fbpx .

زَمَنُ الموسيقَى ومكانُها | مقدمة في فلسفة الموسيقى

كريم الصياد ۲۰۱۷/۰۳/۳۰

تطرقنا في المقالات السابقة إلى بعض الجوانب البسيطة في موضوع فلسفة الموسيقى، أي جانب علاقة الموسيقى بالفَقْد، كما حاولنا تكوين ذلك الجانب كمنظور تأويلي للعمل الموسيقي. في هذا المقال نركزّ على هذا الجانب باستفاضة أكبر. وكما يعلم المتخصصون، ففلسفة الموسيقى عنوان ليس في حد ذاته جديدًا على الفلسفة أو الموسيقى، ولكن المختلف في هذا المقال ربما هو طرحه الفلسفي للموسيقى نفسها كوجود ومعرفة، بينما اقتصرت أغلب المحاولات وأشهرها في فلسفة الموسيقى، كأطروحات أفلاطون وأرسطو وهيجل ونيتشه وشوبنهور وفاجنر وغيرهم، على البحث الفلسفي في الموسيقى كفن، أو ما يعرَف بالفلسفة الجمالية للموسيقى يجدر بنا في هذا المقام أن نشير إلى الدراسة البحثية التي أنتجتها الدكتورة آيات ريان في قسم الفلسفة بكلية الآداب/جامعة القاهرة بعنوان فلسفة الموسيقى وعلاقتها بالفنون الجميلة، والتي صدرت منذ أعوام بالقاهرة مطبوعة. وهي إحدى الدراسات القليلة في موضوعها على المستوى العربي، التي تتعامل مع المنجَز البحثي السابق، كما أنها بحث في الفلسفة الجمالية للموسيقى بالأدقّ، وكما تصرّح المؤلفة، وليست في فلسفة الموسيقى بالمعنى في المتنفي هذا المقال، سنحاول تقديم ما هو جديد وليس فحسب رصد الأدبيات القائمة. كل الأعلام المذكورين قد عالجوا خصائص الموسيقى كفن من وجهة نظر مذهبية، بحيث تعد فلسفة الموسيقى الجمالية لديهم جانبًا مِن جوانب فلسفاتهم في الفنون الجميلة عامّة، التي هي بدورها جوانب مِن مذاهبهم الفلسفية. وسوف يكتشف القارئ المتخصص بالذات مع قراءة هذا الطرح الحالي كيف أن فلسفة الموسيقى تتقاطع بالفعل مع فلسفة الفن، كما يصعب فصلها عن منظور معين لكاتب هذه السطور، لكنه حين يكتشف ذلك سيتبين له في الآن نفسه قدرًا أكبر نسبيًا مِن محاولة الاستقلال بالمبحث إذا ما قورن بأغلب المحاولات السابقة.

لذلك ينقسم المقال إلى خمس فقرات أساسية، هي على الترتيب:

• ماهية الموسيقى: ويشتمل على علاقة الموسيقى بالزمان، وبالمكان، وبالحركة (وهي تقاطع الزمان والمكان)، وباللغة وبالرياضيات وبالذاكرة. وبالتالي يبلور الموسيقى كمبحث مستقل نوعًا عن الفن، دون الفقدان الكلّي للصلة معه.

• فلسفة عناصر الموسيقى: وهو تطبيق ماهية الموسيقى على عناصرها الأوّلية: اللحن، والإيقاع، والهارموني، والتوزيع، والتلوين.

• فلسفة الأشكال الموسيقية: وهو تطبيق على الأشكال الفنية للموسيقى: كالسيمفونية، والكونشرتو، والأوبرا، والباليه، والفوجة، وأشكال موسيقى الحجرة.

• فلسفة الأداء والتلقِّي الموسيقيين: وينقسم الأداء إلى العزف والقيادة، والعزف فردي أو جماعي، والتلقِّي تِقَني أو مَشْهَديدرامي أو حَرَكي.

• وأخيرًا: الموسيقى كفلسفة في التاريخ والكينونة: وهو يطرح بتركيز أكبر علاقة الموسيقَى بالفَقْد.

أولاً | ماهية الموسيقى

يبدأ تتبعنا لماهية الموسيقى بطبيعة الحال مِن رؤية نقدية لأبحاث سابقة جديرة بالاهتمام، طبقًا لآلية الاستيعاب والتجاوز، ودرءًا للقطيعة المعرفية، التي هي في أغلب الأحيان سهلة وسطحية. وربما تكون أكثر البدايات وجاهةً في هذا المقام هي تصنيف الفنون. فقد صنّف الفلاسفة والنقاد الفنونَ طبقًا لعدد مِن المحاور المتنوعة، أشهرها وأهمها ثلاثة، هي على الترتيب التاريخي:

• المحور المادي: أي تصنيف الفنون طِبقًا للمادة موضوع المعالَجة الفنية، ويتصدر هذا التصنيف اسم أرسطو. فقد صنف أرسطو الفنون على أساس المادة المعالَجة في كل منها: فنون المرئيات: الفن التشكيلي، وفنون المسموعات: الموسيقى، وفنون اللغة: الشعر، وفنون الحركة: الرقص أرسطوطاليس: كتاب أرسطو فنّ الشعر، ترجمة وتقديم وتعليق: إبراهيم حماده، مكتبة الأنجلومصرية، دون بيانات أخرى، صـ ٥٥-٦٨.. وهو أبسط التصنيفات وأقربها إلى البداهة المشتَرَكة، لكنه لا يتطرق إلى تفاصيل هامة عديدة في علاقة الفنون بالأبعاد الطبيعية، لذلك يُعَد سطحيًا نوعًا ما مقارنةً بما يليه. لأرسطو محاور أخرى للتصنيف يضيق عنها هذا المقام، مثل محور المحاكاة/التكميل: فنون تحاكي الطبيعة كالتصوير، وفنون تكمِّل الطبيعة بإضافة موجودات جديدة إليها كالعمارة، ومحور المضمون، ومحور الأسلوب.

• المحور البُعْدي: أي تصنيفها على أساس أبعاد العالَم الطبيعي مِن زمان ومَكان، ويبرز هنا اسم لسنج، أحد فلاسفة التنوير الألمان في القرن الثامن عشر (+١٧٨١)، حيث صنّف الفنون في كتابه الشهير لاوْكُوُون Laokoon إلى فنون زمانية، تحدث في الزمان وتتعامل مع علاقاته، كالموسيقى والشعر، وفنون مَكانية، توجَد في المَكان وتتعامل مع العلاقات المَكانية، كالعمارة والتصوير Lessing, Gotthold Ephraim, Laokoon, oder über die Grenzen der Malerei und Poesie, The Clarendon Press, Oxford, 1892, S. 28-29. وهو أشهر التصنيفات وأكثرها شيوعًا إلى اليوم. وهو يُنسَب إلى كثيرين أيضًا غير لسنج، فهو قائم ضمنًا عند شوبنهور مثلاً على الأقل في تصوره عن العمارة كفن مكاني والموسيقى كفن زماني يطابق حركة الإرادة: انظر مثلاً: Schopenhauer, Arthur, Die Welt als Wille und Vorstellung, herausgegeben von Ludwig Bernde, zweiter Band, München bei Georg Müller, 1913, S. 573-574. Siehe auch: Schopenhauer, Arthur, Die Welt als Wille und Vorstellung, erster Band 3. vermehrte und verbesserte Auflage, Leipzig (Brockhaus) 1859, S. 272-273. وهو أعمق التصنيفات وأكثرها استقلالاً بالموسيقى عن المذهب الفلسفي، لكنه يغفل علاقة الزمان بالمكان في الفن الواحد، كما لا يفسّر ماهية فنونٍ أخرَى تتحرك خارج الأبعاد كلّيةً كالأدب، ويخلط بين تلقي الفن وماهية الفن، فكل فن يتم تلقيه في زمن، ومنه الشعر والموسيقى، لكن الشعر يتمثّل كتصورات مجردة ذات مضامين في الذهن، بينما لا تحقق الموسيقى مثل هذه التصورات.

• المحور الشكلي/المضموني: أي تصنيفها اعتمادًا على علاقة الشكل بالمضمون، وهنا يبرز اسم هيجل (+١٨٣١)، الفيلسوف الألماني الأهمّ بعد كانط، الذي صنّف الفنون حسب درجة سيادة المضمون على الشكل، فالشِّعر مثلاً (مرحلة) أرقى لديه مِن الموسيقى؛ بسبب قدرة الشعر على تعيين مضمون محدد، وغموض المضمون الموسيقي، والموسيقى في ذلك أعلَى مِن النحت، والنحت أعلَى مِن العمارة Hegel, Georg Wilhelm Friedrich, Ästhetik, herausgegeben von Friedrich Bassenge, Aufbau-Verlag Berlin, 1955, S. 586-589. وهو أقل التصنيفات استقلالاً بالموسيقى عن المذهب، ولا يمكن النظر إليه بوجاهة عادةً إلا مع فهم مذهب هيجل. لكن ما يميّزه أنه تصنيف تطوريديالكتيكي (جَدَلي)، يعتبر كل فن (مرحلةً) في سياق تطوري للفنون (المراحل) الأخرَى، بل يعتبر الفن نفسه مرحلة قبل الدين، والدين مرحلة قبل الفلسفة. في حين يعتبَر التصنيفان السابقان إستاتيكيين (غير تطوريين). وبالتالي يفضي كل فن إلى غيره في ترتيب معين لتلك المراحل طبقًا للمنهج الجدلي في صورته المثالية (الهيجلية)، عاكسًا في الآن نفسه مراحل تاريخية مترابطة في حياة الإنسان.

وبرغم الانتقادات السابقة، فإن كل محور من هذه المحاور ذو وجاهة معينة؛ فلا يمكن استبعاد المادة الفنية في فهم ماهية الموسيقى، لكنها لا تكفي لتفسيرها على نحو أكثر شمولاً، ولا يمكن قطعًا استبعاد علاقة الموسيقى بالأبعاد الطبيعية التي تتمثّل فيها كأعمال فنية، لكنها لا تكفي وحدها للنفاذ إلى ماهيتها، بينما يمكن النظر فعلاً إلى الفنون في إطار تطوريتاريخي؛ فبعض الفنون كان أسرع تطورًا مِن البعض، وبعضها كان سائدًا في مراحل تاريخية معينة مقابلةً بالبعض، وليس مِن قبيل التزمّت المذهبي افتراضَ أن الفن انعكاس عَمَلي للتاريخ الإنساني. وبنظرة تحليليةتركيبية يمكن إعادة هذا التصنيف على وجه مختلف، قد يكون أثرى في الطاقة التفسيرية.

