.
“عندما أموت، الجحيم ينتظر“
عنوان أغنية لـ إل إس دي مارتش
الروك الذي أتحدث عنه هنا لن تجدوه إن كتبتم فرقة روك يابانية على جوجل، ستظهر العديد من الفِرَق لكنه ليس الروك الذي يقدمونه. هو روك غير تجاري، يسمعه قلة، لم يلحَظْه الكثيرون، لم يُكتب عنه، وكأنه يجلس آخر البار، لا يحبِّذ أن يحتك به أحد، يثمل ويغني فقط حتى آخر الليل ليقوم بعدها ويغطّ في نوم عميق ويتركنا مع كلّ المتعة التي أحدَثَها. هذا الروك يشبه الفرد الياباني. قرأت أكثر من مرة أن الكثير من اليابانيين منعزلين ومكتئبين بشكل عام، يرفضون الخروج من غُرَفِهِم ظاهرة موثقة تعرف بالـ Hikikomori.
لهذا، رغم أنه لا ينبغي الاستماع إلى هذا النوع من الروك إلّا إذا كان المرء وحده، لأنه يملك القدرة على أخذه إلى مكان آخر داخل رأسه، إلا أنه لا يُنصح بأن يسمعه الإنسان وحده أو أن يشغّله أثناء محاولاته المتكرِّرة للنوم. روك يتَّسم بالعتمة والقتامة والكآبة، من ألحانه إلى السولو الصاخب الطويل جدًا الذي يسحب الروح من القلب، إلى صور أغلفة الألبومات، إلى عناوين أغانيه.
قبل البداية لا بدّ من ذِكْر أنّ الفضل الأول يعود إلى جوليان كوب، موسيقي الروك والكاتب البريطاني، في الحديث عن هذا الروك في كتابه Japrocksampler: How the Post-war Japanese Blew Their Minds on Rock ‘n’ Roll الذي يتحدث فيه بشكل شامل عن كلّ موسيقيي الروك في اليابان ما بعد الحرب العالمية الثانية. سأحاول أن يأتي هذا المقال مقاربًا لهذا الروك: كئيبًا وخانقًا وجميلًا.
الذين بحثوا عن هذه الفرقة اتفقوا على اعتبارها الفرقة اليابانية الأكثر غموضًا، وأنّ معظم المعلومات حولها يستحسن أن تُعتبر شائعات وخرافات وأساطير. لا شيء مؤكد، لا أحد تستطيع الوصول إليه منهم للتحدّث معه، وهذا ما أودّ أن أعتبره هنا أيضًا: أن معظم ما أقوله هنا هو شائعات وخرافات وأساطير، ولربما هذا أجمل ما في الأمر، الغموض هو ما يشدني إليهم.
لم يحدِّثني أحد عن القتلة اللطفاء ولم أكتشفهم بسبب الفضول أو الاهتمام بمشهد النويز والسايكدليك روك في اليابان، بل عرفتهم عن طريق لعبة RPG اسمها سبايس فيونرال، تدور حول فيليب الحزين الذي طرده أهله ويجب عليه بعدها أن يدور بين القرى للوصول إلى مبتغاه. تبدأ اللعبة مع أغنية ذ وايت وايكنج للفرقة اليابانية Les Rallizes Denudes التي أصبحت مرتبطة باللعبة أشدّ من ارتباطها بأصحابها. من هذه الأغنية وشعورها الكئيب لدى سماعها وجمال كل شيء فيها، إلى عدم وضوح التسجيل وكلماتها التي استطعتُ إيجاد ترجمة إنكليزية لها، بدأ ضياعي مع هذه الفرقة التي سأعتمد تسمية الراييز لها في هذا المقال.
