoming-musical.
هل بإمكان الموسيقى الشعبيّة، كلازمة، أن تؤسّس اختلافًا ذي مغزى مع أنّها مسبقًا ودائمًا عنصرٌ من السوق الرأسماليّة؟ من أجل أن نتبين كيف تُبقي اللازمة على استيلاء الرأسماليّة عليها، علينا أن نعود إلى وظائفها الثلاث الرئيسية: 1- درب البيتِ، 2- خلقُ البيت، 3- البيتُ في قلوبنا. إنّها الوظيفة الثانية التي تهيمن في السوق الرأسماليّة، على ما أظنّ. كل صنفٍ جديد من الموسيقى التي تنجح في اقتطاع مكانةً لها في السوق، هو في الواقع يخلقُ مكانةً في المجال العام لمستمعنيه: وظيفته وإغراؤه هما في المقام الاول موطنيان [إقليميان] territorial. أي أنّهّ يقتحمُ ميدانًا محميًا بعنف كي يفتح أبوابه ويفرض اعترافًا به مرةً أخرى.
حين اندفعت موسيقى البانك punk في طريقها نحو الراديو العام في أواخر السبعينيّات [من القرن الماضي]، فقد غيّرت معنى وصوت الموسيقى الشعبيّة. وهكذا فعل البيتلز Beatles حين ارتفعوا نحو النجومية في منتصف الستينيّات. وقبلهم، كان هناك خيط طويل من المبدعين الّذين يمكن أن نقتفي أثرهم بالعودة الى أيام رواج فرقة تين بان آلي Tin Pan Alley.
إن أثرَ هذه [الموسيقى] هو بالتحديد الوظيفة الثالثة للازمة: منح مستمعيها الأوفياء حق التصويت. يعني ذلك عادةً منح صوتٍ للمراهقين الّذين من ناحيةٍ أخرى، وبكل ما للكلمة من معنى، لا يملكونه. ما يفعلونه فعلاً بهذا الصوت يتوافق مع الوظيفة الأولى للّازمة، في ذلك يستخدم مستمعو الموسيقى الشعبيّة الصوت الممنوح لهم كي يعلنوا عن أنفسهم بشكلٍ مختلفٍ وبذلك يجعلون من شروط وجودهم صالحة للسكن؛ بمعنى آخر، ما تفعله الموسيقى الشعبيّة هو أنّها تطلقُ الصيرورة– أقليةً becoming-minor أو ما يرقى الى نفس الشيء، الصيرورة–جمهورًا becoming-public للفرد الخاص – الّذي هو، كما قال عنه دولوز وغواتاري، استهلالُ خط التحليق الّذي هو [خط] الفرار (7).
لا تؤشّر بساطةُ الموسيقى الشعبيّة إلى تشويهٍ للثقافة، ولا إلى أعراض تدهور ثقافة الأذّن [الاستماع]، بل إلى دليلٍ أنّ وظائفها لا تُتصوَّر بمصطلحاتٍ جماليّة بحتة. وجديرٌ بالذكر أن الدراسات الثقافيّة سبق وأظهرت أن الموسيقى الشعبيّة هي لازمة، تتصل بعمقٍ مع إيقاعات وإمكانيّات الحياة اليوميّة وليست أزيزًا صبيانيًّا. كما بيّنت أنّها موطنيّة [إقليميّة– territorial]: أن نبراتها المنوّعة تصلحُ كصرخةٍ حماسيّةٍ للثقافات الفرعيّة الفرديّة، وكمِقداحٍ يقود إلى تشكّلها.[…].
إن كانت الموسيقى الشعبيّة حقًا هي لازمة، من ثمَّ فإنه لدينا حجّة قوية للقول أن النوستالجيا، في الممارسة، هي حوسلة اللازمة [الحوسلة هي: تحويل الشيء إلى وسيلة -instrumentalisation- بحسب ترجمة الدكتور عبد الوهاب المسيري]. إن النوستالجيا، كما اقترح، تحمل في أحشائها اللازمة عينها. إن بنية الموسيقى الشعبيّة نفسها، وبكلمة أخرى تكرارها المتأصّل فيها، تجعل منها بالأخص عاملاً فعّالاً لنوستالجيا– إغراء. إن تضميني للأمر هو أن النوستالجيا لا تتّصل فقط بالماضي البعيد، وليست هي بالفعل مسألة ذاكرة (وأحيانًا لا تدخل الذاكرة أبدًا في حيّزها)، بل أنّها بيانٌ في الحاضر باعتبارها تكرارًا، ووظائفها ليس ببساطة تذكّرية mnemic.