فالفنون فعلاً تنقسم حسب محور الأبعاد الطبيعية (الزمان والمكان) إلى: فن مَكاني، يضمّ العمارة والتصوير والبَسْتَنَة والتخطيط العمرانيالجَمالي وغيرها مِن فنون تستعمل علاقات المَكان، والكتلة، وصراع الجاذبية والحَمْل، واللون والظل، إلخ، وفن زماني، يضم الموسيقى بشكل أساسي، وهي تستعمل علاقات الزمان مِن التتابع والإيقاع والحَدَث، وفنون مركّبة مِن أبعاد الزمان والمكان، وتضم الفن الديناميكي، كالرقص، الذي يحدث في الزمان والمكان كليهما، وفنون مجرَّدة، لا تحدث في أبعاد طبيعية، بل تتعامل مع المفاهيم والأفكار، وهي فنون الأدب، وفنون مركبة مِن الفنون الزمانيةالمكانية والمجرَّدة، مثل الأوبرا والمسرح والسينما. وهو تصنيف رباعي، خلاصته: فنون بُعْدِيَّة بسيطة: التشكيل والموسيقى، فنون بُعدية مركَّبة: الفن الديناميكي، فنون مجرّدة: الأدب، فنون بُعديةمجرّدة أو فنون مركّبة من البُعدية والمجرّدة: كالأوبرا والباليه والمسرح والسينما والغناء. والتركيب بين الفنون البسيطة لإنتاج فنونٍ مركّبة يحدث إما على وجه تَكَامُليّ مثل تكامُل تعيُّنِ المضمونِ الشِّعري مع غموض المضمون الموسيقيّ في الغناء، أو تمثيلي مثل تمثيل حركة الجسد للإيقاع الموسيقيّ في حالة الرقص.

وهذا التصنيف الرباعي الذي نقترحه، والذي يعتمد على علاقات الأبعاد، وعلى نوع المادة الفنية، هو تصنيف تطوري أيضًاكما سيتضح أكثر في تفاصيل المقال التاليةنظرًا لأن الفنون تعكس مراحل تاريخية، لكنها غير مرتّبَة في اللولب الديالكتيكي الهيجلي، بل في شكل دَوَرات حضارية، هي أقرب إلى ساعة تاريخية، لا تعدّ الزمنَ بل عُمْرَ الحضارةِ نشوءًا وارتقاءً واضمحلالاً، وهو ما سنرجئه إلى الفقرة الختامية مِن المقال.

وما يميّز الموسيقَى أنها فنّ زماني على الأصالة، أي أنه (يحدُث) في زمن بلا مكان. وهو ما يمنحها قدرًا كبيرًا نسبيًا مِن التجرد مِن المضمون، إذا ما قورنت بالتشكيل والشعر مثلاً. ورغم أنّ الشِّعر يُقرأ أو يُسمَع في زمان، إلا أن مادته الفنية هي التصورات المجرّدة. أما في الموسيقى فإن المادة الفنية هي الزمان نفسه، وهو ما يشكّل لبَّ ماهيتها. فبينما تتلاعب العمارة بالحيّز والتحيُّز والكتلة والتكتُّل والحَمْل والجاذبية، وبينما يتلاعب الشعر بالأفكار والمفاهيم بشكل أساسي، تتلاعب الموسيقَى بالأحداث المجرّدة مِن المضمون، أو بالأحرى تتلاعب بـ(الحُدُوث) نفسه بلغة الميتافيزيقا، أو بـ(الفِعْل) بلغة النَّحْو العربي Action. وناتج هذا التلاعب في كل مِن الفنون الثلاثة لا بدّ مِن أن يكون بطبيعة الحال متوَلِّدًا مِن مادة التلاعب؛ فالشعر يخلق تصورات جديدة مِن تصورات قديمة في إطار لازمكاني مجرَّد، والعمارة تشكّل مكانًا مختلفًا ومُتَمَكِّنًا جديدًا مِن مكان ومُتَمَكِّن سابقين، ولكن كيف تُنتِج الموسيقى زمنًا؟

إضافةً إلى السؤال السابق: ألا نجد قدرًا واضحًا أحيانًا مِن التداخل بين الماهيات الأساسية للفنون حسب ذلك التصنيف الرباعي السالف، موسيقى الشِّعرمثلاً؟ وبناءً عليه كيف نعدّ الموسيقى مثلاً الفنَّ الزماني بالألف واللام؟ إجابة ذلك أن الفنون فعلاً قد تتداخل دون أن يعني ذلك تماهيها، فيمكن تحليل مصطلح مثل موسيقى الشعر مثلاً بناءً على التصنيف الرباعي دونَ إخلالٍ به. فـ موسيقى الشعر يعبّر عن درجة مِن التداخل بين الشعر والموسيقَى، وهو تداخل عرَضي، أيْ غير جوهري وغير ماهوي، وهو ما سمح مثلاً بظهور قصيدة النثروانتشارها حديثًا، أَيْ أن حضور الموسيقى في الشعر ليس شرطًا في ماهية الشعر. وبالتالي فمفهوم موسيقى الشعر ليس تداخلاً بين ماهيات الفنون، بل هو كالغناء، الذي هو تداخل أيضًا بين الموسيقى والأدب. موسيقى الشعر تداخل بين الموسيقى والأدب يجعل للأدب الأولوية، بينما يمثّل الغناء تداخلاً مختلفًا يمنح الموسيقى درجة مساوية للأدب، وأحيانًا كما سيلي في فقرة الموسيقى واللغةأعلَى منه.

ولكن ظاهرة التداخل بين الفنون أعقد مِن ذلك؛ لأن هذا التداخل إذا وُضِع في سياق (الإنتاج) سابق الذكر يعني أن بمستطاع بعض الفنون، إن لم يكن كلّها، إنتاج الزمان وإنتاج المكان. هذا فعلاً صحيح، لكنه لا يحدث في كل فنّ بالأسلوب نفسه، ولا بالدرجة نفسها. لهذا لزم أن نخصص فقرة لكل مِن هذين الصنفين مِن الإنتاج ولما يمثّل التداخل كذلك بينهما، أي الحركة:

إنتاج الزمان

أشدّ ما يلفت الانتباهَ في رأيي في فيلم Inception تلك الفكرة عميقة الدلالة في استعمال أغنية Non, Je Ne Regrette Rien لإديث بياف كمُنَبِّه، يؤذن بقرب انتهاء الحلم. وتفسير ذلك في الفيلم أن زمن الحلم مختلف عن الزمن الطبيعي، وبالتالي تطلب الأمر ساعةً مختلفة، زمنًا مختلفًا، تقوم الأغنية بقياسه حين تعجَز الساعة عنه. وبقطع النظر عن مدى عِلميّة هذه الفكرة؛ فقد تخضع الأغنية في إدراك الحالِم أيضًا لزمن الحلم، وتستغرق وقتًا يختلف عن زمنها الأصلي، إلا أن الفيلم أصاب حقًا في تصور الموسيقى، دون قصد ربما، باعتبارها زمنًا، وهو بيت القصيد في تحديد ماهية الموسيقى الأصيلة.

إن الموسيقَى ليست فحسب فنًا يحدث في الزمن، أو يتلاعب فقط بالزمن، إنها هي نفسها زمن. ومِمّا يجانب الدقة أصلاً قولنا “إنّ الموسيقى (تحدُث في) زمَن؛ فهي عن طريق الإيقاع، أو الزمن الذي يستغرقه اللحن في الموسيقى اللا إيقاعية كما سيلي بوضوح أكبر في فقرة فلسفة الإيقاع تحوّل ذهن المستمِع مِن الزمن الطبيعي، الذي تعده دورات الساعاتِ والأجرامِ السماويةِ، إلى زمنٍ آخَر له حسابات مختلفة. ولهذا فإن مِن غير الدقيق قولنا “إن (الموسيقى/الزمن) تحدث في زمن؛ هي بالأحرى تخلق زمنًا بديلاً (تحدث فيه) أحداث ما، كما يخلق المصوّر بفنه مشهدًا مُتخيَّلاً. والعنصر الموسيقي الأساسي مِن هذا الوجه هو الإيقاع.

ومِن الطبيعي الآن أن نتصور كيف تعيد الموسيقى بناء العالَم؛ نظرًا لارتباط ظواهر العالَم بالزمن. على أنّ أهم الظواهر المرتبطة بالزمن، بل التي تمثّل التداخلَ المتوازِنَ بين الزمان والمكان، هي الحركة. والموسيقى تخلق أنماطًا متنوعةً مِن الحركة. ونظرًا لأهمية هذه الظاهرة فإنها مُرجأَة قليلاً إلى فقرة مخصصة لها، لكننا نوردها في هذا الموضع لسبب وجيهٍ: هو أن الحركة لا تحدث إلا في مكان، ولا يمكن تصور مكان لا يسمح بالحركة (هذا إذا اعتبرنا أن المقصود بالحركة هو حركة النُّقْلَة أي مِن مكان إلى مكان). مما قد يعني أنّ الموسيقى قادرة كذلك على إنتاج المَكان. وهو موضوع الفقرة التالية. ولكن إذا كان الإيقاع هو العنصر الموسيقِيّ الأساسي في عملية إنتاج الزمن، فما بالضبط العنصر الموسيقِيّ المنتِج أكثر مِن غيره للمكان؟

إذا فرضنا أن عناصر الموسيقى الأوّلية ثلاثة: الإيقاع واللحن والهارموني، باعتبار (الطابَع) عنصرًا مضمونيًا مترتّبًا على اختيار معين لهذه العناصر الثلاثة السابقة، وبالتالي صار ثانويًا، وباعتبار المقام تابعًا لعنصر اللحن، فإنّ الهارموني هو العنصر الأبرز بين تلك العناصر في إنتاج المَكان، كما سيلي. أما اللحن فهو معبّر أكثر مِمّا سواه عن الموسيقَى كلغة منتجة للمضمون، وبالتالي عن علاقتها بالأدب، وإن كان المضمون الموسيقي مختلف جذريًا عن المضمون الأدبي؛ إذ لا يتعلّق بتصورات محددة كالأدب. وهكذا يمكن إعادة تحليل الموسيقى إلى ثلاثة عناصر مِن جهة الإنتاج: عنصر منتِج للزمن (الإيقاع)، وثانٍ منتِج للمكان (الهارموني)، وثالث منتِج للمضمون الموسيقي (اللحن). لكنها قبل مزيد من التحليل عناصر متضافرة عادةً في إنتاجها، بل ومتضافرة أيضًا مع غيرها مِن عناصر ثانوية كالصيغة والشكل والطابع وغيرها في تخليق كَونٍ Being مترابط بعلاقات داخلية، له أسلوب في الإحالة إلى الكون الطبيعي يختلف باختلاف كل عمَل قليلاً أو كثيرًا.