白い目覚め – هذا الصحو الأبيض
まっ白い目覚めが わたしを眠らせ – هذا الصحو الأبيض يهدهدني لكي أنام
安らぎの歌を聴かせてくれるの – بغناء تهويدة عذبة من أجل راحة بالي
わたしの春がはじまったとき – عندما يبدأ ربيعي
あなただけしか欲しくなかった – لا أريد شيئاً سواك
風の通り過ぎたあとでも – وحتى بعد مضيّ الريح
わたしの心は揺れるの – ما زال قلبي يرفرف
風の通り過ぎたあとでも – وحتى بعد مضيّ الريح
わたしの心は揺れるの – ما زال قلبي يرفرف
光の香りにつつまれて – وبعبير الضوء المصاحب
あなた以外は置き忘れてゆく – أترك كل شيء آخر لأجلك
まっ白い目覚めが わたしを眠らせ – هذا الصحو الأبيض يهدهدني لكي أنام
安らぎの歌を聴かせてくれるの – بغناء تهويدة عذبة من أجل راحة بالي
أوّل ملاحظة لي عن الراييز هي أنه لا يوجد أي تسجيل واضح لهم طوال فترة نشاطهم الموسيقي الذي بدأ عام ١٩٦٧. كل ما يوجد هو عبارة عن بوتلِغز bootleg تسجيل صوتي أو مرئي لأحد العروض الحية، يصدر بشكل غير رسمي من الموسيقي صاحب العرض، ويُعتبر غير قانوني إلا أنه قد أصبح مظهراً من مظاهر موسيقى الروك، حيث هناك الكثير من البوتليغز التي تعود لبوب ديلن أو جيمي هندريكس مثلاً قد أصبحت النسخة المعتمدة بالنسبة إلى المستمعين، إلى حدّ قد يكون من الصعب أن تجد نسخة بديلة رسمية أو مسجلة في استديو على الإنترنت، ولم يصدر قبل ذلك أيّ تسجيل رسمي حتى عام ١٩٩١، وحتى حين صدر كان عبارة عن ديموز أو بوتلِغز. وأيضًا لاحظت أنّ الأغنية نفسها توجد في عدة ألبومات مختلفة ولو اختلف التسجيل والوضوح بينهم، مثل إنتر ذ ميرور على سبيل المثال. إذًا من العبث محاولة إيجاد أي تسجيل نظيف لللراييز، لا وجود لتسجيل نظيف، أن تسمع الراييز أي كأنك أركيولوجي وجد تحفة بجزء ضائع منها.
أسَّس تاكاشي ميزوتاني الفرقة في جامعة دوشيشا في مدينة كيوتو اليابانية عام ١٩٦٧. كانت الفرقة بداية مؤلَّفة من ميزوتاني (جيتار ومغني)، مورياكي واكاباياشي (بايس جيتار)، تاكيشي ناكامورا (جيتار إيقاعي)، تاكاشي كاتو (درمز). هذه الفرقة التي اعتبرت أحد مظاهر ما بعد الحرب العالمية الثانية في اليابان بسبب ذلك الجو الذي يضفونه في عروضهم الحية من ناحية الإضاءة وصرخات الجيتار والنظارات الشمسية ولباسهم الداكن وسراويلهم المصنوعة من الجلد يمكن إيجاد حوالي خمسين صورة نادرة لللراييز على هذا الرابط: https://www.last.fm/music/Les+Rallizes+D%C3%A9nud%C3%A9s/+images/c5793114b59040afa351c5474a71444d.
ميزوتاني هو الشخص الأكثر غموضاً في الفرقة. ذلك الشخص الذي يدخن سجائر غولواز الفرنسية من دون أعقاب ويتحدّث عن آخر ما كتب سارتر وغي ديبور. تميّز بأفكاره الثورية في السياسة والفن، كما أنه تأثر بفرقة الروك النيويوركية صاحبة التجربة الفريدة: ذ فيلفيت أندرغراوند، وهذا واضح في موسيقى فرقته الراييز، حيث هناك شيء من روح الروك التجريبي الذي كان صنعه الفيلفِتس، خصوصاً ألبوم White Light/White Heat. كان ميزوتاني طالب سوسيولوجيا وأدب فرنسي في جامعة دوشيشا، وهذا يفسِّر الاسم الفرنسي لفرقة يابانية. مفردة راييز لا معنى لها في أيّ معجم، أيّ بكل بساطة اسم الفرقة هو: الراييز العارون.
ولا بدّ من ذِكر أنّ هذا الروك، إن كان في ما يخصّ الراييز أو غيرهم، مختلف عن الروك المعتاد، خصوصاً في ما يتعلق بطريقة الغناء، حيث أنه ليس هناك أيّ صراخ أو طبقة عالية في الصوت، بل يتمّ الغناء بكلّ استرخاء كأنّ الأمر أشبه بإلقاء الشِّعر، حتى قد يُلاحَظ أنه يتم الجلوس على كرسي في أثناء العرض رغم الضجيج الذي يُصدره الجيتار خلال الأغنية. هذا التناقض بين الغناء والجيتار، كأنّ الجيتار هو سيد الموقف هنا: الغناء هادئ أقرب إلى إلقاء الشعر، البايس يبقى ملتزمًا بما يجب أن يفعله، كما الدرامز أيضًا، والجيتار هو الذي يأخذ باللعب الأساسي أو الأكثر طلبًا للانتباه، إلّا أنه في نهاية المطاف طبعًا كلّ الآلات مترابطة لتقدِّم تحفًا فنية نادرة.
تغير أعضاء الفرقة بشكلٍ مستمر على مدى نشاط الراييز، حيث مرّ أكثر من عشرة أشخاص عليها تقريبًا. أول تغيّر وقع بسبب حدث فريد من نوعه ربما في تاريخ الموسيقى.