إن تعريفات الموسيقى الشعبيّة المتزايدة الدقّة من قبل ممارسيها وهاوييها على السواء، والتي تصرّ على الهوية الثقافيّة باعتبارها تميّزًا موسيقيًا، [هذه التعريفات] توحي بأنّ التغيّر الداخلي يتضائل في المرغوبيّة desirability، لا في الإمكانيّة فقط، مما يعني أن النجاح الكبير لفرق مثل Blackbox [فرقة موسيقيّة إيطاليّة] وTechnotronics [المقصود هنا المشاريع والبرامج التسويقيّة الموسيقيّة] يعزى إلى حقيقة أنّها صنعت شكلاً فنيًا ممّا سمّاه بورديو Bourdieu التنوع في التجانس: تظهرُ مختلفةً حين تظهر أنّها ليست كذلك.
الدليل على ذلك يتواجد عبر كل الموسيقى الشعبيّة. حين تنظرون إلى موسيقى الروك في أول بدايتها، مثل موسيقى Chuck Berry [موسيقي وكاتب أغاني أميركي شهير – من رائدي موسيقى الروك آند رول) يمكنكم أن تروا أن سيادة التكرار هي التي أدّت إلى ابتكاريّتها. لا تتعلّق الموسيقى الشعبيّة حقًا بما “يُسمَع“، بل بالأحرى بما “يسمَع مرة أخرى“؛ وهذا التكرار للاستماع [المرّة تلو الأخرى] هو ما يشكّل حقيقة الموسيقى الشعبيّة.
برأيي، فإن قابليّة الموسيقى الشعبيّة لأن “تُسمَع المرة تلو الأخرى” هي التي تدعم الرأي الذي يقول بأن هذه الموسيقى هي لازمة، مع السمة المميّزة لهذه الأخيرة وهي لا تعبيريّته inexpressiveness. يعتبر دولوز وغواتاري أنّ اللازمة محتوى محض ينتظر تعبيرًا. وأن الموسيقى الشعبيّة هي على هذا المنوال، فهي أيضًا تنتظر تعبيرًا.
*كاتب المقال: إيان بوكانن Buchanan؛ منظّر ثقافي أسترالي (ولد 1969). رئيس تحرير مجلة أبحاث دولوز Deleuze Studies journal. وضع وحررّ عددًا كبيرًا من الكتب والمقالات والدراسات والابحاث عن دولوز (كما عن ميشيل دو سارتو وفريدريك جايمسون). وقد أنتجت قراءة بوكانن لدولوز ثلاث أطروحات على قدر من الأهميّة: 1- المنحى اليوتوبي للفكر الدولوزي، 2- أن دولوز هو مفكّر جدلي dialectical ذلك أن فلسفته ليست فقط عبارة عن تأسيس نسقٍ من الأفاهيم المتّصلة، 3- وتُفهم هذه الجدلية باعتبارها العلاقة الضروريّة والواعية ذاتيًا بين أنموذج Form وتطبيقاته.
النص الأصلي:
http://www.australianhumanitiesreview.org/archive/Issue-August-1997/buchanan.html
Deleuze and Pop Music – Ian Buchahan
مصادر ومراجع
1. Deleuze G 1995 Negotiations: 1972-1990 Trans M Joughin, Columbia University Press New York.
2. Attali J 1985 Noise: The Political Economy of Music Trans B Massumi, University of Minnesota Press, Minneapolis.
3. Deleuze G & F Guattari – 1986 Kafka: Toward a Minor Literature Trans D Polan, University of Minnesota Press Minneapolis
4. Deleuze G 1995 Negotiations: 1972-1990 Trans M Joughin, Columbia University Press New York.
5. Deleuze G 1994 Difference and Repetition Trans P Patton, Athlone Press London
6. Deleuze G & F Guattari 1987 A Thousand Plateaus: Capitalism and Schizophrenia Trans B. Massumi, University of Minnesota Press Minneapolis
7. Deleuze G & F Guattari – 1986 Kafka: Toward a Minor Literature Trans D Polan, University of Minnesota Press Minneapolis.
نشرت الترجمة أوّلاً في مدوّنة “فيما يشبه الصّوت: محاولة في الاختلاف“. وتعيد “معازف” نشرها بالإذن من المترجم.
http://greenqarmati.wordpress.com/2013/08/19/مقالة–مترجمة–دولوز–والموسيقى–الشعبية/
تنشر هذه المادة بدعم من صندوق شباب المسرح العربي (YATF)
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”1114″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”height”:”32″,”typeof”:”foaf:Image”,”width”:”200″}}]