إنتاج المكان

يحدث إنتاج المكان موسيقيًا عن طريق ثلاثة عوامل: الهارموني، كما سيلي تفصيله في فقرة مستقلة، والحركة، وإنتاج الزمن نفسه. فالعنصر نفسه الذي ينتِج الزمنَ البديلَ، أَيْ الإيقاع، هو الذي ينتِج كذلك حركة بديلة، وإنتاج الحركة موضوع الفقرة التالية، لكن الأهم هنا أن هذه الحركة كما سبق ذكره منتِجة تلقائيًا لتصورنا عن مَكان تحدث فيه، بسبب استحالة حدوثها دون مكان، كما سلف ذكره أيضًا. باختصار: لا يمكن تصور إيقاع بلا نُقْلَة، ولا يمكن تصور نُقْلَة بلا مكان. لكن أهمّ الخصائص الماهوية في الموسيقى التي تنتِج المكان هو أنها (تسمح) بإنتاج المكان، فبدون هذا السماح بدءًا تنتفي من الأصل إمكانية إنتاجه.

تسمح الموسيقى ليس فقط بإنتاج المكان، بل تمكننا من وضع تصورات مكانية لا نهاية لها أثناء الاستماع في أشكال هندسية فراغية شفّافة، تمثّل لنا ما نسمعه في هيئة بُنَى لا نهاية لها مع كل تأويل جديد للعمل نفسه؛ والسبب في ذلك أنها أكثر الفنون البُعديّة عمومًا تحررًا مِن المكان. هذه الحرية تسمح لوعينا أن يحلّق مجازًا وتقريبًا فوق المكان ذاته، وليس فقط فوق (مكانٍ ما) كما يحقق لنا الطيران مثلاً. إنها الأكثر إطلاقًا بين الفنون البُعدية للوعي مِن سلاسل المكان دون أن تلقي بنا إلى الفراغ. ورغم أن الشعر فن أكثر تجرُّدًا مِن الأبعاد، باعتباره فنًا لازمكانيًا، فإنه أقل إنتاجًا للمكان مِن الموسيقى؛ لأن الموسيقى لا تسمح فقط بتصورات غير متناهية عن المكان، بل (تدفعنا) أثناء الاستماع إلى وضع هذه التصورات. ويحدث هذا (الدَّفْع) بسبب الحركة التي يخلقها الإيقاع، والتي لا نتصورها إلا في مكان.

إنتاج الحركة (أو فلسفة الرقص)

رغم أن الموسيقى لا تحدث في مكان، وبرغم ذلك قادرة على إنتاجه تخيليًا كما سبق، فهي غير منبتة الصلة بالمكان الطبيعي. والمقصود بالحركة في هذا السياق حركة النُّقلة؛ نظرًا لأن كل تغيّر حركة Kinesis. وأساس العلاقة بين الموسيقى وبين المكان الطبيعي هو هذه الحركة، التي تتولّد عن طريق الإيقاع. يدفع الإيقاع جسد السامع بشكل أو بآخر إلى التعبير الحركي عنه، فحتى إذا كان السامع ثابتًا في المكان، فهو يعبّر بحركة ما عن الإيقاع بيديه أو بهزّ الرأس مثلاً. وأوضح تمثيل حركي للموسيقى هو الرقص. الرقص هو التمثّل الأقصى للإيقاع، وهو اندماج الجسد في الزمن، الذي تنتجه الموسيقى. هو كذلك ذوبان للذاتية في تيّار هذا الزمن الإيقاع. وحين يحدث في مجموعة، مثل رقص الديسكو، فهو ذوبان أيضًا في المجموع في سبيل كينونة جمعية أسمَى، وهذا الذوبان هو الظاهرة التي عبّر عنها نيتشه في سياق طرحه للعنصر الديونيسي في الفن Nietzsche, Friedrich, Geburt der Tragödie, oder: Griechenthum und Pessimismus, C. G. Naumann, Verlag, Leipzig, 1907, S. 19-20.. مع ذلك فهناك سوى هذا النوع من الرقص أشكال مختلفة من الحركة أقدر تعبيرًا عن الموسيقى ككل، وليس الإيقاع فقط.

تتمثّل الموسيقى حركيًا في أربعة أشكال رئيسية سوى الرقص، هي حسب ترتيب الأهمية مِن جهة التعبير عن كافة عناصر الموسيقى: الباليه، والموسيقى المصاحِبة (كما في السينما)، والمَشْي، والانطلاق. إن الباليه هو أعلى أشكال التمثل الحركيالدرامي للموسيقى؛ لأنه لا يكتفي بعنصر المصاحَبة، إذ يتمثل بالإضافة إلى الإيقاع اللحنَ والطابَعَ كذلك. ومِن الصعب استبدال موسيقى باليه معين بأخرى، لذلك فالعلاقة بين موسيقى الباليه وبين قصته ورقصاته أقوى منها في حالة السينما الصامتة مثلاً. والعامل الحاسم في مدى قوة ارتباط الموسيقى بالعمل الدرامي هو مدى دقة وامتداد التوازي بين تتابعات الموسيقى وتتابعات العمل الدرامية؛ فالباليه عمل درامي بالأساس. أما في أغلب أعمال السينما الصامتة والناطقة فموسيقاها أقبَل للاستبدال نسبيًا؛ لأنها أقل توازيًا وتمثيلاً للتتابعات الدرامية منها في حالة الباليه. ومع ذلك فبين مؤلفي الموسيقى التصويرية المصاحِبة للأفلام مَن هم أقدر مِن غيرهم على تحقيق درجة أكبر مِن التوازي والتمثُّل؛ فإنيو موريكوني مثلاً، وبالذات في أشهر أعماله: موسيقى فيلم The Good, the Bad and The Ugly، قد ألّف كل مقطوعة في الفيلم بحيث تستغرق بالضبط زمن المشهد الذي تصاحِبه، وتعبّر عنه إيقاعًا ونغمًا وطابعًا، مثل المشهدين/الرقصتين: The Ecstasy of Gold, The Trio، بل يمكن تحليل هذا الفيلم ككل باعتباره مجموعة مِن الرقصات المعقّدة غير التقليدية، أو كباليه. وإلى جانب أعمال موريكوني تبرز كذلك أفلام ديزني التي تم تصميمها خصيصًا للتعبير المَشْهَدِيّ عن أعمال بيتهوفن وشوستاكوفتش وبول دوكا وغيرهم، وأشهرها فيلم Fantasia 1940 The Sorcerer’s Apprentice المؤلَّف على القصيد السيمفوني L’apprenti sorcier لبول دوكا، الذي انتهى مِن تأليفه عام ١٨٩٧، والذي هو مؤلَّف بدوره للتعبير الموسيقيّ عن قصيدة قصيرة لجوته Der Zauberlehrling، والتي ألّفها جوته قبل القصيد السيمفوني بقرن كامل عام ١٧٩٧. وربما تتطلب أعمال ديزني المذكورة في هذا السياق تحليلاً مستقلاً يضيق عنه المقام الحالي.

أما الشكلان الآخَران للتعبير الحركي عن الموسيقى وهو ليس مجرد (تعبير) لأنه إنتاج الموسيقَى نفسها كما تقدّم أي المشي والانطلاق فلهما أهمية خاصة حين نحلل هذه الظاهرة على مستوى المستمِع؛ فالباليه والسينما ليسا إنتاجَ المستمِع بطبيعة الحال، بل هما إنتاج مُخرِج العمَل بالأساس وفريقه. هل يمكن لنا أن (نَمْشِي) سيمفونيةً مثلاً؟ نعم. بل إن (مَشْي الموسيقَى) قد يكون أقوى حتى مِن الرقص التقليدي والباليه في تمثّل العمل ذاتيًا. وبينما يعَدّ الباليه تمثلاً حركيًا دراميًا، يتلقاه المُشاهِد المستمِع سلبيًا، فإن (مَشْي الموسيقَى) إنتاج إيجابي، لا تضيع فيه ذاتية المستمِع، بل تتوازن بشكلٍ ما مع ما يتلقاه بشكل إيجابي. نستطيع بعد قدر مِن التمرين أن نتمثّل البناء الموسيقيّ المعقَّد في السيمفونية مَشْيًا، بحيث تعبّر خطواتنا عن تتابعات العمل، ولهذا قد تكون أصلح صِيَغ الموسيقَى للمشي المارش. وكثير مِن السيمفونيات تتضمن مارشات، مثل رابعة تشايكوفسكي وسادسته، وثالثة بيتهوفن وخامسته وتاسعته، وخامسة شوستاكوفتش وعاشرته، وغيرها. وسيعاد التركيز على هذه النقطة في (فلسفة الاستماع). والفرق بين المشي والانطلاق في هذا السياق هو أن الأول فعل إيجابي يقوم به المستمع، وهو يتحرك ذاتيًا، أما الانطلاق فالمقصود به هنا حركة الجسد المحمول، كما نستمع مثلاً إلى الموسيقى ونحن نتحرك مع حركة القطار أو السيارة، دون أن نكون في موضع السائق. فإذا كنا في موضع السائق فهذا لا يختلف كثيرًا عن المشي، لكنه أقل إيجابية؛ نظرًا لأن الفعل الإيجابي المبذول بجسد السائق أقل منه في حالة المشي، أما إذا كنا في مقام الراكِب فهي حركة أقل إيجابية مِن القيادة والمشي كليهما. وبالتالي نظرًا لسلبيتها النسبية فهي أقل تعبيرًا عن التفاعل الذاتي مع الموسيقَى، لكنها تسمح لنا على كل حال بتأويل نمطِ حركتنا المكتسبةِ مِن حركة الناقلة وتتابعِ المشاهد حولنا طبقًا لنمط الحركة في العمل الموسيقيّ المسموع.

