fbpx .

ريم بنّا والمقاومة المسلّحة

أحمد الزعتري ۲۰۱۳/۰۳/۱۷

أينما كان المستهلك، يستطيع أن يوائم شخصيّته الثقافيّة مع أماكنه بسهولة: مقهى سيدي شبعانفي تونس، ركوة عربوجفرافي عمّان، وفتّوشفي حيفا، وأنيسةفي رام الله. في كل هذه البؤر الثقافيّة الجديدة، أصبح الاستماع إلى قائمة تضمّ، بينها، أغانٍ لريم بنّا، عنصراً أساسيّاً من عناصر هذه الشخصيّة.

يغلب على هذه البؤر طابع واحد تم خلقه بالتناسخ قبل أن يكون منظّماً: الطابع المعماري التراثي، الأثاث الأنتيكمن الخشب غالباً، الزاوية التي تضمّ كتباً للمطالعة، وصور أيقونات ثقافيّة وسياسيّة عربيّة. هذه العناصر التي تحتوي حيّزاً مختلطاً بين المثقّفين الجدد والسيّاح الذين يجدون فيه أصالةوإن كانت مفتعلة، وجذوراًوإن تم التنبيش عليها وإخراجها إلى السطح، وسياحة ثقافيّة توفّر جوّاً معدوم الحساسيّة لكل ما سبق. وبالتالي: ادّعاء التحرّر من الإحساس بالذنب تجاه هذا الاستهلاك السلبيّ. وتعميماً للسائد الذي يُعدم أي تنافر أو تباين.

لا نستطيع إلا أن نرى في السائد خللاً كبيراً توافق عليه الجميع: وهي نفس الأدوات التي تحاول السلطة بكافة أشكالها أن تنشر الحقيقةمن خلالها. وإذا لم نكن نستعمل هذه الأدوات في التشويش على خدعة البناء المنظّم سياسيّاً ومجتمعيّاً وثقافيّاً، سنصل إلى ممارسات قمعيّة لا أخلاقيّة نساهم في خلقها جميعاً بوعيٍ بارد.

فإذا كنّا نستخدم وسائل الترفيه والميديا في تغذية نفس الغرض الذي أسّست من أجله، فنحن جزء من هذا النظام. وإذا كان التلفزيون، والانترنت، والإذاعة، ووسائل التواصل الآنيّة عبر الهواتف صمّمت لتطهير الشعور بالوحدة، فالاستغناء عن هذه الأدوات جريمة لا أخلاقيّةليكون الحل في استعمالها بغير غرضها: التشكيك في السائد، وفضح التحالفات القمعيّة، وإعدام أسباب وجودها بالتأكيد على الشك وانتزاع الحقيقة من مدّعي الترويج لها والدّوس عليها.

لذلك، ممارسة الإحلال الجسديّ القاسي للأيقونات على طاولات المقاهي مثلاً، بتحالف مع الميديا، يحقّق، بشكل كامل، الشخصيّة الثقافيّة. وبالتالي: تغييب كل حساسيّة نقديّة تجاه منتجها الثقافي بقمعيّة شديدة.

ريم بنّا تتعمّد ذلك، وتدفع بحضورها الافتراضيّ المتواجد في كل مكان، وتزور هذه البؤر، وتجلس على طاولاتها، محقّقةً التكامل الزائف: الأيقونة تجلس بجسدها الواقعيّ تحت صورتها، وفي محيطٍ يغمره صوتها.

ريم بنّا حاضرة في كل مكان: في المقاهي، على الفيسبوك، تويتر، الاقتباسات الشائعة، في الجمل التي تذيّل الإيميلات، في سمّاعات الأصدقاء وحواسيبهم، في اكسسوارات وخلاخل الصديقات. حتى أن حضورها يكاد أن يبدو معتاداً خارج حفلاتها الموسيقيّة.

بمعادلة بسيطة، نجحت أغاني ريم بنّا باحتلال، والمساهمة بخلق، ماكنة الاستهلاك الثقافيّ الكونيّة: يجد حضورها مكاناً له إلى جانب صور جمال عبد الناصر، وجورج حبش، ومحمود درويش، وغسّان كنفاني، ومريم العذراء. وبالتالي: اصطناع القدسيّة، والإيهام بقمعيّة الحضور.

