زياد الرحباني في القاهرة، مرة أخرى

زياد الرحباني متّسق تمامًا مع نفسه؛ شيوعيٌ صرف. إنّه من الذين «حسموا أمرهم» منذ فترة طويلة وتخندقوا حتى صار الخندق منهم وهم منه. هذا شأنه، وخياره، ودربه الذي قرر أن يقطعه حتى النهاية. الرجل لا وقت ولا سعة صدر لديه كي يجادل، لقد أقفل أبوابه كلّها وانتهى «المنهج العلمي» الذي ينتهجه إلى حالة من الجمود، الجمود الذي يحبّ أن يسميه البعض «ثباتًا على المواقف». في حفلته الأخيرة في الضبيّة قال لمن اعترضوا على تأخره: «اللي ما عاجبه يفل لأنّ في عالم بدها تحضر». جملته المحكيّة تلخصه ونمط تفكيره؛ من لا يعجبه التأخير، لا يعجبه التعبير، من كان محدودًا فلم يفهم الغاية التي لابدّ نبيلة وراء ما حدث، فليرحل.

ليس هذا الشعور بالتفوّق الابستمولوجي ممزوجًا بازدراء كلّ شيء حكرًا على زياد، وإن كان زياد النموذج الأبرز لتجليّات ذلك الشعور؛ نظرًا لمكانته الفنيّة. ضع يدك في الصندوق واختر، عشوائيًا، شخصًا لا تعجبه الثورة السوريّة لتجد أنّه يبني سرديّته على أنّه لا يخشى في الحقّ لومة لائم، وأنّ هذه مسؤوليته الشخصيّة أمام التاريخ، وأمام ذاته. هذا الأفق الدمويّ البادي في بلاد الشام قسّم الأعين إلى قسمين؛ قسمٌ يعتبر الأفقَ آخر الرؤية ومنتهاها، يضع الإنسان في مركز اشتغاله الفكري ويؤكد أنّ «غير الدمّ محدش صادق»، وقسمٌ يدّعي أن ما بعد الأفق –ما بعد الأفق الذي يفشل القسم الأوّل في رؤيته أو تخيّله– فيه ما فيه من مؤامرات واستهداف قديم جديد للقابضين على الجمر.

دعوة مهرجان القاهرة للجاز لزياد الرحباني كي يقدم العرض الختامي فتحت الطريق أمام مواجهة بين الفريقين. هذه المواجهة، وإن لم تكن الأولى، إلا أنّها كانت مغايرة وكاشفة. حصّة «الأسد» من الكشف كانت (لحسن الحظ) من نصيب أولئك الذين حاولوا القيام بفعل مضاد للفكرة التي يجسدها زياد، فانتهى بهم الأمر بأن اعتنقوا مذهب زياد «وجماعته»؛ أخذتهم العزّة بالفعل الثوري، وشارفوا على أن يصبحوا ملكيين أكثر من الملك. هذا الخلل الذي لم يكن مفاجئًا يمنحنا لمحة سريعة عن التخبّط الايجابي الذي منحتنا ترف ممارسته الانتفاضات العربيّة، لاسيّما الثورة السوريّة. اليقين، بالنسبة لأولئك الذين دعموا الثورة السوريّة ووقفوا في صفّها، ليس مرافقًا لما يجري فعله، بل لما اتخذ القرار بالكفّ عن فعله.

الذين هالهم وقضّ مضاجعهم الدعوات للتعكير على حفلة زياد، أو المطالبة بإلغائها، لم يلقوا صعوبة في الوقوف، وهم الواقفون أبدًا، في وجه هذه المحاولات «المراهقة ثوريًا». العودة إلى الوراء كانت حجر الزاوية، إمّا بإيراد تسجيلات ينتقد فيها الرحباني النظام السوري أيّام عزّه، والتأكيد على مبدئيّة موقفه وخلوّه من الارتهان للخارج، أو بالإشارة للتعقيد الجيوسياسي لسورياالبعث ودورها الإقليمي وطبيعة نظامها التي يستعصي فهمها على المستجدّين في مجال السياسة والاقتصاد. قليلون هم من قاربوا المسألة من منطق «ليبرالي» يعتبر زياد، بالدرجة الأولى، فنانًا يجب أن تتاح له الفرصة كي يقدّم أعماله، بغض النظر عن رأينا في مواقفه السياسيّة. ربّما لأنّ مقاربة من هذا النوع تدير الوجه لاشتباك الفنّ الدائم بالسياسة، وتفتح الباب لمرافعة مشابهة إذا كان الفنان المعني قادمًا، مثلاً، من تل أبيب.

ليس زياد الرحباني أوّل فنان يتخذ موقفًا سياسيًا يغضب الكثيرين، ولن يكون الأخير. وإن كان من دافعوا عنه في أغلبهم قد حسموا أمرهموجاوروه في الخندق، فالتحدّي والمسؤولية ملقاة، بالأساس، على عاتق أصحاب الجرح والوعي المفتوحين الذين حاولوا أن يقولوا له «لا». كيف تكون «لا» الرافضة تلك مستقلّة بذاتها، واثقة، تحمل في جوفها مقوّمات استمراريتها، وكيف تبتعد عن سياق المناكفة، كي تكون هي نفسها علّة وجودها، لا أن تكون موجودة، بنديّة بائسة، في وجه من قالوا «نعم». لن يفوق كون زياد الرحباني ضحيّة محتملة للحركة الثورية فداحةً إلا أن يكون أصحاب تلك الحركة ومناصروها، بقصد أو بدون، ضحايا من نوع آخر