تتفاوت أعمال الموسيقيين في نمط الحركة الذي تُنتِجه، بل يمكن اشتقاق نمط حركة عامّ لكلّ موسيقار على حدة؛ فنمط حركة موتسارت مثلاً عادةً ما يكون سريعًا نشِطًا في اعتدال، دون اندفاع، ودون بطء تأمّلي، ودون مساحات كبيرة نسبيًا مِن التفاوت في السرعة، قليل التوتر، قليل الصِّراع، أقرب إلى حركة سريان السوائل السريعة المُتجانِسة، وهو ما يمنح الشعور العامّ بالتوازن والاكتمال، وما يرتبط كذلك بالمعروف في العلم الزائف للماورائيات وفي علم النفس أحيانًا بتأثير موتسارت Mozart effect. وعلى خلافه يأتي نمط بيتهوفن بعد نضجه الفني (بعد السيمفونية الثالثة خاصةً) أكثر سرعة، وأكبر في معدّل التغيّر، وأكثر تحديدًا وحسمًا وربما عنادًا في الاتجاه. هو أقرب إلى الهجوم والكر والفر منه إلى المشي المعتدل النشط المتوازن الموتسارتي. أما نمط رحمانينوف فهو أكثر تنوعًا من بيتهوفن في تغيُّر السرعة والقوة، وأقل تحديدًا للاتجاه، ليوحي بالضياع، مع مساحات أكبر نسبيًا مِن البطء، وربما فقدان الحركة الكلّي (الشلل) المؤقَّت، ليوحي كذلك بالتوجُّس والفزع والغموض. ويتميز نمط شوستاكوفتش بأعلى ثبات في الخطوات، التي عبّر عنها كلما سنحت الفرصة بضربات أوركسترالية لتمثيل الخطوات صوتيًا، لكنه يتحوّل بمرونة كبيرة مِن المشي إلى الإيحاء بالسباحة أو الطيران، مِن حركة الأرجل (وليس فقط الرِّجلَين) إلى خفقان الأجنحة والانحدار والسقوط، موحيًا في الوقت نفسه بفكرة التشتت والضياع الأشدّ منه في حالة رحمانينوف، كما أن سكونه أقوى وأرسخ حين يحدُث من سكون رحمانينوف، أقرب إلى سكتة دماغية. ويتضح في هذه الفقرة كيف أن تاريخ الموسيقى يتقدّم نحو معدّل أكبر في تفاوت نمط الحركة العامّ لكل موسيقار، مِن أعلى مراحل الانتظام (موتسارت) إلى أعلى مراحل التفاوت (شوستاكوفتش). مما قد يعني أن نمط الحركة رغم كونه مُباطِنًا للعمل الموسيقيّ وقابعًا دومًا في الخلفية إلا أنه عنصر أساسي في الموسيقَى، لهذا جاء كل موسيقار ليضيف خاصية جديدة إلى نمط حركة سابقيه، بما يتناسب وعَصْره، كما قد يعني أبعدَ مِن ذلك أنّ تاريخ البشرية في هذه المرحلة على الأقل مِن موتسارت إلى شوستاكوفتش قد اتجه رويدًا رويدًا مِن الاستقرار والأمان النسبيين إلى مزيد مِن الوعي بالتفكك والصراع والخوف. وبالتالي يمكن تصنيف الموسيقيين طبقًا لنمط الحركة لكل منهم، بالإضافة إلى التصنيفات المعتادة حسب المدارس الفنية والموضوعات والتقنيات.

الموسيقَى والرياضيات

إذا كانت الرياضيات هي عِلم العَدَد بمعناه الواسع، فإن الموسيقَى هي فَنّه بالقدر نفسه مِن الاتساع. ويُلاحَظ أن كل الفنون قامت بشكل أو بآخَر على وعي رياضيمنطقي، كالمسافات المتساوية وشبه المتساوية بين القوافي وبين الحركات والسواكن مثلاً في الشِّعر (وليست كل أوزان الشعر مقاييسَ للمتحرّك والساكن) لكنْ مع خاصية هامة تتفرد بها الموسيقى عن بقية الفنون في هذه الظاهرة، هي أن الموسيقى تعبّر عن العَدَد في حالة التتابع والتراكم الزمنيين، ولهذا قلنا إنها فنّ الزمن، وإنّ إنتاجها الأساسي هو إنتاجها للزمن. بل إننا لا نفهم الزمن إلا بلغة الرياضيات، ولا يمكن إدراك الزمن بدون الحد الأدنى مِن الوعي الرياضي المشترَك بين البشر. إنّ العمارة مثلاً أقصى تعبير ثابت عن العَدَد ( أَي الهندسة)، بينما يتوسّط الشعر بين الموسيقى والعمارة في معيار التتابع/الثبات؛ لأنه يشتت انتباهَ القارئ أو المستمِع نوعًا عن التتابع الرياضي بسبب المضمون المجرَّد. الرياضيات في ذاتها تعبير مجرّد (لازمكاني) عن العَدَد، إذا كانت الموسيقى تعبيرًا حركيًازمنيًا، والعمارة تعبيرًا مَكانيًا عنه.

الموسيقَى واللغة

الموسيقى نفسها لغة، مَثَلُها في ذلك كأَيّ فنٍّ هو لغة بشكلٍ أو بآخَر. لكن الفنون تختلف حسب وسائل التعبير المستعمَلة لغويًا؛ فلغة العمارة هي الترميز الثبوتي للمكان ذاته، لذلك كانت أصلَح للتعبير عن المضامين الدينية بما (توحِي) به مما يعجز العقل عن فهمه، أو بالأحرَى ما يتخيّل وجوده مجرد تخيُّل دون رغبة في أو قدرة على تصويره بشكل متعيِّن محدَّد، وإلا فقدَ جانِبًا مِن قداسته وجلاله. وهي فكرة التقطها هيجل بشكلٍ ما ببراعة منقطعة النظير Hegel, Georg Wilhelm Friedrich, Ästhetik, S. 586. ولكن أبعد مِن هيجل نستطيع الإشارة أيضًا إلى تحولات أساسية في العمارة الدينية صاحبت تطور أشكال اللاهوت الأكثر تعقيدًا نسبيًا مع تطور التاريخ، مِن الترميز الغامض الجليل إلى البلورة التعيينية في تحوّل أعمدة المعابد (عند الفراعنة مثلاً) إلى منحوتات بشرية (عند الإغريق مثلاً) بما يتناسب مع زيادة تبلور الوعي بموضوعات اللاهوت. وعلى جانبٍ آخَر يتّخذ الشِّعر مِن اللغة الرمزية (كالحروف والكلمات والعبارات) في حيّز لازمكاني وسيلته للتعبير، إذا كانت العمارة تستعمِل اللغة المكانية. أما الموسيقى فلغتها زمنية على الأخصّ، وحركية (تقاطع الزمان والمكان) بشكل أقل خصوصية. الزمن هو لغة الموسيقى التي تتفرد بها بين الفنون جميعًا. الموسيقَى (تقول) زمنًا، وتعرض لحوار/صراع بين أزمنة مختلفات، ويتغلب فيها زمن على زمن، أو يندمج معًا أكثرُ مِن زمنٍ. ولكن ماذا عن التداخل بين لغات الفنون؟ ماذا عن التداخل على وجه أكثر تخصيصًا بين لغة الموسيقَى ولغة الشعر؟

هذا التداخل آنِف الذِّكْر هو الغناء. والغناء في الأصل فنّ مركّب مِن فن زماني هو الموسيقَى وفن مجرّد لازمكاني هو الأدب وخصوصًا الشعر. وهو تركيب ذو وجه تكامُلِيّ بين غموض المضمون في الموسيقَى وبين تعيُّن المضمون في الشعر، الذي يكمّل الغموض. والعلاقة بين الشعر والموسيقى في الغناء إما متوازِنة، بحيث لا يمنح العمل الأولوية لأحدهما على الآخَر، أو غير متوازنة بحيث إما يمنح العمل الأولوية للموسيقى على الشعر، وغالبًا ما يتم تأليف الكلمات على لحن مُسبَق في هذه الحالة، أو يمنحها للشعر على حساب الموسيقى، حيث يتم غالبًا تأليف اللحن بَعد الكلمات. وعن طريق الغناء يَمنح العمَل موسيقاه مضمونًا معينًا، وبالتالي يقلل الشِّعرُ مِن قدرة الموسيقى على أن تكون إطارًا تفسيريًا عامًّا مجرَّدًا، بالضبط كمَن يحاول فهمَ الرياضيات مِن خلال العمارة؛ فبدون أن يغادر وعيُه هذه العمارةَ لن يتعلّم تطبيق نِسَبَها المجردة على عمارات أخرَى، أو التلاعب بهذه النسَب لإنتاج عمارة جديدة. والتجسيد حين يمارَس على المجردات يفقِدها إمكاناتها التأويلية بالبداهة. ومثال ذلك أنْ تصلُح موسيقى (إيرويكا) مثلاً لتصوير البطولة في أي موقف يتطلب قوة الإرادة والصلابة والكفاح، سواءً بالنسبة لنابليون بونابرت أم بالنسبة لطالب في اختبار عملي مثلاً. لكنّ الغناء يحصر هذا التأثير بالتعيين في مضمون الكلمات، مما يحصر دور الموسيقى في موضوع هذا المضمون فقط، أو يضيّقه على الأقل إلى حد كبير. ومِن هنا يمكن النظر إلى الغِناء بأنواعه، شرقيًا كان أو غربيًا، باعتباره حَطًّا للطاقة التأويلية المميِّزَة للموسيقى.

وتتدرّج أنواع الغناء في هذا الاعتبار؛ فأسلوب الغناء الغربي الكلاسيكي، كما في الأوبرا والليد مثلاً، يستعمل الجهاز الصوتي البشري كآلة موسيقية هوائيةوترية، مما يسمح نوعًا بالحدّ مِن التعيين المضموني الذي يقوم به الشعر، للدرجة التي يحدث معها كثيرًا أنْ يسهو المستمِع إلى الأوبرا عن النصّ، ويوجّه تلقائيًا انتباهه إلى الآلة الموسيقية البشرية واستعمالها، وذلك مقارنةً بالغناء الشرقي، الذي هو أكثر حَدًّا للموسيقى وإطلاقًا للشعر. وفي الغناء الغربي أيضًا درجات؛ فاستعمال الكورال أقرب إلى الموسيقَى مِن الشعر؛ لأنه يصوّر الزخَم البشري الصوتي الجَماعي، بينما يربط الغناء الفردي في الآريات والليدات الموسيقَى بصوت محدد فردي. الكورال تجربة جماعية، ربما إنسانية، والآريا والليد تجربة فردية، خاصة. الكورال أقرب إلى العامّ والمطلَق والإنساني مقارنة بالغناء الفردي. الكورال ذوبان للفرد في المجموع، وإنشاءٌ لكيان مِن مجموع الأفراد، لكنه متميِّز عنهم ككينونة مختلفة عن مجموع أجزائها، كالحركة في ثورة أو مظاهرة، بينما يخلو الغناء الفردي مِن هذا الذوبانالكيان.

