.
خلال السنة الفارطة، صنع الجراندي طوطو الحدث بزيارته إلى الجزائر لإحياء حفلٍ هناك، معلنًا عن حقبة واعدة للتقريب بين مشهدي الراب في البلدين. أصدر الرابر فريستايله فيتامين دي زد الذي استعمل فيه عينةً صوتية من أغنية عبد القادر واحتفى بوجوده في الجزائر: “بدينا فور آ لامي” (بدأنا بقوة يا صديق). سبق زيارة طوطو تعاون غير مسبوق بين حليوة وسافاج بلج في جانج، وظهر كل من مورو وديدين كانون فيما بعد في أغنية لا لوا. امتدت التعاونات إلى خارج الراب مؤخرًا بإصدار دي جاي حميدة الذي جمع المغربي مايسترو ومغني الراي الجزائري شاب بيلو.
بقدر ما بشّرت تلك المبادرات بمشهدٍ مغاربي تعاوني، خابت الآمال مؤخرًا بعد اندلاع حرب دسات واسعة تغذت من الشحن السياسي القائم بين البلدين، إثر قطع العلاقات الدبلوماسية وإغلاق المجال الجوي وإيقاف تدفق الغاز الطبيعي الجزائري إلى المغرب منذ فترةٍ قصيرة.
بدأت الحرب منذ أسابيع بعد ظهور حليوة على إنستجرام. نزّل فيديو تحدث فيه عن تاريخ المغرب واستحضر مسألة الصحراء التي تسببت في خلافات بين المغرب والجزائر. أثار الفيديو حفيظة بعض المتابعين الجزائريين، ورد عليه ديدين كانون الذي اتهمه بإثارة الفتنة. سرعان ما تطور الأمر إلى تراشقٍ إنستجرامي خلناه مناوشة ليلية بين رابرز قد تنتهي سريعًا. نزّل حليوة أغنيته ديدين كارتون التي دسّ بها ديدين كانون وأعلن بداية الحرب بعد رميه لقميص المنتخب الجزائري لكرة القدم أرضًا. اتسعت رقعة المناوشة وانخرط عشرات الرابرز من الجهتين.
جيّش الإعلاميون المعركة. دعا الإعلامي المغربي صامد غيلان رابرز المغرب إلى التفاعل والرد، ونشرت صفحة قناة دزاير على فايسبوك صورةً لطابورٍ طويل أشارت إلى أنه رابرز يتدافعون على استوديو تسجيل في العاصمة، بعد إشاعةٍ مفادها أن الرئيس تبون أمر بمكافأة للرد على الإساءة، ما جعل الدون بيج يرد ساخرًا.
شهد اليوتيوب دفقًا من الإصدارات، وتعددت إشارات العناوين إلى شخصيات الأنمي الياباني في سباقٍ محموم لاستعمال مجازات القوة والتفوق. استلهم يوبي عناوينه من شخصيات ون بيس وناروتو مثل تيتش وبيج موم وكاجويا، واستعار ديب شخصية سايتاما من أنمي ون بَنش مان. خرج بعض الرابرز المغمورين إلى الضوء واستثمروا البيف لتسجيل ظهورهم، فيما برزت أسماء كبيرة في الواجهة ووقعت بعض المفارقات غير المنتظرة، كأن يكسب حليوة صداقة أعدائه القدامى، إذ اعتبر الدون البيج بأن إعجابه بِـ حليوة من علامات الساعة.
طغت مفردات التخوين السياسي والتاريخي بين رابرز البلدين. استمد الرابرز جموحهم من الشحن السياسي والتراشق الإعلامي على منصات التواصل وفي القنوات الرسمية. وظّف الأغلبية الأضغان القديمة بين البلدين إثر الأزمات المستمرة منذ حرب الرمال في الستينيات. تصعّدت نبرة النصوص مع جولات الشتائم والتحقير المتبادل، واصبطغت بعنفٍ لفظي استمد حدّته من قراءات طائشة للتاريخ؛ كما في حالة نيو في أغنيته بوخوس: “بغاو إصنعو عدو حيت ماعند دينمهوم تاريخ / روابا ف ألجي ولاد الحركي”، في الإشارة إلى الحركي، عندما جنّدت فرنسا جزائريين قسرًا واستعملتهم في قمع الثورة الجزائرية، ودي زد كاي في الخنازير التي افتتحها بـ: “فئران تجارب عند الجنرال ديجول.”، وصولًا إلى دي كاي إن: “مملكة وطالعة بجاريات.”
