.
بلمحة حزن وسكينة على وجهه، شعر على شكل الطبق كموضة قصات شعر الرجال من الطبقة المتوسطة في الثمانينات، وباسم بعيد عن أسماء الشهرة وقتها، احتل رمضان البرنس كاسيتات الميكروباصات ومنصات الأفراح الشعبية والكازينوهات بـ ١٢ ألبومًا. جاء منهم عايزة إيه، ميلي، ارجعي، سافر حبيبي، متحاوليش، سهر عيوني، مشاوير وذكرياتي، من عام ١٩٧٩ حتى عام ١٩٩٨.
لا نعرف قبل رمضان البرنس ماذا كان يسمع سائقو الميكروباصات وهم على الأسفلت؛ ربما لأنه لا يوجد اهتمام بأرشفة أو قراءة ذوق سائقي الميكروباصات الموسيقي. لكن نعرف أنه حتى الآن يسمع أسطوات المهنة رمضان البرنس على طريق السفر من وإلى الإسماعيلية ومن وإلى حلوان. أهالي حلوان وأهالي الإسماعيلية من مخلصي البرنس ونجدهم حتى الآن في قسم تعليقات اليوتيوب يتبارزون أن رمضان البرنس من حلوان، لأ الإسماعيلية.
البرنس من حلوان، القاهرة، وعاش فترة من مراهقته وشبابه في الإسماعيلية. قبل انطلاقته التي نعرفها في بداية الثمانينات بعد اعتماده من الإذاعة، غنى البرنس في الأفراح لمثله الأعلى محمد رشدي، وأصبح هذا مصدر دخله بعد أن كوّن فرقة حمل معظم أعضائها لقب البرنس. غنى البرنس في أفراح فى الإسماعيلية وبعدها في الشرابية وحلوان. بالإضافة إلى مسقط رأسه، طال اللغط أيضًا تواريخ إصدار ألبوماته، التي لم تتح بعد كاملةً على الإنترنت.
ولدت بعد موت البرنس فوجدت صعوبة في تتبع تسلسل إصداراته وحفلاته بدقة. كان الاعتماد على أنغامي كارثيًا مثلًا، حيث يؤكد أنغامي أن هناك أغانِ له أنتجت عام ٢٠٠٠ رغم رحيله عام ١٩٩٨؛ لأن هناك مغنٍّ شاب بنفس الاسم يغني مواويل البرنس في ليالي الحظ بالدلتا. من ناحية أخرى يخبرنا ورثة البرنس وورثة الملحنين والشعراء وحتى المستمعين على اليوتيوب بأعوام متضاربة لكل ألبوم أو حفلة.
الأكيد أنه بعد ما عاد رمضان للسكن في حلوان مرة أخرى أصدر أول ألبوماته عايزة إيه عام ١٩٧٩، بالتعاون مع الشاعر والملحن عبد العزيز أمين ومن إنتاج سيد بخيت – شركة الخليج للإنتاج الفني والتوزيع. جرى إحياء الأغنية عنوان الألبوم إنت عايزة إيه بعد أن غنتها دنيا مسعود باسم بتناديني تاني ليه؟، من كلمات الشاعر عبد العزيز أمين وتلحين البرنس. كان البرنس ملحنًا أيضًا، حيث أن في كل ألبوم أغنية أو اثنتين من تلحينه. بعد هذا الألبوم جاءته فرصة العمر، العمل مع فرقته في كازينو هابي داي في حلوان بداية الثمانينات.
قد تكون فكرة التوثيق والأرشفة غير متسقة مع مشروع رمضان ومع جمهوره المستهدف، سائقي الميكروباصات. ربما لأن فترة الثمانينات التي انطلق فيها البرنس فنيًا كانت الحقبة التي حدث فيها كل شيء، وانتهى. سقطت الثمانينات في ثقب أسود وزلق حينما جاء جيل التسعينات، حتى جيل زد الذي ينقب عن كل ما هو قديم وأصيل يأخذ مسافة مترددة وحذرة من الثمانينات واستدعاء إنتاجها سواء في الموضة أو الفن التشكيلي أو الأغاني.
في ألبومه الذي يحمل اسمي مشاوير وانسجام يخبرنا رمضان بملخص التيه الذي نقابله أثناء البحث عنه:
“وادينا ماشيين محناش عارفين
مشاوير في الدنيا بنمشيها
ما بنعرف إيه مكتوب فيها
يا نعيش تفاريح
يا نتوه في الريح
ما هي رحلة عمر بنقضيها.”
لا نعرف ماذا حدث في حياة رمضان البرنس ليظهر في غنائه كل هذا الحزن، حتى وهو يغني أغنية رومانسية مثل علميني ولمي الضفاير، التي اشترك في غنائها جمال البرنس العازف في فرقته منذ بدايتها. لذا يبدو أن مواويل البرنس هي الأنجح في مسيرته وفيها يعبر بحرية عن حزنه الدفين.