وطِبقًا لمعيار عالمية الموسيقَى نستطيع أن نرتّب الموسيقى والغناء بأنواعهما رأسيًا؛ فأعلى مرتبة تحتلها الموسيقَى الخالصة، غير ذات البرنامج، تليها الموسيقى ذات البرنامج، ثم الغناء الكورالي الغربي، ثم الغناء الفردي الغربي، ثم الغناء الكورالي الشرقي، وأخيرًا يأتي الغناء الفردي الشرقي. هذا الترتيب قد يكون السبب الأساسي في استعمال بيتهوفن للكورال ورباعي المنشدين في أغلب الأجزاء الغنائية في الحركة الأخيرة من تاسعته، التي تستهدف التعبير عن مثل عليا إنسانية عالمية، في حين يحتل جزء الصوت الفردي قدرًا ضئيلاً للغاية في بدايتها. غير أنّ هذا الترتيب أيضًا يصلح بناء على معيار القومية، وليس العالمية فقط، فالكورال معبّر بذاته كذلك عن التصورات المتعلقة بـ (روح الشعب)، وهو سبب محتمَل لاختيار فاجنر الموسيقار القومي الأوّل للأوبرا للتعبير عن قوميته.

الموسيقَى والذاكرة

الموسيقَى بما هي فن الزمن تفترض مشابهتها إلى الحد الأقصى مقارنة بغيرها مِن الفنون لحركة الذاكرة؛ فنحن حين نستعيد ذكرَى معينة نقوم في الحقيقة باستدعاء (تتابُع) زمني معين مترابط، وهو أيضًا ما يحدث تلقائيًا بشكلٍ عام حين نعيد الاستماع إلى لحن نعرفه مسبقًا مثلاً، بينما لا نستدعي تلقائيًا تتابعًا زمنيًا ما حين نعيد زيارة عمارة معينة، بل نستعيدها دفعة واحدة في مَكان غالبًا لا في زمان. أما إعادة قراءة قصيدة مثلاً فهي ترتبط كذلك بمفاهيم وتصورات قائمة بشكل لازمكاني في أذهاننا. وصحيح طبعًا أن كل استعادة، بل كل حدَث، يحدث في زمان، ولكنّ الفارق أن الموسيقى هي الأقرب والأكثر تلقائية في التعبير عن (حركة) الذاكرة، للأسباب السابقة، ولسبب آخَر هام، هو أنها تترك الانطباع تلقائيًا عن (الذي كانَ ثمّ لم يَعُدْ)، نظرًا لأنها كما هو معروف فن يتكون مِن لحظات وأحداث لحظية تتلاشى دائمًا لتحل محلها لحظات أخرى أو صمت. لهذا فالموسيقَى أقدر على التعبير عن الفَقْد، وعن حركة التغلب على الفقد، وهو ما سيُعاد التركيز عليه في الختام.

ثانيًا | فلسفة عناصر الموسيقى

فلسفة الإيقاع

تم بالفعل أعلاه قدر من بحث عنصر الإيقاع، خاصةً فيما يتعلق بإنتاج كل من الزمان والحركة. والإيقاع هو العنصر الرياضي المباشِر في الموسيقى، وهو تعبير عن النسب الرياضية في حال التتابع والحركة. والتلاعب بالإيقاع يكاد يكُون فنًا مستقلاً بذاته؛ فيستطيع الموسيقار التلاعبَ بالإيقاع حتى على الميزان نفسه داخل العمل الواحد؛ فمثلاً يُنتِج برامز عدة أنماط مِن الإيقاع في الحركة الأخيرة من سيمفونيته الرابعة، ليوحي مرةً بالفالس ومرة بالمارش ومرة بإيقاع الكلام الهادئ. كذلك تلاعبَ رحمانينوف في الرقصة السيمفونية الثانية (مصنف ٤٥) بإيقاع الفالس في ختامها ليوحي بحركة أقل انتظامًا مِن الرقص، كأنما هي حركة الراقصين وهم يفرّون مِن كارثة محدقة، لتنتهي الرقصة، معبّرة في الوقت نفسه عن حدث درامي غامض. لكن هذا المبحث أعقد من ذلك؛ لأن بعض الموسيقيين، مثل خاتشاتوريان مثلاً، قد تجنبوا أحيانًا الإيقاع. فإذا كانت الموسيقى الموقَّعة مُوازِية للقصيدة الموزونة، فإن الموسيقى غير الموقعة توازي قصيدة النثر. كما أن بعض مدارس الموسيقى قد استعملت أكثر من إيقاع في الوقت نفسه، بحيث يُعزَف العمل ويُسمَع على أكثر من إيقاع متزامنَين، مثل سكوت جوبلِن (+١٩١٧) Scott Joplin وهو ما يعرَف بـ Ragtime، والذي يعتمد على إدغام الوحدات الإيقاعية بعضها في بعض، ليوحي بحركة مضطربة، أو ليُنتِج أكثر من نمط من الحركة في الوقت ذاته.

فلسفة اللحن

اللحن هو أقرب عناصر الموسيقَى إلى الأدب، بل هو العنصر الأدبي في الموسيقى، مِن جهة قدرته على تحديد مضمون معين. وهو كذلك قابل لتمثيله كلاميًا/حواريًا إذا كان الرقص هو الذي يمثّل الإيقاع. فحتى إن لم يتضمن العمل غناءً فهناك لحن متسائل، ولحن متعجِّب، ولحن غاضب، ولحن وادِع مسالِم، إلخ. وبعض المؤلفين كبرامز مثلاً اقترب إلى حد بعيد من الكلام المنثور في صياغة ألحانه، وخصوصًا في مؤلفاته المتأخرة كالسيمفونية الرابعة. هذا إذا ما قورِنَ بلحن شوبرت الذي هو عادة أقرب إلى إلقاء شِعري رشيق أو إنشاد أنيق، بينما يعبّر لحن بيتهوفن في أحيان كثيرة عن هتاف ثوري جماهيري، بطولي، عالي النبرة، استشهادي، أما لحن/كلام موتسارت فهو قريب نوعًا في الأغلب من لحن/كلام شوبرت.

ولكن هذا المبحث بدوره أعقد مما يبدو عليه، لعدة أسباب من بينها أن بعض المؤلفين قد تجنبوا الألحان في أعمالهم كما تجنب آخرون الإيقاع. فمنذ الرومانسية المتأخرة قل الاعتماد نسبيًا وتدريجيًا على اللحن، حتى وصلت الموسيقى مع شوستاكوفتش أنْ صارت غير ميلودية مِن الأصل، ومعتمِدة على التركيب بالأساس، وهو ما تعرضنا له في مقالنا عن ما وراء الموسيقى عند شوستاكوفتش. لذلك قد يمكن اعتبار موسيقى شوستاكوفتش الموسيقى الأكثر نقاءً مِن جهة استبعادها للعنصر المضموني (أي اللحن)، حتى مع مقابلتها بأعمال مؤلفين اتُّخِذوا نماذجَ للموسيقى الخالصة كموتسارت مثلاً؛ لأنه حتى أعمال موتسارت قد أحالت إلى (الخارِج) بنسبة ما عن طريق اللحن. وربما في انتصاف المسافة بين موتسارت وشوستاكوفتش وقف بالضبط بيتهوفن، إذ منح كلاً من اللحن والتركيب المكانة نفسها تقريبًا.

ولأن اللحن هو العنصر الأدبي في الموسيقى بالمعنى السابق فقد اعتمدت الأذن العربية التابعة للعقلية العربية الأدبية بالأساس على اللحن. لهذا لا تستطيع الأذن العربية بسهولة متابعة موسيقى غير لحنية، وربما لا تتصورها. لذلك أيضًا يغلب على الموسيقى العربية أن تكون مصاحِبة للشعر في الغناء أو مصاحِبة للرقص. وإذا كان هذا كذلك فإن الاهتمام الحديث نسبيًا بالموسيقى الكلاسيكية بين العرب تحوُّل يجب ألّا يُستهان به في العقلية العربية، التي تتجه تدريجيًا فيما يبدو إلى التجريد المناسِب لصوغ الأنساق الذهنية المجرَّدة.

فلسفة الهارموني

وهو عنصر أخصّ بالموسيقى الغربية. وكما يعلم الدارسون فالهارموني نظرية، بل مجموعة نظريات، لكنها تقوم عمومًا على تقعيد استعمال أكثر مِن نغمة في آنٍ واحد. وإذا كانت الآلة الواحدة، حتى إن كانت آلة هارمونية كالبيانو أو الأرغن، قادرة على إنتاج ما لا يتناهى من الألحان، فإنّ عدد ما يمكن لها إنتاجه من أنماط الهارموني يظل محدودًا، حتى مع تنوع نظرياته. وبرغم ذلك فإن عِلم الهارموني هو العلم المتفرد والمميِّز للموسيقى بين شتى الفنون؛ فجميع عناصر الموسيقى مشتركة بينها وبين غيرها مِن أنواع الفن؛ فالإيقاع واللحن كما سبق يمكن تمثيلهما شِعرًا، وكذلك المقام، الذي يقابل القوافي في الشعر، لكن الهارموني الموسيقيّ في ماهيته الأصيلة، أَيْ: ائتلاف المتزامِن الحادث في سياق التتابع الزمني، لا يحدث إلا في الموسيقى. من الصعب جدًا حتى الآن على الأقل تذوق قصيدة تتضمن صوتين/نصّين متوازيين يُلقيان معًا في اللحظة نفسها. وبرغم وجود محاولات عملية لإنتاج نصوص متوازية في الشعر (قصيدة أيلول مثلاً لأمل دنقل)، إلا أنها لا تفهَم خارج إطار (تتابعَين) متقاطعَين، وهو ما يقابل الكونترابنط في الموسيقى لا الهارموني.

لكن هذا المبحث أعقد بدوره مما يظهر عليه، إذا ضُمَّ إليه سياقُ الفن التشكيلي. أليست العمارة مثلاً فنًا تزامنيًا؟ وألا يتمتع التصوير كذلك بعلم للهارموني خاص به (هارمونية الألوان)؟ بل أليس كل فن مَكاني هو بالضرورة فن تزامني؟

وإجابة كل ما سبق: “بلى، ولكنْ..”؛ فالعمارة فن تزامني، لكن التزامن فيها لا يحدث في الزمن كما يحدث التزامن الذي يُنتجه الهارموني في الزمن، بل في التاريخ. العمارة بطبيعتها فن (خالد)، بمعنى أنه مصنوع أصلاً ليستمر أطول فترة ممكنة في (التاريخ)، لكنه لا يحدث في التتابع/الزمن كالموسيقى. هي أقرب الفنون لطبيعة التاريخ مِن حيث هو سِجِلّ للذاكرة (لا كحركة)، لذلك لا نلحظ فيها عادةً عنصر الهارموني بالمعنى السابق أعلاه، بل التزامن فقط. أما علم هارمونية الألوان في التصوير فهو الذي يقعِّد للتجاور والتداخل اللونيَّين في اللوحة، بينما لا (تحدث) اللوحة نفسها ككل في الزمن، بل (تقع) في المكان كشتى الفنون المكانية.

