.
التحوير ضمان الاستمرارية؛ وصفة بسيطة يستخدمها العديد من الموسيقيين بغرض مد حدود الجنرات وتطوير صوتهم الخاص واختراق أصواتٍ باتت مشبّعة. هذا التوجّه ملحوظ في النهج التفكيكي لمنتجي الموسيقى الراقصة، مع ظهور منتجين مثل رابيت وأمنيجيا سكانر وتشينو أموبي وآركا ولوتيك وكلمان دوران وآخرين، مدشنين ما يعرف الآن بالموسيقى الراقصة المفككة التي صهرت أنواعًا موسيقية شتى وفككت أخرى. رأينا أيضًا تحوير ٣فاز في الشعبي والبايس البريطاني الذي أضاف إلى جنراتين سادهما التكرار، كما فعل زولي في ألبومه الأخير أول كابس باختراقه الجانغل بأفكار وأساليب إنتاجية غير مألوفة.
يتّبع المنتج الفنلندي ساسو ريباتي (فلاديسلاف ديلاي) المعادلة نفسها منذ التسعينات، حيث بنى صوته التقليلي على اختراق جنرات بعينها وتفكيكها، كتفكيكه للدَب تكنو في ألبوماته الأولى مثل كايند أُف بلو ومولتيلا، وتجريده للهاوس في سيستول، وللجاز مع إضافة معالم الدَب في ويسلبلوَر وذَ فور كوارترز. يعود صوت ريباتي التقليلي في هذه الإصدارات وغيرها إلى الكليكس آند كاتس الذي عُرف أواخر التسعينات من خلال تسجيلات ميل بلاتو، حيث الخوض في الجنرات الشائعة وانتزاع هيمنتها التجارية. من الناحية الجمالية نرى حضورًا قويًا للتجريد والتقليل، وتركيزًا على التفاصيل الصوتية الدقيقة بالأخص في أقصى مدى عالي ومنخفض من الطيف الصوتي (sonic spectrum)، بالإضافة إلى التصميم الصوتي من خلال الجليتشات وما تتيحه من إمكانيات صوتية. استمر ريباتي باستخدام هذه الجماليات المايكروسكوبية لفترة طويلة، لكن مع إصداره راكا فاجأنا بتركه تقليليته وانحرافه إلى صوت تكثيري، سيطرت فيه المشاهد الصوتية العريضة والعنيفة مع تسليط الضوء على الضجيج.
في ألبومه الجديد، فن إيز نوت أ سترايت لاين، يفاجئنا ريباتي مرة أخرى باختراقه الفوت وورك، البعيد عن ما يتوقعه المستمع منه. إن كانت علاقة ريباتي مع الموسيقى الراقصة اعتمدت سابقًا على التقليل والتجريد، وهو ما أرى فيه طابعًا أكاديميًا، فيأتي ألبومه الجديد متمردًا، يكشف عن صوت تكثيري في الفوت وورك، مضيفًا إليه معالمًا جديدة وقالبًا إياه رأسًا على عقب.
يحتفظ ريباتي بعناصر الفوت وورك الأساسية، أصوات الـ ٨٠٨ والأصوات البشرية المتأتئة التي تعود عيناتها إلى الهيب هوب والآر آند بي والإيقاع السريع المتشابك، لكن ما يزيد الاستماع إليه متعة هو تبنيه سيولة للبنية المألوفة والأنماط الإيقاعية بحيث يصعب توقع النقلات في التراك الواحد على عكس أسلوب الجنرا الأصلي الثابت كما لدى دي جاي رشاد ودي جاي سبين. كما يحضر تلاعبه بالعينات البشرية بتشبيعها بالريفرب والديلاي في مقاطع كثيرة، بالإضافة إلى تكثيفه لطاقة البايس لتزويد الشحنة الراقصة للجنرا. تأتي التغيّرات حادة ومفاجئة مثل في ماذر فاك يو، مصحوبة بصوت عنيف وممتلئ.
تتشابك الإيقاعات إلى أقصى درجة في سبيد ميموريز وتتغير الأنماط كأن ريباتي يفكك الجنرا في وصلة دي جاي قصيرة. يوظّف ريباتي البايس بشكل ضجيجي، أما السنثات فتأتي صارخة والعينات البشرية مبعثرة وكثيفة ليخلق ذلك تباينًا مع بادز الفوت وورك التقليدية. يحضر الضجيج والتفكيك بقوة في فلاورز وإفري داي وفيديو فون كيتي، فمن ناحية نسمع تشويشًا وموجات عنيفة وتسجيلات ميدانية متناثرة، ومن ناحية أخرى تدميره لكل نمط إيقاعي وجملة موسيقية وعينة بشرية ليبلغ قمة التفكيك للجنرا، كاسرًا كل التوقعات. لا يأتي ذلك على حساب الطابع الراقص للفوت وورك، حيث يمتلك المنتج الفنلندي زمام الإيقاع ويتقن الخط الفاصل بين التجريب والصوت سهل المنال، كما فعل من قبل في ألبومه الكلاسيكي فوكال سيتي والذي تمحور حول تجريبه في الهاوس. تسود بعض اللحظات غير الموفّقة في بعض التراكات مثل في موفا ذات و٩٠ دريمز عندما يستسلم ريباتي للاسطمبات المألوفة، لكنه يكسر ذلك في الأخيرة بتوظيفه لخامات إيقاعية معدنية. أما في مونوليث، أفضل تراكات الألبوم، نلاحظ تحوّلًا بمثابة طفرة في الفوتوورك مع ضخ تأثير الجوم (Gqom) من خلال العينات البشرية، ومع تصدير الإيقاعات الممتلئة، ليأتي تأثيرها غامرًا على أجسام الراقصين.
أهم ما يميّز الألبوم هو تصميمه الصوتي الذي يتطرق إلى أصوات من عوالم إلكترونية تختلف عن الفوت وورك، وهو ما نتبينه في معالجة عيناته الصوتية وخاماته الإيقاعية غير المباشرة وسنثاته الغريبة، مع إضافة المزيد من الأنسجة الصوتية التي تتحدى المستمع. هنا يكمن نجاح تحوير ريباتي للجنرا. متسللًا إلى العديد من الجنرات ومتقنًا إياها، يكثّف ريباتي خبرته على مدار سنوات لتأخذ منحًى راقصًا شديد الحيوية. لكن لا يزال هذا المنحى اللعوب ملتوي وتجريبي. يغيّر ريباتي جلده باستمرار كما في هذا الألبوم، يعلن عن وجه جديد قادر على ضمان استمرارية الفوت وورك من خلال أفكار طازجة وحس مغامر جريء، محتلًا مساحة جديدة في حلبات الرقص تضاف إلى إرثه الموسيقي الضخم.