fbpx .
من كمثلي! إني الشهيد | في رثاء حمزة أبو قينص

من كمثلي! إني الشهيد | في رثاء حمزة أبو قينص

عمر موسى ۲۰۲٤/۱۰/۱٦

يقول حمزة أبو قينص في إحدى أناشيده التي كتبها ولحنها: “من كمثلي! إني الشهيد.” بدا أن حمزة الشهيد يهوّن على الناس صعاب السؤال الذي خطر على بالهم، وعلى بال كل من يعرفه لحظة سماعهم خبر استشهاده: “كيف نرثي من كان يرثي الشهداء؟” مع ذلك، إن السؤال بحد ذاته، سواء كانت دوافع كتابته أن يقول الناس إن مكانه صار خاليًا، أو إنه بيان قصور في إيفاء المنشد حمزة حقه، إذ كان رثاؤه الوافي: راثي الشهداء، شهيد. لا يمكن لأي عبارة أخرى أن تلخّص سيرة رجل واسى الناس في لياليهم الحالكة غيرها. 

تضعني كل محاولة لتذكر لحظة من لحظات حياتنا ما قبل حرب الإبادة، أمام تحدٍ فظيع، أتذكر فيه أننا نعيش زحامًا قاسيًا من الذكريات، كما نعيش في خوف هائل على قصص أحبابنا وأهلنا وناسنا الذين فقدناهم في حرب الإبادة المروعة التي نشهدها على الهواء مباشرة، وتذكرني أيضًا، أننا نتحين اللحظة التي نزفر فيها كل هذا الترقب، ونبكي شهداءنا وخساراتنا المهولة التي تتضاعف دقيقة بعد دقيقة. 

كنت قد قابلت الشهيد المنشد حمزة أبو قينص في أيلول / سبتمبر ٢٠٢٣، بهدف إجراء حوار صحفي معه نُشر على معازف، ومن بعدها لم يغادر صوته أذني أو آذان كثيرين في غزة. أجرينا اللقاء بعد مضي أسابيع معدودة على آخر عدوان عسكري محدود عاشه قطاع غزة، وكنّا قد تحدثنا عن أناشيده التي خص بها الشهداء آنذاك والتي سكنت مسامع وقلوب الناس وما تزال تواسيهم حتى اليوم. أتذكر بوضوح أن كل الأشخاص الذين مررنا بهم قبل أن ندخل إلى المقهى غرب مدينة غزة، حيوا حمزة، بينما كان يرد التحية بامتنان شديد وهالة من الخجل التي أحاطت وجهه.

“ما شاء الله يا حمزة، يعني باين مثل ما صوتك مألوف وجهك في عيون الناس كمان مألوف.” ليرد بخجل وتواضع: 

“والله يخو راسمالنا في هالحياة الزائلة … الأثر والسمعة الطيبة.”

كان محرّك الكتابة عن حمزة سؤال وحيد: كيف يمكن لإنسان أن يعزي الناس بصوته وأن يخاطبهم في أصعب ظروفهم؛ عند الفقد والحزن؟ إن التفكير في السؤال ذاته الآن، يذكرني بمعنى خسارة حمزة أيضًا، فزيارة واحدة على صفحاته على مواقع التواصل تبين على الأقل الأثر الذي تركه لنا.

لقد أعاد حمزة إلى الإنشاد ألقه وبريقه المفقود حتى صار اسمه حاضرًا في فلسطين وخارجها. كان مسكونًا بالإنشاد، حد أن نبرته العادية في الكلام كانت أقرب إلى النشيد. كان معنيًا في ترك أثر حقيقي في مسيرة الإنشاد ومجتهدًا في تحقيق ذلك.

في حوارنا، كان يعطي بشغف وشفافية صادقة، تعريفات للأناشيد وسياقًا تاريخيًا لها، ومكانتها عند الناس في الحزن والعزاء، غير أن ما كان لافتًا وكشف لي عن حس إنساني عميق، أن دورها المؤنس في اللحظات القاسية، كان أكثر ما حرّكه لأن يكون منشدًا.

نزح حمزة من مكان إلى مكان، غير أنه رفض أن يترك شمال غزة، عاش حزن شهادة والده وشقيقه المجاهد وأصدقائه الذين كان ينعيهم واحدًا تلو الآخر طوال أشهر حرب الإبادة، إذ كان صديق الشهداء ومنشد الشهداء، وابن الشهيد وأخ الشهيد، وها هو الآن شهيد.

حمزة جزء أصيل من ذاكرتنا ومن ذاكرة غزة وأهلها وناسها، رافقنا صوته الشجي الجميل منذ أن كنا صغارًا وما زال، وسيبقى رغم الجرم الذي طاله، الصوت المؤنس لأهالي وعوائل الشهداء، والصوت الخاشع المهيب في لحظات تشييعهم.

المزيـــد علــى معـــازف