وبالإضافة إلى هذا الوجه من الخصوصية الذي للهارموني في الموسيقى فللهارموني وجهٌ آخَر منها في سياق عناصر الموسيقى نفسها؛ لأن الهارموني كما سبق هو العنصر التزامني في الموسيقى، وبالتالي هو إسهام ربما أكبر مِن إسهام الحركة في إنتاج المكان. والمعنيّ هنا بإنتاج المكان إنتاج خاصية (التزامن) Synchrony التي يختلف بها المكان عن الزمان؛ إذا كان ما يميز الزمان عن المكان هو (التتابع) Diachrony. ونظرًا لأن الموسيقى فن التلاعب بالزمن أو (تشكيل الزمن)، فإنه من الممكن دائمًا وبسهولة استثناء الهارموني منها حين نسمعها، رغم ما للهارموني من خصوصية مذكورة. ولهذا تخلو الموسيقى العربية مثلاً من عنصر الهارموني، رغم تطور فرق الموسيقى العربية مِن التخت إلى الأوركسترا. بل أبعد من ذلك لا يمكن للمتلقي غير الدارس عادةً، ولو بشكل سطحي، أن يتلقى عنصر الهارموني جماليًا، وأن يفهم قواه التعبيرية، ولكنه سيتلقاه كإحساس عام ضبابي في خلفية العمل. ولكن بعد كل ذلك، ما وظيفة الهارموني بالضبط إذا كان تلقيه بشكل كافٍ، ولا نقول مثالي، معتمدًا على دراسة متاحة للقلّة فقط من جمهور الموسيقى؟

يقوم الهارموني بدوره في علاقته باللحن بشكل أساسي، فهو الذي (يلوّن) اللحنَ، وبدونه يبدو اللحن رماديًا أحادي الطابع، وصالحًا فقط لمصاحبة الغناء أو الدراما، ولهذا لا أهمية كبيرة للهارموني في الموسيقى العربية. هذه العلاقة أعقد مما يبدو، لأن الهارموني لا يلون اللحن فحسب، بل يكسبه معنًى عجيبًا متفردًا وخاصًا بفن الموسيقى وحده، ومن ثمّ خصوصية هذا العنصر بالذات. الهارموني يجعل اللحن، الذي (يحدث) في زمان، (يقع) في مكان. فلكل مجموعة لا نهاية لها من الألحان (وهو سليم رياضيًا) هارموني واحد في إطار نظرية الهارموني الواحدة، وبينما ينبسط اللحن من اليسار إلى اليمين على المدونة الموسيقية أفقيًا، فإنه ينقبض في أكور Accord (هارموني) مِن أعلى إلى أسفل على المدونة نفسها رأسيًا. وهو ما يعني أن الموسيقى الهارمونية لا تؤلَّف فقط كالأدب أفقيًا في سطور، بل أفقيًا ورأسيًا في آنٍ. وبينما يُعَد الهارموني قبضًا للحن وتلخيصًا لشعوره الأساسي في لحظة واحدة، يعتبَر اللحن بسطًا للهارموني وإطنابًا لمحتواه في تتابع مِن اللحظات. وباختصار أكبر يمكن التعبير عن الهارموني بأنه لحن يحدث في لحظة واحدة، أو بالأحرى (يقع) في نقطة واحدة. ولهذا أهمية خاصة في الموسيقى الدرامية، ومن ثمّ أهميته عند فاجنر مثلاً، الذي تعتبَر موسيقاه بحق إسرافًا باذخًا في الهارمونية، إن لم يكن فاحشًا.

وما يكمل معالم خصوصية الهارموني أنه، رغم توافر عدد محدود رياضيًا فقط منه على تنوع نظرياته، يمكن اعتباره (عِلمًا للشعور)؛ فكل أكور يعبر عن نوع محدد تمامًا مِن المشاعر، وهو شعور قابل لإعادة الإنتاج، بمعنى أننا نستطيع فحص وتحليل الشعور البشري عن طريق عزف الهارموني على آلة هارمونية كالبيانو. وهي ظاهرة وإمكانية لا نلاحظهما عادة في تلقي الموسيقى، بل عند تعلم نظرية الموسيقى.

فلسفة التوزيع والتلوين

إذا كان اللحن مضمونًا فإن التوزيع مادّة، دون تناقُضٍ مع قولنا أن الزمان مادة الموسيقى؛ لأن الصوتمادة طبيعية، لكنه أي الصوت عنصر من عناصر الموسيقى لا مادتها الفنية الأساسية (قارن مع أرسطو). وهو ما يعني أن اختيار آلة معينة لعزف جزء من اللحن مثلاً هو اختيار لمادة صوتية، كاختيار لون ما في لوحة. وبرغم ذلك فإن هذا الاختيار لا يتم من منطلَق جَمَاليّ بحت، بل يتمتع كذلك بأساس مضموني. إن المستمع المدقق قد يلحظ كيف شخّص بيتهوفن نفسَه، أو صوتَه الشخصي، في موسيقاه في صوت التشيللو. في أي عمل أوركسترالي لبيتهوفن بعد سن الخامسة والعشرين، أي بعد إصابته بالصمم التدريجي، قد يعبّر التشيللو عن بيتهوفن شخصيًا؛ والسبب أن الصمم لديه قد بدأ من الطبقات المرتفعة (الكمان مثلاً) ثم وصل تدريجيًا خلال فترة طويلة إلى الطبقات المنخفضة (التشيللو مثلاً)، وبالتالي صار يسمع صوت التشيللو أوضح مِن الكمان والفيولا. والوتريات عمومًا هي العمود الفقري للأوركسترا كما هو معروف. نلاحظ مثلاً الحركة البطولية العنيدة للتشيللو في الحركة الأولى من سيمفونيته الثالثة، كما نلاحظه بوضوح تام في مفتتح الحركة الرابعة من تاسعته، وأول إعلان للحن الكورال. وأهم مجموعة صوناتات لبيتهوفن، عدا صوناتات البيانو المنفرد، هي صوناتات البيانو والتشيللو، وهو يعكس البعد المضموني آنِف الذكر. هل اختار بيتهوفن تيمة التشيللو بالذات من ثنائية شتايبلت Steibelt ليرتجل عليها، في المنافسة الشهيرة بينهما في فيينا عام ١٨٠٠، عمدًا لهذا السبب المضموني، أم لأنه – فقط كان يسمعه أوضح من البيانو، إذ وقعت المنافسة بعد خمس سنوات من بداية صممه؟ لمزيد من التفاصيل حول هذه المنافسة: Wegeler und Ries, Biographische Notizen über Ludwig van Beethoven, Schuster & Loeffler, Berlin und Leipzig, 2. Auflage, 1906, S. 96-97.

ويتبع التلوينَ التوزيعُ؛ لأنه كذلك يتعلق بالمادة. التلوين إنتاج أصوات جديدة مركّبة من أصوات بسيطة لإضفاء ألوان على أصوات الآلات المفردة. لكنه كذلك يتبع الهارموني من جهة تعلقه بالتوافق، لذلك فللتلوين أيضًا نظرية، لكنها ليست على قدر أهمية نظرية الهارموني في السياق الحالي. إذن فالتلوين يجمع خصائص المادة والتزامن، لذلك يتعلق التلوين بشكل غير مباشر بإنتاج المكان. واللون البصري في فن التصوير لا يحدث في زمن، بل في مكان، أما اللون الموسيقي فإنه زماني، وهو تعبير آخَر مع الهارموني عن حدوث التزامن في إطار التتابع. ويمكن تعميم هذا القول كذلك على الطبقات الصوتية، فهي مادة، لكنها حين تتداخل تُنتِج مَكانًا يحدث في زمن، كالتلوين.

ثالثًا | فلسفة الأشكال الموسيقية

يختلف الشكل الموسيقيّ عن الصيغة الموسيقية؛ فالشكل الموسيقيّ هو نوع وترتيب الصيغ الموسيقية عند تقديمها في الحفل الموسيقي، ونوع الأوركسترا أو الآلة المستعمل: أوركسترا سيمفوني، أوركسترا موسيقى الحجرة، آلة صولو. أما الصيغة فهي أصغر نطاقًا، وتتعلق ببنية تكرار ومعالجة الألحان في جزء من العمل، وقد يحدث أن يكون العمل من صيغة واحدة، كالفوجة مثلاً، ولكن غالبًا ما يتكون كل عمل، حتى إن كان كالقصيد السيمفوني من حركة واحدة، من عدة صيغ متتالية. ويتعذر في المقام الحالي الإسهاب في الكلام على كل شكل على حدة، لهذا نقتصر مؤقتًا على أهم الأشكال الكلاسيكية لموسيقى الآلات: السيمفونية، والكونشرتو، والرباعي الوتري، والصوناتا.

فلسفة السيمفونية

السيمفونية شكل تطور أساسًا من افتتاحية الأوبرا. وتختلف المراجع بصدد تحديد بداية المنحنى الزمني لنشأتها وارتقائها، لكنها تتفق فيما بينها على تحديد ذروة هذا المنحنى، في سياق البلورة الشكلية لها؛ حيث يعتبَر هايدن (+١٨٠٩) أبًا لها؛ فهو الذي اصطكّ السيمفونية كشكل من أربع حركات، بعد تمرس طويل على إنتاجها في ثلاث. وبالتالي أصبح الشكل العُرفي للسيمفونية منذ هايدن مكونًا من أربع حركات، هن على الترتيب:

  • حركة رئيسية تحمل فكرة العمل الأساسية في صيغة الصوناتا.

  • حركة بطيئة نسبيًا، معتمدة على التنويعات على لحن واحد غالبًا.

  • رقصة: المينويتو في العصر الكلاسيكي، والإسكرتسو في العصر الرومانتيكي.

  • حركة سريعة ختامية في صيغة الصوناتا أو الروندو غالبًا.

وما يحدد السيمفونية كذلك هو أنها تعزَف بالأوركسترا ككل، وتعتمد أساسًا على موسيقى الآلات، ويعد إدراج الصوت البشري فيها من قبيل الاستثناء (أو المخاطرة)، وأشهر مثال على ذلك تاسعة بيتهوفن، غير أننا أشرنا في مقالات سابقة إلى محاولات أخرى تلت بيتهوفن في ذلك، مثل هكتور برليوز في سيمفونية روميو وجولييت، وفرانز ليست في سيمفونيتي فاوست، ودانتي، ورحمانينوف في سيمفونية الأجراس، ومالر في سيمفونياته رقم ٢، ٣، ٨، وسترافنسكي في سيمفونية المزامير، وبنجامين بريتن في سيمفونية الربيع. إذن ماهية السيمفونية أنها أعقد تفاعل ممكن بين الآلات في الفرقة الموسيقية، بحيث تعزَف هذه الحركات الأربع بالترتيب، رغم بعض الاستثناءات في هذا الترتيب، فتاسعة بيتهوفن مثلاً تبدل بين صيغتي الحركتين الثانية والثالثة، وكذلك خامسة مندلسون، وثانية رحمانينوف، وخامسة شوستاكوفتش وعاشرته، وغيرها. ونظرًا لدسامة شكلها فقد صارت السيمفونية أهم الأشكال الموسيقية الكلاسيكية، ومجالاً لإظهار مدى عمق التأليف ومهارته.

