.
٢٣\٨\٢٠١٧
الأعزاء في معازف. تحية طيبة.
تحية معطّرة بالصمود والمواجهة، تحية أشواق ليست كالأشواق تحية لكم تخصكم تخص صمودكم في وسط هذا المعمعان الدائر في العالم الذي يحاول قتل كل جميل ونشر كل قبيح … طوبى لمن صمدوا.
أكتب لكم هذه الرسالة وأنا على أحر من الجمر للقاء الأحبة بعد شهرين ونصف، بعد أن قضيت ما يزيد عن العام في السجن بدون تهمة … عشت هذه المدة بين عظماء لا تكفي كلمات اللغات لوصفهم … عاشوا حالة تعذيب وقمع وحرمان لا يوجد لها مثيل.
أشكركم على تذكري عدة مرات أغنيات سأسمعها بعد التحرر … وأشكركم على سؤالكم الدائم …
أكتب لكم بهذا الشكل حتى تتسع هذه الورقة التي سأعمل على تهريبها لأكبر عدد من الكلمات والأشياء والأفكار والأخبار.
في هذه الظروف التي نعيش لا يمكن حصر أشكال التعذيب والحرمان وأحد أشكالها الحرمان من الموسيقى أو الأغنيات التي نرغب، من حيث الكم والنوع والظرف … سأكتب الملاحظات بشكل مخربط بدون ترتيب وسرد. لكم الحق في استخدامها كيفما شئتم ولا مشكلة إن لم تستخدموها طبعًا.
في الساحة أجت ع بالي أغنية شمالي – لفرقة الفنون الشعبية الفلسطينية من ألبوم طلت. وصرت أدندن فيها وصرت حابب أحكي لشباب آخرين عنها … طب شو أحكي لهم وكيف بدي أوصف لهم ياها؟؟ مهو لا صوتي ولا حفظي للكلمات ولا الشرح قادر على وصف محصلة الجمع بين الموسيقى واللحن والكلمات في هذه الأغنية، وين ممكن سماعها بشكل جماعي حتى يفهموا علي ويعرفوا هذه الغنية؟؟ لا في انترنت ولا في متجر CDs متل ما بدنا ولا ولا ولا … بذلك سيبقى أصدقائي محرومين من هذه الأغنية وسأبقى بحسرتي … إلى حين الحرية …
مثلًا بتكون تسمع اذاعة معينة، بتجي أغنية حابب يسمعها غيرك معك لسبب ما أو بدون سبب، لكن هيهات … اذا كان هذا الشيء بعد العاشرة مساء وهؤلاء الآخرين في غرف ثانية ممنوع ننادي عليهم لأن القسم بيكون في حالة إلتزام وإذا وقت ثاني ممكن يكون فترة جلسات مسائية أو قيلولة أو الادارة في الساحة أو يكون ظرف بيمنع تصيح من غرفتك لغرفة ثانية وطبعاً ٩٩% من الوقت ما بيصير نصيح … وكمان ممكن هالأغنية موجودة على اذاعة ما بتلقط بثها في غرفة الشخص اللي بدك ياه يسمعها لأن بث الاذاعات ما بيلقط في كل الغرف بسبب أجهزة التشويش الموجودة حول الأقسام … حتى أن لقط الاذاعات في نفس الزنزانة (الغرفة) بيفرق من زاوية لأخرى … بعض الغرف لا يوجد فيها جهاز راديو واحد – أجهزة الراديو رديئة جداً صغيرة نشتريها بـ ٢٥ دولار سعرها الحقيقي ٣ دولار خارج السجن خرابها كثير وسريع وعددها المسموح بيه محدود جداً جداً جداً- طب ممكن نفترض أنك وصلت خبر للشباب انها تفتح على الاذاعة المحددة وللأسف مافي حد منهم معاه سماعة اذن وممكن يكون حد بغرفتهم نائم أو عم يقرأ أو لأي سبب ما بيزبط يفتحوا الراديو ع الصوت الخارجي … شو يعملوا؟ الله بيعينك تحمل حتى تخرجوا من السجن وبتسمعوها سوا اذا شاءت الظروف وعدنا إجتمعنا مع بعض، لأن أغلب الموجودين هون حدا داخل وحدا طالع وحدا راجع …
بالصدفة مش بالصدفة بتكون تسمع إذاعة بتنتقل لاذاعة ثانية بتلاقي عليها أغنية مبلشة لحنها أو ايقاعها أو موسيقاها أو صوت اللي بغنيها عجبك، بتفهمش كلماتها كلها أو جزء منها ممكن اللغة ممكن اللهجة ممكن الاذاعة مشوشة … طب كيف ممكن تلاقي كلماتها؟؟ كيف ممكن تعرفها؟؟
لسبب ما بتسمع أغنية أو موسيقى بتعجبك أو بيعجبك فيها شيء، وما بتقدر تميز مين مغنيها وممكن ما بتعرفه أساساً وبدك تعرفه حتى تحكي لحدا عن هالأغنية أو الموسيقى أو لما تهديها لحدا تحكيله مين مغنيها أو لحتى ترجع تسمعها بس تطلع من السجن … يلا زيها زي غيرها عيش بحسرتك.
