زياد الرحباني واستراتيجيات إدارة الحنين

 

الجدال حول حفلة زياد الرحباني المقبلة بالقاهرة مفيد قبل أن يكون تقليداً؛ فزياد منذ حفلته التاريخيّة الأولى قبل ثلاث سنوات في القاهرة ترك المسرح بلمسة استعلاء شكّكت الكثيرين في مستوى انضباطه النفسي: فهو القادم لبلاد يكرهها كمصر، أو هو يضعها، كما في حواراته، مبسترةً في شكلين أو ثلاثة أشكال لا تخفي جهلاً لسمّيع، كاد أن يبصق على مستمعيه وهو يتدلّل ويتشقلب في طحينة حنين الناس إليه. وكأن هذا الحنين شيك على بياض.

أقول مفيد هذا الجدل قبل أن يكون تقليد ابن شطط سجالنا الانفعاليّ على الصغيرة والكبيرة منذ قيام الثورة. ومفيد في انطباق صورة ما رشح من زيارته، على ما استمعنا له من نثار تجارب شخصية قريبة منه. فنحن، سمّيعة الاسطوانات الثمانينيّة، مزجنا بين قدسيّة وهالة مشوار فيروز، وبين تقبّل إنتاج زياد على علاّته، ودخل مخيالنا المقدّس بفيروز ليظلّل مخيال الزياد اليساريّ، فيكسبه تقديساً بتقديس، وشرفاً بشرف.

وأمام غموض الموقف الآيدولوجي للأم، كان الحضور الساطع لآيدولوجية الابن التي استهوتنا في فنه، قبل أن يستهوينا فنه بالآيدولوجيا. أو أنّهما تراكبا على أصل وصورة من دون فاصلٍ دقيق. بمعنىوهذه هي الصعوبةأنّ الفطام الآيدولوجي قد يكون سهلاً، أو على الأقل أبسط في ميكانيزميّته، أما الفطام من حروف الموسيقى التي اختلطت مزاجيّاً بذكريات ومسيرات وحبيبات في عز غرورنا التأسيسيّ، فهو الأصعب.

أقول هذا وأنا كما كتبت سابقاً، أحببت فتاة على أسطوانته، بل وانطبق مصير علاقتنا على ما انتهت إليه إحدى أغاني هذه الأسطوانة: “هيدي إمي بتعتل همّي“. وأكاد أقول اليوم، وقد كبرت، أنني إما أنني تمثّلتُ الأغنية لدرجة تثبيت نتاج العلاقة على ما تقتضيه الأولى، أو أن عوامل اللعب على وقائع زمن العلاقة حاولت تصنيف فشلها على الأم التيتعتل الهمّ“. أليس هكذا أسلم بدلاً من تصلّب شرايين التاريخ عند سردية وحيدة منضبطة لمجرد أسطوريتها؟

الحقيقة أن موقفي من زياد، أو مراجعتي لموقفي من زياد قد أعلنته في وجهه من دون خجل تكسير أصنام العجوة. في وجهه حرفيّاً عندما استضافتني حلقة خاصة لجوزيف عيساوي معه قبل أربع سنين على قناةالحرّة“. كان زياد قد بدأ مسيرته الظافرة في جريدة الأخبار اللبنانية بقصف لا يخلو من خفة دم لقوى الرابع عشر من آذار، لكنه سرعان ما انقلب مكرراً بالتزامن مع التحاف ايدولوجي كامل

لكنني مزجت غالباً مما سمعته من تجربته معلطيفةالتي كررت جملاً لحنيّة كاملة من تراث أمه إليها. وخلطت بين عمله التأسيسي الجبّار في إعادة توزيع ألحان عاصي، وبين توزيعات بنفس الميلودي والآلات في اسطوانته الأخيرة “ايه في أمل“.

الحقيقة أن خلط السياسيّ الرجعيّ بتصحّر القريحة الموسيقيّة منطقيّ. فأنا لم أسعَ إليه مثلما سعى زياد إليه، في نفسه وعن نفسه، فغالباً لم يتبقَّ للفنان الذي حملته الجماهير العربيّة فيما فوق فنه بصفات المناضل والإنسان والحسيّ والفنان، إلا أن يشغل نفس المكانة بالسياسة وحدها عارية من الفن. أو كأن مستطرقة الخاصيّة الشعريّة المنخفضة فنيّاً تعوّض نفسها بعلو سائل المحاججة السياسيّة المقاومتيّة: الفنان يعوّضه السياسي. وما رسخ شعوريّاً عن فنّه السابق يستطيع لدي محبيه أن يمسح الواقع والتاريخ.

البعض يتحدث تاريخيّاً عن أننا لا زلنا نحب عبد الوهاب رغم غلمانيّته عند الأمراء والملوك، ونحب أم كلثوم رغم صورتها القابضة داخل وعي يوليو السلطوي. نعم نحبهم كظواهر تاريخية. وفيما نحن نسمع أم كلثوم مثلاً، نغني أيضاً، أو نردد: “كلب الست“: قصيدة نجم المتمسخرة عليها. بل وأن كثيرين لو عاشوا ظرف نهاية هزيمة الستينيّات، عاشوها بمعنى عاينوا أثرها وكانوا جزءاً من وعي لحظتها، لكانوا أقرب لمسخرة نجم من أم كلثوم. وما لاحظناه فيتسيُّخ آبائنا الآيدلوجيّتجاه ظواهر فنية باسقة عاصرت مهازل الناصريّة والسبعينيّات لاحقاً إلا مدخلاً لفهم علاقة الموقف بتاريخيّته، وعلاقتنا نحن بالحنين لتاريخ منبت الصلة عن واقع أو حاضر حياتنا. فمن منّا لم يسخر من ذائقة أبيه الآيدلوجية من فنان بحجم أحمد عدوية حين كان هدفاً لسهام النقد اليساري؟