والسيمفونية هي أعلى أشكال الموسيقى في التجريد؛ فهي ليست مجالاً للاختبار المهاري كالكونشرتو، ولا اختبارًا لإمكانات آلة بعينها أو مجموعة آلات كالصوناتا والرباعي الوتري مثلاً، لذلك تتعامل السيمفونية إلى أقصى حد ممكن مع ماهية الموسيقى ذاتها من حيث هي فن زمني ذو مضمون مجرَّد. وهي تحيل الذهن طيلة وقتها إلى البنية والتفاعل أكثر بكثير مما تحيل إلى العازف أو الآلة. لهذا أيضًا كانت من أبطأ أشكال الموسيقى ظهورًا وتطورًا، إذا فهمنا طبيعة تطور الموسيقى بما هي انفصال تدريجي عن الدراما والصوت البشري والرقص في المسرح والأوبرا والباليه، لتصير ببطء وفاعلية فنًا مستقلاً. وهو مما يعكس تطور العقل البشري تاريخيًا وتدريجيًا من التجسيد إلى التجريد.

ونظرًا للتنوع الكبير في الأصوات التي ينتجها الأوركسترا السيمفوني، ونظرًا لأنها كما يعني اسمها عزف جماعي، فإن السيمفونية على تركيبها الشكلي أقرب الأشكال الموسيقية إلى إنتاج وجود ذهنيشعوري معقَّد، يستغرق السامعَ، بل يجد فيه السامع ربما أشكالاً لا نهاية لها من التأويل؛ فإن عملاً بهذا التعقيد والتجريد لقادر في كل مرة على إعادة إنتاج ذاته في الوعي بشكل جد مختلف. بحيث يجد السامعُ الجديد فيه مع إعادة الاستماع للعمل نفسه، ويستبصر في كل مرة نظامًا مختلفًا. لذلك كله يمكن اعتبارها أعلى أشكال الفن من حيث القدرة على إنماء الإمكانيات التأويلية للمتلقي، التي تحاول إيجاد نظام في الفوضَى، وبالتالي تمكّن الذات من فرض نظامها على العالَم، دون أن تكتفي بالتلقي السلبي له. وشتى أشكال الموسيقى سواها أقلّ منها في هذا الاعتبار. السيمفونية إذن أكبر تحدٍّ للتاريخ، حين تتيح للذات إمكانيةَ التأويلِ المنظّم اللا نهائي للعالَم.

فلسفة الكونشرتو

مِن الأصول المحتمَلة للفظ كونشرتو لفظ certamen اللاتيني الذي يعني منافسة، وبالرغم من وجود احتمالات أخرى لتفسير أصل التسمية فإن هذا المصدر هو الأقرب لطبيعة الكونشرتو فعلاً كما عُرِف في القرن السابع عشر عصر البلورة الأساسية للموسيقى الكلاسيكية عمومًا وحتى اليوم؛ فالكونشرتو بشكل أو بآخَر منافسة بين العازفين في العزف على الآلة الصولو، حيث يتكون العمل كشكل من ثلاث حركات، تقوم بعزفها الأوركسترا وآلة واحدة صولو غالبًا، أو عدة آلات صولو، كما أنه أيضًا منافسة بين المؤلفين؛ حين يتبارون في استنزاف قدرات الآلة الصولو، واستخراج إمكاناتها العميقة، على مستوى التأليف. وجود الآلة الصولو هو الذي يسمح بدءًا بهذه المنافسة. وللكونشرتو شكل شبيه من حيث صيغ حركاته بشكل السيمفونية، عدا أنه عادة من ثلاث حركات كما سبق، بحيث يخلو من الحركة السريعة الثالثة، وعدا أنه بالطبع يركّز على دور الآلة المنفردة. وقد مرّ الكونشرتو بمرحلة تطورية بالغة الأهمية نقلته من كونه مجرد منافسة أو مباراة في الأداء والتأليف إلى كونه عمل سيمفوني أي يعزَف بالأوركسترا له قدرة تعبيرية مختلفة عن قدرة السيمفونية، على يد موسيقار كبير هو موتسارت. فقد استطاع موتسارت تحقيق التوازن بين طول الأجزاء التي تعزفها الآلة الصولو وأهميتها وبين مثيلاتها التي تعزفها الأوركسترا، ليصير الكونشرتو بدءًا مِن موتسارت وإلى الآن تعبيرًا فنيًا عن صراع الوعي والإرادة بين فرد ومجموع.

أغلب الكونشرتات في تاريخ الموسيقى وأهمها كونشرتات للبيانو والأوركسترا، تليها في الأهمية كونشرتات الكمان والأوركسترا، تليها كونشرتات آلات النفخ وكونشرتات التشيللو. وهذا لأسباب محددة؛ فالبيانو قد يكون بحق أغنى الآلات الموسيقية غير الإلكترونية في القدرات المتنوعة كتعدد الأوكتافات والهارموني والتحكم في شدة الصوت وغيرها، بما يجعله كُفئًا/خصمًا مناسبًا للأوركسترا. أما في حالة الكمان فالكمان ذاته هو عماد الوتريات في الأوركسترا التي هي ككل عماد الأوركسترا، بما يجعل إبراز دوره في مواجهة الأوركسترا أكثر صعوبة بكثير منه في حالة البيانو مثلاً، وبالتالي صار مِن أهم مجالات إظهار القدرات التأليفية. وهو ما يعني أن الكونشرتو لم يفقد طبيعته التنافسية، رغم التعديل الهام الذي أدخله عليه موتسارت. يحيل الكونشرتو ذهن المستمِع دائمًا إلى نوع من علاقة الصراع/الحوار بين طرفين، أحدهما منفرد كفارس وحيد أمام جيش، أو كالإنسان نفسه في وجه الطبيعة أو الكون. وبالتالي فالكونشرتو بالأساس عمل درامي من حيث صيغته، بغض النظر عن مضمونه، وهو في هذا يختلف جوهريًا عن السيمفونية، التي لا تتمتع بهذا الانقسام في الوعي بين طرفين؛ فالمستمِع إلى السيمفونية لا يُحال تلقائيًا في أغلب الأحيان والأعمال إلى انقسام (مادّي) بين آلة وأوركسترا، بل يُحال إلى (حركة) العمل المجرَّدة التي سبق التركيز عليها أعلاه. لهذا فالكونشرتو أقل تجريدًا، وأقل إطلاقًا للقدرة التأويلية التي للمستمِع، لكنه أشد تجسيدًا لطبيعة صراع الفرد والمجموع.

فلسفة الرباعي الوتري

الرباعي الوتري شكل مقارب للسيمفونية؛ فهو غالبًا من أربع حركات وبترتيب الصيغ نفسها. لكنه يتميز عنها بفارق هام، هو أنه من أعمال موسيقى الحجرة، كما يتميز عن بقية أعمال موسيقى الحجرة أنه وتري، أي نواة العمود الفقري للأوركسترا، إذ يتضمن غالبًا كمانَين وفيولا وتشيللو، بينما تتكون وتريات الأوركسترا من مجموعتين للكمان ومجموعة واحدة لكل من الفيولا والتشيللو، وهي آلات من العائلة نفسها. وهو لا يعزَف عادة أمام جمهور الأعمال السيمفونية الكبير في الحفلات الضخمة المكلِّفَة، بل في مسارح صغيرة، لهذا كله صار شكلاً مناسبًا أكثر من غيره للتجريب؛ الذي لا يصلح عادة أن يقدَّم أمام جمهور كبير متنوع؛ فأغلب جمهور موسيقى الحجرة من المهتمين بالموسيقى ودارسيها، ولهذا فهو متَّسَع لتجريب تقنيات تأليفية واستعمال صيغ قد تكون جديدة، وقد تعتبَر وحشية غريبة إذا قدمت لجمهور السيمفونية أو الكونشرتو.

حاصل الأصوات الناتج عن الرباعي الوتري متجانس، فهو وتري تمامًا، لهذا أيضًا صار مناسبًا لفتح مجالات للتأمل دون إغراق السامع في بريق ودمدمة آلات الأوركسترا، مما يشكّل مع التجريب حيّزًا يستوعب الابتكارات الشكلية والشعورية، لكنه يعبّر كذلك عن علاقات الوعي والإرادة بين أربعة أطراف، هي الوتريات الأربع، والتي تربطها صلة القرابة. وقد لا يستطيع المستمِع إليه غالبًا أن ينزع من خاطره فكرة (العائليّة) التي تطرح ذاتها تلقائيًا في تكوين الآلات المستعمَلة نفسها، لذلك فالصراع في الرباعي الوتري أقل تنافرًا وأكثر قدرة على تحقيق الالتئام في مرحلة معينة، لكنّ جانب الوعي فيه أكبر منه في حالة كل من السيمفونية والكونشرتو.

فلسفة الصوناتا

الصوناتا كذلك عمل مشابه في صيَغه المستخدَمة للسيمفونية؛ لكنها كالكونشرتو من ثلاث حركات، مع حذف الحركة الثالثة السريعة التي للسيمفونية. وأغلب الصوناتات للبيانو المنفرد؛ لما ينفرد به البيانو من قدرات هائلة، تليها صوناتات البيانو وآلة أخرى صولو، بحيث تعتبر الآلة الأولى هارمونية (البيانو) والآلة الثانية ميلودية (الكمان مثلاً). والصوناتا كذلك عدا صوناتات تشترك فيها الأوركسترا عمل لموسيقى الحجرة، مما يقربها نوعًا من مجال التجريب والتأمّل. لكن الأساس في الصوناتا هو التلاعب بالهارموني على الميلودي وبالعكس، بما لهما من خصائص تم رصدها أعلاه، والصراع/الحوار بين آلتين مختلفتين بوضوح. حدة الاستقطاب الصوتي والموسيقي هي اسم اللعبة الفنية في حالة الصوناتا. وبعد المدرسة الشاعرية (شوبرت، شومان، شوبان) يمكن القول بأن أهمية صوناتا البيانو المنفرد قد تراجعت نوعًا، مفسحةً المجال لتحف البيانو الصغيرة البسيطة، والتي تستثمِر قدرات البيانو في الوقت نفسه إلى حد أكبر بكثير، كالبالاد والاسكرتسو والبولونيز والنوكتيرن وغيرها، والتي تخصص في إنتاجها شوبان قبل غيره تاريخيًا إلى حد بالغ التفرّد. الصوناتا إذن علاقة بين طرفين مختلفين، ربما إلى حد التناقض، كرجل وامرأة مثلاً، في حالة ما سوَى صوناتات البيانو المنفرد، وهي تعرض تتابعاتها الشعورية على الخط الواصل بين طرفي العلاقة، لذلك هي أقل كونية وعالمية مما سبق مِن أشكال، وأكثر حميمية وشخصية بشكل عام.