كيف ممكن تعيد سماع أغنية أو ألبوم موسيقي أو غنائي؟ مرة كنت متابع دعاية اطلاق ألبوم موسيقي لفنانة فلسطينية، أسبوعين وأنا عم أنتظر … الساعة والوقت المحدد اللي كان لازم اسمع فيه الألبوم تصادف مع جلسة طارئة تم تحديدها داخل الغرفة لمعالجة طارئ حدث في ذات اليوم وكان من الضروري كتابة تقرير مفصل عنه، الأمر الذي لا يتيح تغيير موعد الجلسة … للأسف لم أستمع لهذا الألبوم، وكان هذا قبل ٨ شهور، حتى الآن لم أتمكن من سماع هذا الألبوم.
في أغاني بنحب نعيد سماعها وما بيزبط وأغاني وأغاني … حرمان حرمان حرمان حرمان حرمان حرمان حرمان.
مرات بنكون نسمع أغنية حلوة بنحبها وبتجذبنا بيجي ظرف (تفتيش، عدد، ……..) لا بنقدر نكملها ولا بنقدر نعيدها ولا بنقدر نعرف اسمها لا لا لا وكل لا معها حرمان.
غالبية الاذاعات بتسترسل في عرض لوائح السمع المميزة مساءً، ومرات ما بيكون في الغرفة سماعة أذن واحدة، أو بتخرب السماعة الوحيدة الموجودة (الأجهزة الالكترونية الموجودة جميعها نوعيات رديئة وباهظة الثمن)، الليل كما هو معروف مساحة للروح، كون الالتزامات التنظيمية وإجراءات الإعارة لا يكون لها وجود تنكد عليك إلا اذا أجانا تفتيش فجائي … ع فكرة وبعض الغرف بينبسط قاطنيها اذا أجاهم تفتيش في نص الليل، لأنها بتكون فرصة فيها احتمالية رؤية القمر … هذا اذا القمر طالع أو ما في غيوم لأن السجانين بيخرجو الأسرى للساحة وقت التفتيش … المهم خلينا نرجع لموضوعنا … كيف بدها الشباب تسلطن في الليل اذا مافي سماعة، اذا خربت السماعة كيف بدها تتصلح، مستحيل سماع المذياع على الصوت العالي المفتوح بدون سماعة في الليل. القوانين الداخلية عند الأسرى ما بتسمح بهذا، لأن كل واحد فيه المكفيه في السجن، كمان مراعاة لكبار السن معي في الغرفة أسير عمره ٧٢ سنة معتقل اداري.
في القسم الموجود فيه أنا أسرى في الجشـ الجبهة الشعبية وحماس، مرة كنت أحكي للشباب عن الأغاني البديلة، سألني أحد مجاهدي حماس شو يعني أغاني بديلة، حكيت له شوي وشرحت له في المتاح من الوقت، وبيوم من الأيام كان في حلقة عن الأغاني البديلة على شاشة العربية مع أمل مثلوثي، حكيت للشاب عن موعد الحلقة … لكن للأسف ما تابعها، لأن في ذات الوقت يعرض مسلسل كان غالبية شباب غرفته يتابعونه، ونظراً لكونهم “حماس” إهتمامهم في هكذا موضوع بسيط أو معدوم من منطلقات دينية. لذلك لم يكن لديهم شغف التضحية بحلقة المسلسل من أجل حلقة عن موسيقى لا يعرفون عنها ولا تمثلهم. هذا الشاب قضى بعد ذلك ٨ أشهر، خلال تلك الـ ٨ أشهر لم تتاح له فرصة التعرف الحقيقي على الأغنيات البديلة وطبيعتها ولم يتاح له فرصة أن يعرف ان ما يسمعه صدفاً ان كان أغنيات بديلة أم لا.