كل هذا لأن التاريخ يسمح بالتناقض، أو بالمسافة الباردة التي تجعلنا بمنتهي الفجور نفصل بينالسياقوالزمنوبين حاضرنا، طالما لن ندفع ثمن هذا التاريخ في حاضرنا، أو طالما تقمّصنا روح الحياد اللاإنسانيّ. لكن ما حالنا مع الست عفاف شعيبأشهر من بحثت عن ريش اللحم في الثورة المصرية؟ ألم تكن أمّاً لحنيننا في مسلسلالشهد والدموع؟ أو عن الفنان عادل إمام المحبوب فقط من أجل أفلام مثلالحرّيفوالمشبوه، وهو المدافع عن مبارك وأبناؤه؟ هل لا زالوا في مواقعهم كما كانوا؟ هل تُشَاهدُ أعمالهم التي شكلت حياتنا بانفصال تام من دون منغصات؟

حالة عادل إمام تحديداً هي نموذج فارق في هذا الإطار: من منّا يشك للحظة في قشريّة وعي عادل إمام؟ لا أحد على ما أعتقد. فهو لم يُظهر يوما تعاطفاً مع قيم أكبر من نجوميّته، حتى عندما تخرج منه تحفه الفنية، أو حضوره في الذاكرة الجيليّة كبطل عابر للأهواء الآيدولوجيّة. لكنه بعد الظهور الفجّ المؤيّد لمبارك، وإدراك تواضع ردّة فعله وحساسيّة موقفه من النَّسَب المباشر مع عائلة أخوانيّة، وربما في صلب إدراكه لقيمته الجيليّة وخسائره المتوقعة للنزول الغشيم في ملعب السياسة، آثر الاختفاء. بل يكاد يضحك في سرّه محتفياً بحضوره في جرافيكاتأساحبيالمنتصرة لفنّه الغرير على حساب حضور واقعه الجاهليّ.

هل تعتقد صديقي أنك قادر في هذه اللحظة على تشغيلعن الشعب العنيدفي تابلوه السيارة من دون أن يقلق ضميرك بما آل إليه مجمل هذا الوعي السياسي وهذا المدخل الملتبس لعلاقة السياسي بالفني؟ أو هل تستطيع عمليّاً فصل حنينك عن ماكنتهفي زمن التجربة، عمّاتكونهزمن اجترارك المر لها؟

أما أكثر المحاججات تهافتاً، فهي الفصل التعقيميّ بين الفن والسياسة، لا ولمن؟ لزياد الرحباني الذي لم يروّج له إلا اليسار المصريّ تحديداً، وانطلاقاً من مواقفه الآيدلوجيّة المبثوثة في مسرحياته وأعماله الإذاعيّة، ومن انحيازاته الأخلاقيّة الراديكاليّة للفقراء، وتقبّل مئات منهم حتى للهلفطات غير المقبولة منه في هذا السياق. فحين يتحدث مثلاً في وسط التسعينيّات فيما يتبادل العشرات أسطوانته كمخدر سحري عن الماويّة، وانبهاره بالصين في اللحظة التي سقط فيها الاتحاد السوفييتي، وتموضع مجمل الفكرة في خندق مراجعة تاريخيّة.

فصل زياد السياسيّ عن الفني ادّعاء، حتى لو استسلمنا لما فيه من تواطؤ ضمني على اللحظة. وحتى لو تغافلنا فيه، وبه، عن خطابه التحريضيّ ضد الثورة السوريّة، فذلك لا يعني بالضرورة نجاة ذاكرتنا عن مشروعه السياسيّ الفنيّ من ضرورة المراجعة والفحص.

فكما قلت وسأظل أردّد: زياد هو من خلط سياسته بفنّه، وهو من مزج بينهما عبر تاريخه بما هو أكبر من خامة مادته الفنيّة نفسها. وهو من تلاعب بالاثنين تلاعباً احترافيّاً لخدمة مشروعه الاحترافيّ كنجم أو ظاهرة قادرة طول الوقت على جذب المريدين. هو من كرّس لذلك، لا نحن من نسترخص على أصدقاءنا أن يوقفوا عجلة وعيهم السياسي الفني لصالح حفلة تسهم في تراكم هكذا ظاهرة. ظاهرة هي في طريقها فعليّاً إلى التحول لتاريخ.

لكن البعض مصمّم على تثبيت عجلة وعيه بمنتهى العصاميّة عند عبادة الأصنام التاريخيّة، لوأد ما في واقع زياد نفسه. كأنّهم، بتكلّس ضميرهم، يثبتون لا شعوريّاً نقطة يمكن الرجوع إليها. نقطة تسمح لهم بالاتساق مع ما كانوه. علّها تنفعهم في فض اغترابهم عن وقائع الكشف الحالية. علها تنجيهم من ضرورة نقد ما كانوه، أو النظر إليه من زوايا جديدة.

السؤال الأخير في هذا السياق، للذاهبين إلى حفلة زياد: لو دعم زياد خلال الـ18 يوماً مبارك وممارساته في مصر، هل كنتم تذهبون الآن؟