تتحمّل أغاني ريم بنّا مسؤوليّة الترويج لهذه القدسيّة: ممتلئةً بحضورها الجسدي، مستهلكةً لصورتها السائدة، ومحتويةً لكل القضايا الراهنة السائدة بسرعة تجعل مراقبة الخلل في هذه المنظومة الاستهلاكيّة أسهل من الإشارة إليه.

بدأت ريم بنّا مسيرتها بمحاكاة لتجربة فلسطينيّة متثاقفة أخرى تمثّلت في جورج قرمز، الذي برز واختفى في الثمانينيّات. ظهرت تجربة قرمز بهدوء، واستمرّت بنفس الوتيرة التي تحافظ على رومانسيّة العمل الثقافي الثوري، لتنتهي بهدوء كما بدأت.

ففي أغنية الويل لكمالتي يحذّر فيها الشعب المتواضعمن الاقتناع بالأمر الواقع، يغني قرمز بلحن أقرب إلى ألحان أوبريتات مرسيل خليفة الحالمة إذا لم تكن المتفجّعة. ببناء موسيقي مشيّد على تنافر نغمة المايجور شبه العسكريّة في عصر الباروك الصالوناتي، ونغمة الماينور التي يضاعف الكمان تفجّعها ويغذّي الشعور بالضيق والحزن.

الرسالة هنا نبيلة في تحفيزها، لكنها رجعيّة في تحميلها المسؤوليّة الكاملة لهذا الشّعب.

فما هي رسالة أغاني بنّا، وخاصة أسطوانتها الجديدة تجليّات الوجد والثورة؟

منذ أن أطلقت باكورتها جفرا” (1985)، ثم دموعك يا أمي” (1986)، والحلم” (1993) (بالتعاون مع زوجها الموسيقيّ الأوكرانيّ ليونيد ألكسيينكو، ومن كلمات الشاعرين توفيق زيّاد وسميح القاسم)، وجّهت ريم إنتاجها لـخدمة القضيّة الفلسطينيّة“. طارحةً شكلاً سطحيّاً لأغاني المقاومة: طبقة الصوت العالية والمتفجّعة، والتعتيم على الهشاشة والضعف في الموسيقى، والكلمات التي تنتمي إلى عصر آخر. معتمدةً على قالب موسيقيّ واحد وسطحيّ يستطيع أن يستوعب أغانٍ عن المقاومة، الاحتلال، التراث، الحبّ، التصوّف، من دون حساسيّة واضحة لتغيّر هذه المعاني، أو تفاعل لعناصرها.

والنموذج المثاليّ لهذا التسطيح يتّضح في تجليّات الوجد والثورة“. ضمّت هذه الأسطوانة أغانٍ من قصائد لا يجمع بينها إلا التحديق في هاوية ليست هاويتنا: التصوّف في شعر ابن الفارض، وقصائد اليافعين لبدر شاكر السيّاب: “أنشودة المطروغريب في الخليج، وقصيدة للشاعر، الذي تم اكتشافه من مجتمع الاستهلاك مؤخّراً: راشد حسين الغائب“. وبالطبع أثر الفراشةلمحمود درويش.

نتحدّث هنا أيضاً عن غياب اللحن كمشروع تراجيديّ استسلاميّ يُعدم أيّ فعل ثوريّ متحدٍّ. مجرّد مواويل متفجّعة بخلفيّة موسيقيّة مزركشة واكسسواريّة تقوم بملء فراغ يستوعب، باعتباط، نداء أذان، كما في أغنية الغائب“. أو مقطع راباعتباطيّ أيضاً في أغنية لا تزيديه لوعةللسيّاب. وفي أغنية أثر الفراشة، يغيب اللحن تماماً كامتياز طبقيّ يعتمد على اجتذاب الثقافة الدرويشيّة: حيث يتم تفريغ اللحن من معناه، والاعتماد على جملٍ محكيّة بصوت ممنتج ومُقنّى، مع بثّ ارتجالات لقانون هنا، أو ناي هناك، وعود بينهما.

يستمر هذا الأداء الفارغ في عجبتُ منك ومنّيمن قصيدة للحلّاج، وفي أحبّك حبّينمن قصيدة لرابعة العدويّة، بإنتاج حرفيّ ممتاز بالفعل. إلا أنّه لا يساهم إلا بالتجهيل وتوزيع الامتيازات التي تساهم بتدعيم أسباب الاستهلاكيّة في المقام الأوّل.