عرفت الحرب قطيعةً من طرف الرابرز الجزائريين بعد أن شتم حليوة والدة فلان المتوفية. سحب سولكينج متابعته لِـ حليوة على إنستجرام. بدا وكأن الأمر انتهى، لكن الحرب استمرت فيما بعد وانضم إليها لفردة ومورو الذي هاجم صديقه القديم ديدين، وتواترت الإصدارات بشكلٍ جنوني. حاول بعض الرابرز التميّز في خطابهم عن سردية المواجهة والتخوين وسباق التراشق التاريخي الذي تورّط فيه الأغلبية. في هذا الإطار، أصدر بوز دسّه الذي بدأه ضد ديدين وحليوة، وختمه بسطرٍ تجميعي أراد به التركيز على عدوٍ موحد: “را عدونا عمودي”، إذ دعا رابرز كلا الجانبين إلى توجيه غضبهم ضد الاستعمار، العدو العمودي الذي انتصب فوق الخريطة وورّط دول الجوار بأكملها في دوامة التبعية: “كلاشيو الاستعمار اللي حوانا هادي سنين.”
ظهر خط ثالث يندّد بالتصعيد الذي تجاوز الموسيقى، تصدّره بشكلٍ خاص طوطو ودراجانوف وسمال إكس. نشر سمال موقفه على إنستجرام بأن مشاكل حكومات البلدين ليس لها أن تورّط العلاقات الشعبية والرابرز: “الفن بقوامو والبيف بقوامو. أما ملي كايفوت الخط ديال مابين آرتيست وآرتيست وكيرولي ف دولة وشعب، كايولي التخربيق.” هاجم الجراندي طوطو الدسات واعتبرها “حماقات تزيد الوضع سوءًا” ونأى بنفسه عن المطالبات التي وصلته لدسّ الرابرز الجزائرين لأن هنالك “ما يكفي من المشاكل بين البلدين ولا داعي لإضافة مزيدٍ من الكراهية.” شارك دراجانوف طوطو رأيه، واعتبر أن الرابرز الذين انخرطوا في هذه الحرب “يشعلوا في العافية.” (يضرمون النار).
تاريخيًا، ساهمت حروب البيف في توهج مشهد الراب في المغرب، نذكر بشكلٍ خاص جولة آخر سنة ٢٠١٨ وبداية ٢٠١٩ بعد المواجهة الشرسة بين البيج، أحد القدامى، وديزي دروس، من أبرز الأسماء الفتيّة، وقدموا لنا تراكات قوية أكدا خلالها على تفوق الراب المغربي. من جهته، استثمر ديزي دروس دسّه للبيج بعد سنة وفتح مسابقة إنتاج وتصميم جرافيكي لصناعة بيت يحاكي المتنبي واستقطب المواهب المغمورة، أفرزت نسخةً جديدة قوية من المتنبي.
لكن هذه الحرب التي قامت بين رابرز البلدين عبثية، وتعطّل التشبيك بين مشاهد الراب في البلدين الذي لا يقتصر فقط على التعاونات. من السهل تجاوز الخلافات الثنائية بين رابرز وسيل الشتائم بينهما، لكن بامتداد التخوين إلى توظيف طائش لتاريخ البلدين أصبح صعبًا أن يرحب الجمهور بالتعاونات حينها. من العبث أن نتكلم عن غنائم موسيقية وجمالية من حرب الدسات الأخيرة، رغم أنها منحت فرصةً للعديد من الرابرز حتى يبرزوا ودفعت الحركة الإنتاجية. في ظل الشحن السياسي الراهن بين البلدين، تحول الراب إلى سكين الجيب الصدئ الذي نخدش به العدو الخطأ، وتحولت معها حرب الدسات إلى ساحة لتصريف الشحن السياسي القائم.
صنعت هذه الحرب خوارزميات متابعة يوتيوبية مرتبطة بالبيف والشحن والتصعيد. ما نخسره من هذا البيف أهول من الغنائم التي قد يراها البعض، إذ تنسف إمكانية التعاوناتٍ مستقبلًا، كما تحصر المعاجم المستعملة في سردية المواجهة والثأر والأحقاد وتعطّل ظهور مشاريع قوية وواعدة، إذ ساهمت مشاهد المغرب الكبير منذ سنواتٍ قليلة في صقل صوتٍ خاص بها؛ التراي، الذي جمع بين التراب والراي المغاربي. لا يكتمل التراي بدون إرث الشاب حسني ومامي وخالد، أو بدون عبقرية عصام وطوطو وإنكونو، بالإضافة إلى منتجين مثل نووفو الذين وظّفوا فلوهات التراب وأساليبهم القوية لصقل صوت واعد يحمل خصوصية مغاربية صرفة.