هناك تسجيل على اليوتيوب بعنوان حفلة البحرين، لا نعرف تاريخها تحديدًا لكن صفحة رمضان البرنس تؤكد أنه تسجيل نادر، بل “منقرض”. اختار البرنس أن يترس الحفلة بالمواويل، مثل إحنا بتوع زمان وبياعين الهوى وموال في الليل، عكس ما يختاره في الأفراح.
في ألبوم ميلي وألبوم سهر عيوني، من إنتاج عزة فون / الحاج عبده الجزار، تخلى البرنس عن نقاط قوته وسحره، حيث الأغاني مفرفشة ومشجعة على الرقص والكلمات فيها حزن مستحي. ألبوم ميلي عبارة عن محاولته أن يكون شبابيًا وروشًا. يظهر ذلك في أغنية عاتبيني مثلًا، صراع بينه والأورج ومن سيسيطر على الأغنية.
كان ألبوم عاتبيني موجهًا للحبيبة التي تعذب حبيبها بغنج، بينما حبيبها مستمتع بالعذاب لأنه ضامن عذرية قلبها ومشاعرها، كما قصص الحب في الثمانينات والتسعينات. أغانٍ بعناوين مثل السهر والضفاير والرموش الدباحة وقلبي بكى من بعدك، مع البعد عن وصف الجسد أو المفاتن أو أي إحالة جنسية. في كل أغنية في الألبوم لوازم تسهل الدخول في المود، تشبه لوازم حميد الشاعري مثل “لاي لاي لا، لولا لا”، ألبوم مناسب للكباريهات والرقص في الأفراح.
رجوعًا لألبوم رمضان الأول برئاسة الشاعر والملحن عبد العزيز أمين، الذي كان مشغولًا بالكلمات ومتخليًا عن اللوازم وعن الروشنة. استثمر البرنس في ثنائية الحزن/الفقد، والتكريس لمواويل وأغانٍ عن الأم. بداية من موال يتيم الأم في نفس ألبوم عايزة إيه، الذي يذكر فيه حاله المر والضياع بعد موت أمه، كيف كانت تحرسه وتدعي له وتحميه من الشرور، وصولًا لـ الأم مدرسة وعملت إيه يا زمن. من لحظتها كان على كل مغنٍّ شعبي أن يغني للأم، وأصبح هناك ذوق موسيقي معتمد على بكائيات فقد الأم أو امتلاكها بدون مجازات تشير للوطن أو الحبيبة، فقط الأم.
بموال الصبر أو موال الأستاذ والتلميذ من ألبوم ذكرياتي ومن ألحان وكلمات عبد العزيز أمين، كرس البرنس نفسه للتغني عن غدر الصحاب بطريقة معاصرة – أكثر من عبده الاسكندراني مثلًا. من هذا الموال بالذات دخل البرنس على تابلوهات الميكروباصات وكسب مكانة تجعلنا نتساءل: إلى ماذا كان يستمع سائقو الميكروباصات قبل رمضان البرنس؟ بعد هذا الألبوم زاد الطلب عليه في الأفراح، في شبرا وحلوان والسويس والإسماعيلية، كل يوم فرح وبعدها يعود لكازينو الهابي داي، وفي الصباح يسجل الأغاني في استديو المنتج عبده الجزار أو في استديو سيد بخيت.
لم تكن أغاني البرنس سعيدة بشكل عام أو مشجعة على الرقص أو الهيبرة، ومع ذلك كان نجم اللحظات السعيدة ومحفزًا على الرقص في مشاهد سريالية كرقص الحمام بعد ذبحه. لم تكن أيضًا محفزة على تغير أو مراجعة أو حتى حسرة على الذات. يمكن أن نقرأها كتوكيدات ملخصها أن ما تشعر به يشعر به غيرك وإنه عادي ياسطا، استسلم لذلك.
اعتمدت أغاني البرنس على كلمات مكتوبة بعناية وحساسية، بينما كانت الألحان بسيطة، عادية، تبدأ برتم بطيء وهادىء ثم تتصاعد فجأة. كانت بعض الأغاني بلا توزيع حتى، وحتى المكتوب بجانبها توزيع فلان تجعلنا تتساءل أين هو التوزيع؟ كل أغاني البرنس مسنودة على إحساسه بما يقوله، يحتاج فقط لإيقاع يمشي عليه وهو يغني، وفي هذا سحر ما، يشعرنا أننا أيضًا يمكن أن نفعلها، وحينما نجرب نعرف أن السحر ليس حليفنا.