مصادر الموسيقى في السجن (مذياع، تلفاز، مشغل CDs، … التلفاز حالياً: mbc ،mbc دراما، ٣ عبرية، RT، ناشيونال جيوغرافيك، العربية … مشغل الـ CDs، نوعيات رديئة جداً، في قسمنا يوجد ٢، عدد الأسرى في القسم ١٢٠ أسير، الاسطوانات المسموح شرائها محدود جداً جداً جداً، كل سنة يدخل القسم بحدود العشرة اسطوانات، أو أقل من ذلك، كلها ألبومات قديمة جداً أو موسيقى تجارية … وبالضرورة الاشارة انها باهظة الثمن ولا يوجد تفسير لتلفها السريع جداً.
أنواع الحرمان في السجن لا حصر لها، حتى هذا الموضوع أنا متأكد أني ناسي العديد من التفاصيل المثيرة المؤلمة جداً… عدد كبير من الأسرى لا يهمهم الموضوع هذا، لأن الأولويات لا تكمن هنا، خاصة عندما نتحدث عن الإهمال الطبي عن نوعية الحياة فرشات النوم الأغطية الغذاء، سوء المعاملة وفترات الاعتقال والأحكام المجحفة بحق الأسرى.
الوصف المناسب للسجن “مدافن الاحياء” … مش سهل الناس تفهم أوتعرف إلا اذا جربت، لا أتمنى ذلك لأحد بتاتاً. لما كانت ثمينة تحكي لي إن معازف منشنوك بأغنية، كنت أفرح وأحزن، أفرح للمساندة وأحزن أني محروم أسمع هالموسيقى. هالأغنية … لما كانت تحكي لي أنها منشنتني أو سمعت عني وعنها موسيقى معينة أو أغنية، كنت أفرح أفرح وبنفس الوقت أعيش الحيرة … شو هالأغنية طبيعتها لحنها نوزيعها … كيف بدي أعرف وأنا مش سامع.
ياباي شو عبالي أسمع موسيقى من حساب ثمينة على ساوند كلاود، ياباي شو عبالي أطلع ونكمل مشروع مدرسة الموسيقى في قريتنا أنا وثمينة. مدرسة موسيقى تطلع بشيء جديد للبشرية.
مرة انتهى وقت الزيارة وأنا بدي أحكي لثمينة أنها تسمع أغنية معينة، بيني وبينها زجاج عازل تماماً. كيف بدي أشرحلها اسم الأغنية؟؟ في الزيارات ممنوع ناخد معنا قلم أو ورق أو أي شيء … راحت ثمينة وأنا رجعت ع القسم بدون ما تعرف إيش بدي أحكي لها … أي نوع من البشر هذا اللي صمم هذه السجون؟؟
أصدقائي في معازف: باتمنى أن تستمروا في زرع الموسيقى في العالم، حتى يأتي موسم حصاد الفرح …
اقترب وقت الحرية، الوقت الذي سألتقي ثمينة بدون قيود وكنزة وساراي أيضاً، سأعانق الحياة بحرية.
كلي شغف لهذا، لا شيء غير هذا …
مشكلة أغاني فيروز … معروف أن أغلبية الناس بتحب تسمع فيروز الصبح. أغاني فيروز ع الاذاعات أغلبها بتنتهي عـ ٨ صباحاً. أغلب الأسرى اما نائمين أو الصاحيين صاحيين لعمل شيء معين مش لسماع فيروز … طب واللي جاي ع باله يسمع فيروز بعد الـ ٨ شو يعمل؟؟ خصوصاً الموجودين في غرف الطابق الأرضي من السجون المؤلفة أقسامها من عدة طوابق، أولئك الأسرى الذين لا تلتقط أجهزة مذياعهم إلا محطة أو اثنتين … من وين أجيب لهم فيروز.
كل يوم تقريباً أحاول أن أجد مقطع من أغنية لأم كلثوم … المقطع اللي بقول: كنت بأشتاق لك وأنا وانت هنا … مرات بأقعد شهر حتى أسمعه … أغاني أم كلثوم بين الـ ٥ مساء والـ ٧.٣٠ … كل يوم أحتاج أسمعه لأني كل يوم بأشتاق لثمينة، لدرجة أني راح أكون مشتاق لها حتى لو انها جنبي من كثر ما انا مشتاق لها.
ان شاء الله هالرسالة توصل لكم جزء من صورة قصتنا مع الموسيقى في السجن.
مع الأشواق
والحلم بالحرية
حسن كراجة