بذلك، تدّعي أغاني بنّا، والتي وصلت إلى ذروتها الشعبويّة في أسطوانتها الأخيرة، التحديق في الهاوية“. لكنها تدعو، في الوقت ذاته، إلى الابتعاد عن هذا التحديق. من خلال تناول القضايا الصراعيّة والجدليّة بهذه المرونة التي لا مكان لها، وتعميمها.

ولأن السائد يقضي بانعدام حساسيّة النقد والتطوّر والثوريّة الفنيّة، تم تلقّي ريم بنّا كفنانة فلسطينيّة تغنّي أغاني التراث والمقاومة الفلسطينيّة، من دون أي مراجعة حقيقيّة للتجربة.

وإن كانت وظيفة الأصالة الفنيّة هي النقد الثوري، لأنهما تحمل إمكانيّة هدم السائد وبثّ طاقة رفض للمجتمع الاستهلاكيكما قال ثيودور أدورنو (1)، فإن غياب اللحن في أغاني ريم بنّا، نتيجة طبيعيّة لهذا التباين بين الثوريّة والاستهلاكويّة. إلى الحد الذي دفع بالفنانة للتبجّح: “لا أجد حرجاً من تصنيفي فنانةً في خدمة القضية الفلسطينية. دوري في النضال والمقاومة لا يقل عن دور المقاومة المسلّحة. بدأت أُتعب الاسرائيليين بصوتي الذي اخترق الحصار، لينقل معاناة الشعب الفلسطيني إلى العالم“. (2)

بمعنى أنها تحقّق جملة تيري إيغلتون الساخرة: “أنا أفكّر، إذاً، على أحدهم أن يؤدّي العمل الشاق“.

كل هذه العناصر تتحقّق في تجليّات الوجد والثورة“: توليفة ترضي الجميع وتجد مكانها في البؤر الثقافيّة بسهولة، من دون أن تتبنّى خطاباً آيدولوجيّاً أو فكريّاً حادّاًغير مزعج، والمنح المجانيّة التي تتمثّل في أن جيناتي الموروثة أصفى وأطهر من البقية، وأنّ وطني أجملخاصة إذا كان محتلّاً“.

الأمر الذي يدفعنا للتساؤل: انزع عن عمر سليمان عقاله، ماذا يبقى؟ عن مرسيل خليفة برجوازيّته، عن ظافر يوسف تموصفه. وانزع عن ريم بنّا فلسطينيّتها. هل يبقى ما يمكن أن نسمّيه فنّاً؟

الجواب: بالتأكيد لا. التشكيك والوعي هما فقط ما يصنع الأصالة الفنيّة، وريم بنّا لا تناقض ذلك فقط، بل تتعمّد العمل ضدّ هذه الأصالة بكل طاقة إنتاجها. مترفّعةً عن التأثير الحقيقيّ على الشارع.

ففي فيديو نشر مؤخّراً على يوتيوب، قامت جماعة فنيّة من تونس بالعزف والغناء في محطّات القطارات، وأمام المؤسّسات الحكوميّة وفي الشوارع. ببداية الفيديو، قابلت الجماعة عاملة نظافة يبدو أنها في نهاية الأربعينيّات تقول ما يمكن أن يكون مانفيستو يجب أن يُعلّق برقبة منتجي الفن المزيّف، على شاكلة ريم بنّا: “الواحد من دون الفن ما يعيش: اللي قلبه مهموم، واللي ما يجيش النوم، واللي مغروم: يلزمه الفن“.

نكاد أن نجزم بأن غياب اللحن يساوي تسطيحه. ما يؤدّي بالنهاية لتحميل الإنتاج الموسيقيّ إلى صناعة ثقافيّة مزيّفة تعتمد على إغراق قمعيّ للقضايا المعاصرة. كوسيلة لإعدام التأمّل مقابل صعود اليقين السلفيّ. وتجريم التشكيك مقابل ترسيخ المطلق، والتعتيم على الحقيقة بضخّ أموال الإنتاج الموسيقيّ: أو وضع الحقيقة في جيب الجينز الخلفيّ، والتظاهر بالتحديق في الهاوية.

المراجع

  1. فلسفة الموسيقى الجديدة. ثيودور أدورنو

  2. جريدة الأخبار. العدد 311. السبت 25 آب 2007

المزيـــد علــى معـــازف