في آخر يوم من آذار عام ١٩٧٠، أي بعد تأسيس الفرقة بثلاث سنوات، تمّ خطف طائرة مُقلعة من طوكيو من قبل تسعة أعضاء مسلحين ينتمون إلى الجيش الأحمر الياباني. كان مخطّط الخطف أن يتم أخذ الطائرة إلى كوبا، إلّا أنه تمّ إجبارها على الهبوط في سيؤول ليتمّ إطلاق سراح الرهائن، ومن ثم لينتهي بها المطاف في كوريا الشمالية التي وفّرت للخاطفين اللجوء. كان من بين هؤلاء التسعة مورياكاي واكاباياشي، عازف البايس في الراييز، وهذا ما سبَّب مضايقات لتاكاشي ميزوتاني من قبل السلطات التي عرفت عن توجهاته اليسارية هو أيضًا، إلا أنه استطاع التخلص من الشبهات بدهاء. وبما أنّ اسم الطائرة التي تمّ اختطافها كان يودوجو Yodogo، فمن اللافت للانتباه أن أحد البوتلِغز لللراييز حمل عنوانًا له علاقة بهذا الحدث الذي يُعتبر من العناوين الرئيسة في تاريخ الفرقة الطويل.
يطول الحديث عن هذه الفرقة الغامضة، وربما قد يطول الحديث عن اختفاء ميزوتاني عن الأنظار. تمّ رمي الكثير من الفرضيات عنه بين انتقاله إلى باريس وإصابته بمرض نفسي أو تأثره وخوفه على نفسه من السلطات بعد حادثة خطف الطائرة، إلّا أن هذا الاحتمال مستبعَد لأنّ الحادثة وقعت في السبعينيات وهو قد بقي موجوداً إلى ما بعد هذا التاريخ. الأمر الوحيد المؤكد هو أنه اختفى إلى درجة أنه لم يحضر جنازة زوجة زميله في الفرقة ميورا ماكي (أحد لاعبي جيتار الإيقاع الذين مروا على الفرقة )، وحضوره الوحيد الذي تمّ ملاحظته على الملأ هو من أجل فحص الصوت في أحد عروض ماكي الحية. غير هذا فهو إنسان مختفٍ، مختفٍ لكن حاضر في كل هذه الموسيقى التي صنعها مع أصحابه. هذه الموسيقى التي لا تُكرَّر والتي أثّرت على جيل بأكمله من فرق النويز الروك التي أسِّست أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات مثل Shishou no Fune وMainline.
هنا إحدى التسجيلات القليلة جداً التي تمّت في استوديو، في استوديو مارس عام ١٩٨٠، أنقى إصدار لـ Romance of Black Grief:
وأيضاً شريط فيديو في إتش إس مدّته ساعتين ونصف تمَّ تصويره من قبل أحد المهووسين بالراييز، قام باللحاق بهم إلى أكثر من عرض حيّ للخروج بهذا الشريط الثمين، الذي يعتبر، دون مبالغة، بمثابة كنز، رغم سوء جودته وعدم وضوحه. نُشر الشريط عام ١٩٩٢:
بعد أن مَرَّ وقت لا بأس به، أدركتُ جيدًا أنّ معظم ما أسمعه ليس مسجلاً في استديوهات، بل كما ذكرت سابقًا بوتلِغ مسجّل من أحد العروض الحية وقد تمَّ اعتماده على أسس غير معروفة. من المؤكّد أنّ الأغنية قد تمَّ لعبها أكثر من مرة خلال تاريخ أصحابها، لكن غالبًا لا نجد إلّا نسخة واحدة معتمدة، إلى درجة أنها قد أصبحت التسجيل الرسمي رغم عدم رسميته. أدرجت هذه النسخة في ألبوم له صورة غلاف وقائمة أغاني وشركة تصدره. هذا لا يلغي طبعاً بقية التسجيلات، إلّا أن النسخة المعتمدة عادة ما تكون الأفضل جودة.
فرقة LSD March فرق أخرى ارتبط اسمها بمشهد النويز والسايكداليك روك في اليابان، رغم أنها قد أتت في وقت متأخر نسبياً (١٩٩٦)، إلّا أنها تتألف من ثلاثي عتيق في المشهد هم شينسوكي ميتشيشيتا (مغني وجيتار)، ماسامي كاوغوتشي (جيتار)، أيغورو تاكاهاشي (درامز) الذي كان مع فرقة فوشيسوشا التي تعود إلى أواخر السبعينيات. هذا الأمر يجعلها، رغم حداثتها كفرقة وميلها إلى الروك التجريبي غالباً، من الفِرَق التي ما زالت تقدّم بعض النويز الروك المعتاد الذي بدأ في اليابان أوائل الستينيات، الروك الذي بدأ ينقرض في الوقت الحالي ولم يتبقَّ منه سوى تسجيلات سيئة الجودة تتفق تماما مع كلّ الضجيج الذي فيها، وهذا ما يضفي عليها شعورًا غريبًا لم أختبره إلّا مع هذه البوتلِغ.