ربما سحر البرنس بسبب أن منتجه لم يأت من أسفل. من السهل القول أنه مغنٍ شعبي كلماته من الأسفل وموجهة لمن هم في الأسفل. في هذا اختزال لتجربة البرنس، حيث أن منتجه قادم من الداخل، من شخص لم يستطع التجاوز ويغني لذلك بفخر، لكنه يمضي في طريقه وعلى كتفه كل هموم الماضي. كسائق ميكروباص يجب أن يسوق، أن يمشي على الأسفلت بسرعة حاملًا همومه مع الركاب كما رمضان.
قبل رمضان كانت الأغنية أو/و الموال الشعبي معنية بالسجون والخيانة والمرض والوطن، أو بالحبيبة المخطوفة وصراع الحبيب مع والدها أو ابن عمها أو القبيلة، والتغزل بمفاتن الأنثى. لم يغن البرنس فقط لأنواع معاصرة من المشاكل، إنما صنع كوبري في أغانيه سمح للجميع بالتعبير عن هشاشته؛ فكرة أن رجلًا في هذه الفترة الزمنية لا يستطيع أن يبكي بسبب الحالة الاقتصادية الصعبة، أو بسبب جرح عاطفي أو ذكرى طفولة مؤلمة، يجد البرنس يغني لحبيبته التي تزوجت بآخر لأنه أغنى منه. كأن البرنس يمرر له قناعًا على شكل الأم والحبيبة، ليعبر من خلاله المستمع عن الضغط المادي والعاطفي، أو أي ضغط دون أن يقع من نظر المجتمع الذكوري الذي يعيش فيه.
من الصعب أن لا نقف أمام أغلفة شرائط كاسيت البرنس، التي تشبه بكل تأكيد كل الشرائط المنتجة بتكلفة ضعيفة في ذلك الوقت. لكن لأن البرنس لم يصور سوى فيديو كليب واحد لأغنية ارجعي التي تعتبر الجزء الثاني من أغنية عودي، فإننا لا نعرف الكثير عن حضوره المادي وحتى عن حياته الشخصية. تقريبًا لم يكن البرنس مهتمًا بالنظر إليه إنما بالاستماع إليه، من صورته على الشريط تستطيع أن تقرأ جو الشريط، حزايني أم فرايحي، به أغاني حب أم كله حكايات عن المظاليم ومرمغة في تراب الأم والحبيبة الندلة.
في جماليات شرائط رمضان، خصوصًا التي تنتهي بـ “مع تحيات سيد بخيت”، نوع من الأمل، أنه ليس على الفنان أن تنتج له شركة هاي كواليتي، أهم شركة للإنتاج في التسعينات خصوصًا للمغنين الأكثر مبيعًا واستماعًا، لينجح أو ليتم اعتماده رسميًا من قبل الجمهور. سيد بخيت و/أو عبده الجزار يمكن أن يهتموا بالأمر، غن فقط، اكتب ولحن وسيبها على الله.
مع ذلك كانت شركة هاي كواليتي حلمًا للبرنس، تمنى لو يتعاقد معهم بعد شريط ذكرياتي حفلة ٩٧. ذكرياتي هو الألبوم الأكثر نضجًا وتوكيدًا على خبرة البرنس في مجال التلحين والغناء. بالشراكة مع عبد العزيز أمين كشاعر وملحن، وإنسان الطائر كشاعر وملحن وأسامة الصغير كملحن، ومن إنتاج شركة الخليج بشبرا. اعتمد البرنس في هذا الألبوم على خلطته السحرية: المواويل الطويلة، الأم، مع غدر الصحاب، والحب من طرف واحد، أو زواج الحبيبة من آخر لأن ظروفه الاقتصادية أفضل، وأضاف لهذه الخلطة فكرة البحث داخل المدينة عن شيء نقي في أغنية جايلك يا مدينة.
يشهد ذلك على بداية أسطورة شعبية. كان لقب البرنس برنس الأغنية الشعبية / ملك الأغنية الشعبية، لكن ما كرسه أكثر ليكون معبرًا عن جيله، عكس عدوية وحسن الأسمر المعاصرين له، هو موته. مات البرنس بعد أن حقق بألبوم ذكرياتي ٩٧ نجاحًا كبيرًا يفوق قدرة عبده الجزار أو سيد بخيت على استيعابه، ويخبرنا أن البرنس هيقعد كل المغنين في البيت.
عاش رمضان مع فرقته سنة في هذا النجاح والاحتفاء به، وبعد أن حصل على اتفاق مبدئي مع شركة هاي كواليتي، غرق في الترعة وفي جيبه أغنية ساعة غروب التي كان يعمل على تلحينها. هكذا كشاب ثمانيناتي من طبقة متوسطة انزلقت قدماه بعد دقيقة من وصوله لأعلى السلم الاجتماعي.