في نهاية هذه الفقرة عن فلسفة الأشكال الموسيقية تجب الإشارة إلى أهمية بحث الصيغ الموسيقية نفسها، كصيغة كل من الصوناتا، والرقصة، والمارش، والروندو، والتنويعات، والفوجة، إلخ، مما يتعذر لضيق المقام الحالي، وما يظل موضوعًا لمقالات قادمة.

فلسفة الأداء والتلقِّي الموسيقيين

ينقسم الأداء إلى العزف والقيادة. والعزف منفرد وجماعي. يعبر المنفرد عن اتحاد جسد العازف بالآلة، وصيرورته هو نفسه كآلة موسيقية مركَّبة. لكن العازف المحترف ليس مجرد مؤدٍّ جيد، بل هو مؤوِّل للعمل بدرجة ما، وبحيث لا يفقد من جهة خيوط العمل الأساسية، ولا يقلد غيره من العازفين من جهة أخرى. ومن أمثلة التأويل المنتِج المعبِّر عن ذاتية العازف وعن العمل في آنٍ عزف لانج لانج Lang Lang للمقدمة الخامسة للبيانو لرحمانينوف (مصنف ٢٣)، حيث يقوم بالتلاعب المحسوب بالإيقاع، مع الضغط والإدغام، لإخراجها جزئيًا من طابع العمل البسيط لتحفة البيانو الدقيقة، وليفيد عمومًا الطابع المتوجس الغامض الذي تميز به رحمانينوف، مقارنةً مثلاً بعزف لوجانسكي للقطعة نفسها، الذي يركّز أكثر على الإيقاع وتحولاته. وفي التأويل تمارس الذات حضورًا إيجابيًا معتمدًا على استيعاب جيد لأعمال المؤلف الأخرى، وكيف يمكن أن نرى العمل موضوع العزف في سياقها. وبالتالي ينكشف بُعد الصراع بين اتباع القواعد وتقعيدها.

وإلى جانب التحول الجسدي للعازِف، والجانب التأويلي، ثمةَ جانب ثالث لا يقل أهمية هو إظهار البراعة والتفرّد، أي إثبات الفردانية في إطار من التقييم الموضوعي الممكن والمشترك بين الذوات. هذه الفردانية تحققٌ وجودي، لا يعتمد فقط على جانب الإبداع الجزئي في التأويل أثناء العزف، بل كذلك على نيل الاعتراف بالوجود والحضور والتأثير من قِبَل الجمهور والمختصين.

أما الأداء الجماعي فهو على العكس، يظهر الجانب الجماعي أكثر من الفردي، أو بالأحرى جانب الفرد في المجموع، ويعبّر مثل الغناء الكورالي عن حركة جماعية، حركة جيش في معركة، حيث تطلِق الوتريات سهامها، وحيث تلقي الإيقاعيات قنابلها، وترتفع النحاسيات في مواضع محسوبة كفوهات المدافع البرّاقة، وترسم الهوائيات الخشبية ألوان الدم والنار والشظايا، في حركات كر وفر وهزيمة وانتصار. وهو ما يجعل العازف الواحد كجسد يذوب في إطار المجموع، فيفقد نسبيًا وعيه الفرديالذاتي، ولكن لصالح ذات جمعية أكبر، مما يولد شعورًا بنكران الذات والتضحية والشهادة.

وترتبط القيادة بطبيعة الحال بالعزف الجماعي. والمايسترو الجيد كالعازف الجيد، كلاهما يقود آلة، آلة الأوركسترا المركبة أو الآلة المفردة. يعزف المايسترو على الأوركسترا ككل، بتأويل معين محسوب، وطبقًا للشروط نفسها التي يخضع لها العازف أعلاه، ولكن مع فارق أساسي، هو أن المايسترو يقود معركة كاملة. وصحيح أنه يتوحّد نوعًا مع الأوركسترا التي تصير جزءًا منه، لكنه يكتسب فردية مختلفة عن فردية العازف، هي فردية السيادة على المجموع، وتوجيهه. وفي انفعالات المايسترو الجيد وحركاته نستطيع أن نعيد قراءة العمل؛ فبعض قادة الأوركسترا يركزون أكثر على الزخارف والمنمنمات الموسيقية، على الشظايا والبريق الوجيز الخاطف، مثل فاليري جرجييف Gergiev مثلاً في قيادته لسيمفونيات شوستاكوفتش، وبعضهم يركز أكثر على إظهار الطاقة الميلودية مع اتزان مع الزخرُف الموسيقي كبرنشتاين، وبعضهم يركز على (حركة) العمل مثل كارايان، وهو أعلى مستويات القيادة. أي أن حركة المايسترو وانفعالاته تكشف بشكل ظاهر عن طريقة تلقيه وفهمه للعمل، وعما إذا كانت قيادته عقلانية تركز على التفاصيل، أو انفعالية جارفة تطلِق العمل كمجرّة في الفضاء إطلاق الطلقة الواحدة. ولهذا تصل بنا القيادة بالذات إلى أبعاد كونية، وإلى أسلوب الكينونة في الكون بمعناه المعقّد المفتوح الفسيح.

واستماع الموسيقى كذلك أنواع؛ منه الاستماع التقني المتخصص، الذي ينتبه إلى تقنية التأليف والعزف بدرجة أكبر نسبيًا، ومنه الاستماع المشهدي الدرامي، الذي يحوّل العمل الموسيقى إلى موسيقى مصاحِبة لمشهد متخيَّل، مثل أفلام ديزني الشهيرة سالفة الذكر. وهناك فوق ذلك كله الاستماع الحركي، أي أن نترك العمل يتحكم في نمط حركتنا، سيرًا أو عدوًا، لا رقصًا، وهي نقطة ناقشناها في (إنتاج الحركة). الاستماع الحركي هو أعلى أشكال التلقي الموسيقي، خاصة حين يتمثل الهارموني، أو حين ينتبه إلى التوزيع والتلوين لخلق عدة أنماط متنوعة من الحركة مع العمل الواحد في كل مرة نسمعه فيها.

الموسيقى كفلسفة في التاريخ والكينونة

طالما كانت الموسيقى فن الزمن على الأصالة، فهي الفن المعبّر أكثر من غيره عن التحول والصيرورة، وفي الوقت نفسه عن الفقد، طالما هي مشابهة للذاكرة من الوجه الذي ناقشناه في (الموسيقى والذاكرة) فيما سلف. إنها تمنحنا رؤية مختلفة عن التاريخ كآكِل للإنسان، عن تفككنا الذاتي مع مرور الزمن وتقدم الأعمار واندثار الآثار. إنها توضح لنا كيف أن الزوال خطر قائم، لا قادم فحسب. لكنها تمنحنا في الآن نفسه القدرة على مواجهته؛ فالموسيقى كفنّ مجرَّد أصلاً مِن المضمون المتعيِّن تستطيع أن تواجه الفقد؛ إذ إن الفقد أكثر تهديدًا للمتعيِّن؛ لأن المتعين أقبَل للتغير والضياع في مجرى التاريخ. والسبيل الوحيد لمواجهته هو تجريد المُجَسَّد.

وما سبق يعني كذلك أن الفن رغم ما يتمتع به من بُعد معرفي إلا أنه (فِعل) إيجابي ذاتي، لكنه قادر بسهولة على تجاوز محدودية الذات وتَجَسدها، لتتمدد عبر ذوات أخرى تمددًا خلّاقًا في وجه التآكل التاريخي والموت والعدم. وتتفاوت الحضارات في قدرتها على التغلب على التاريخ؛ فالتاريخ قوة آكِلة، والإنسان ليس هو الكائن التاريخي بقدر ما هو الكائن المقاوِم للتاريخ. ولكل حضارة دورة حياة معينة في إطار هذا الصراع بين الإنساني والتاريخي؛ فمثلاً تواجه الحضارة العربية اليومَ آخِر مرحلة في دورة حياتها في ظل الفقد والعدمية: يأس الأجيال، ودمار الآثار وانقراض العمارة، والانشغال بالترجمة عن التأليف الأصيل، وهي مؤشرات خطيرة ثلاث تؤذن بالشيخوخة الوجودية والموت الحضاري، بعد أن مرت في العصر الوسيط بمرحلة الصعود وتشكيل العالَم. الفن وحده هو القادر على انتشالها وبدء دورة حياة جديدة. والموسيقى أقدر الفنون على بلوغ هذا الهدف؛ لأنها تخلق الزمان برغم التاريخ، وتُنتِج المكانَ برغم حدود الجسد وضيق الأرض. إن التاريخ عقبة لن نعبرها بالأجساد، بل بالكلمات، باللوجوس، واللوجوس الحقّ هو الموسيقَى.


المراجع

  1. أرسطوطاليس: كتاب أرسطو فنّ الشعر، ترجمة وتقديم وتعليق: إبراهيم حماده، مكتبة الأنجلومصرية، دون بيانات أخرى.

  2. آيات ريان: فلسفة الموسيقى وعلاقتها بالفنون الجميلة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط١، ٢٠١٠.

  3. Hegel, Georg Wilhelm Friedrich, Ästhetik, herausgegeben von Friedrich Bassenge, Aufbau-Verlag Berlin, 1955.

  4. Lessing, Gotthold Ephraim, Laokoon, oder über die Grenzen der Malerei und Poesie, The Clarendon Press, Oxford, 1892.

  5. Nietzsche, Friedrich, Geburt der Tragödie, oder: Griechenthum und Pessimismus, C. G. Naumann, Verlag, Leipzig, 1907.

  6. Schopenhauer, Arthur, Die Welt als Wille und Vorstellung, erster Band 3. vermehrte und verbesserte Auflage, Leipzig (Brockhaus) 1859.

  7. Schopenhauer, Arthur, Die Welt als Wille und Vorstellung, herausgegeben von Ludwig Bernde, zweiter Band, München bei Georg Müller, 1913.

  8. Wegeler und Ries, Biographische Notizen über Ludwig van Beethoven, Schuster & Loeffler, Berlin und Leipzig, 2. Auflage, 1906.

الغلاف صورة للوحة جيتار وورق موسيقى لـ خوان جري.

المزيـــد علــى معـــازف