ما أن تعتاد على البوتليغز، هناك احتمال لا بأس به أنك لن تتقبل أبداً ما سُجّل في الاستوديوهات. فمثلاً أغنية When I die, Hell awaits لـ إل أس دي مارتش من ألبوم LSD-March’s collection 1997-2001 قد تم إعادة تقديمها على شكل بوتليغ عام ٢٠٠٤ في ألبوم Kanashimino bishounen LP. هناك فرق في كل شيء، من ناحية مدّة الأغنية – الضعف تقريباً – أو طريقة الغناء والاسترخاء الموجود والسولو والنويز وكل الشغف الذي يُلمس، وكأن فنانو النويز روك في اليابان قد اعتادوا على المنصة والحضور إلى درجة حين يتمّ رميهم في غرفة مهما كانت واسعة وبنافذة كبيرة من حجم الجدار، لن يعطوا كل ما عندهم. كأنهم يدخلون إضراباً غير مُعلن، ربما دون أن يعوون ذلك أنفسهم. عند سماع النسخة الثانية يظهر الفرق. رغم أنّ نصيحتي هي عدم سماع سوى نسخة الـبوتليغ إلّا أنه لا بد من المقارنة، لا بد من تقدير الفرق ونعمة النويز روك عندما يُلعب على منصة. والسؤال هنا هو: هل هناك نويز روك داخل الاستوديو أصلاً؟
قبل أن أكتب هذا المقطع الأخير، كنت على وشك الاستسلام وفكرت كثيراً في أن أنهي المقال بالسؤال الأخير الذي طرحته رغم إجابته الواضحة بالنسبة لي. لكنني وجدت نفسي أمام واجب لا بد منه، أو نهاية لا بد منها، ولو بشكل متعثر.
لماذا أريد لهذا المشهد أن يكون مكتملاً؟
أريد ذلك لأن النويز والسايكادلك روك أوسع من الراييز، ولو أنني أعتبر شخصياً أن الراييز هم الأكثر فرادة، لا مثيل لهم في تاريخ الروك ككل. برأيي على الأقل.
ربما أستطيع أن أنهي بكيجي هاينو، الذي أصبح عدو ميزوتاني اللدود لأسباب غير واضحة، رغم تعاونهم ولقاءاتهم أيام نشوء مشهد الروك في اليابان. يعتبر هاينو من أكثر شخصيات الأندرجراوند ظهوراً وشهرة في اليابان. يُقدَّم كصاحب رؤية جديدة للسايكاداليك روك، و“يحمل” على عاتقه مسؤولية المحافظة على الموسيقى الأصيلة ويتحدث دون مواربة عن تأثره بموسيقيين وفرق موسيقية مثل ذ دورز ومنير بشير عازف العود العراقي.
لا يمكن الحديث عن هاينو دون ذِكر فرقته المؤلفة من ثلاثي فوشيتسوشا التي أسسها عام ١٩٧٨، الفرقة – تبيّن بعد مضي الوقت أنّ معظم فرق النويز وسايكادلك روك اليابانية مؤلفة من ثلاثي– التي استمر نشاطها في الموسيقى لأكثر من عقد قبل أن تصدر أسطوانتها الرسمية الأولى عام 1993: Allegorical Misunderstanding التي تتضمن عشر أغاني. هذا طبعاً ما يجعلها تنتمي إلى مشهد النويز روك في اليابان الذي تميَّزَت جميع فِرَقِه بالاكتفاء بالعروض الحية وأسطوانة البوتليغ، بغضّ النظر إنْ أصدر أحدهم بعدها أسطوانات من الاستوديو أم لا.
هذه الفرقة تختلف عن الفرقتين اللتين تمّ ذكرهما، حيث تحمل رعباً أكبر في موسيقاها، وصخباً يشبه موسيقى الميتال في بعض المواضع، وهذا ليس غريباً طالما أنّ صاحبها هاينو الذي يعامل جيتاره كأنه يُخضِعه للتعذيب كي ينتزع منه المعلومات. هاينو الذي يتمنّى لو لم يوجد شيء اسمه الراييز، والذي يسعى إلى سحب العرش من تحت تاكاشي ميزوتاني رغم أن ميزوتاني لا يعطي كلّ هذا أي اهتمام، وربما لم يفكر يوماً في مفهوم العرش. فالروك آند رول كلّ ما يلزمه أن تكون جميلاً، والاثنان كانا جميلين بطريقتهما. الاثنان جميلان ولو كان لا يُستمع إليهما في الليلة نفسها، وإن فعلتَ هذا فقد تكون ثملاً.