.
تعودُ بي ألحان شارات سبيستون إلى ذكريات دأبتُ فيها على التسمُّر أمام التلفاز صباحًا، حاملًا بين يديّ قلمًا وكراسًّا وكلّي عزم على تخيُّر شارة أدوّن كلماتها، كي أحفظها وأؤديها على مسامع المعلمة والأصحاب في حصّة التربية الموسيقيّة. أذكر كم كان الاختيار أيّامها صعبًا، إذ كان بودّي لو ردّدتُ كل أغاني سبيستون، فأخذت أُقلّب بين شارة وأخرى حتى علِق بقلبي لحنٌ شجيّ وصوت يقول “هل شاهدتم ذئبًا في البراري يأكل أخاه؟”
استعصت عليّ مجاراة الكلمات؛ ذلك أنّني كنت مدهوشًا بما أرى، فيهرب مني نصف الكلام، ولا أتبيّنه سوى بعد يوم أو يومين، حتى انتهيت من كتابة جُلِّ الأغنية، متوقفًا عند حدود المقطع القائل “سيمبا قادم / سيمبا جاء.” لم أدر أيامها ما كان يُقال بعدها، فاكتفيت عند أدائي الأغنية بأن أختتمها بإعلان قدوم سيمبا.
ظلّ صدى هذه الشارة يتردد في مسامعي، كحال غيرها من شارات سبيستون، إلى أن صادفت يومًا مقطعًا قصيرًا في يوتيوب لأغنية سيمبا، يؤدّيها رجل سَمِح الملامح مألوف الصوت، يهزّ أوتار قيثارته باعثًا لحنًا دافئًا قديمًا. كان اسمه طارق العربي طُرقان، والذي بدا اسمًا مألوفًا، فأصبح لصاحب الصوت صورة في مخيلتي، وحينها، تعرّفت إلى الفنّان الذي زيّنت ألحانه وكلماته سنين صباي.
يبدو من الصعب على أبناء جيلي الفصل بين أغاني سبيستون وصورة طارق العربي طُرقان، ولهذا التماهي ما يبرره على أكثر من صعيد؛ فخلافًا لكونه أحد مؤسسي القناة، كان من النادر أن تخلو شارةُ كرتون من مساهمةٍ له، وبالرغم من أن مسيرة طُرقان لم تكن مدفوعة منذ البداية بأغاني الأطفال، إلّا أنّنا أينما التفتنا وجدناه حاضرًا.
تعلّق شغفه الأول بالتلحين، وهذا ما يرجعه طرقان إلى طفولته، إذ كان بحسب وصف خالته رضيعًا كثير التصفير، كما ساهمت طبيعة العائلة الفنيّة التي نشأ فيها على تنمية موهبته. خاض طرقان أول تجربة تلحين له ولم يكن قد تجاوز الرابعة عشرة، إذ لحّن أغنية برنامج رمضاني، ثم استعمل هذا اللحن في إحدى شارات الأطفال.
في حواره على بودكاست مكنون، يتأمل طرقان مسيرته الفنية، فلا يزيد في وصفها عن قوله إنّ “الإنسان مُسيّر إلى الخير، مدفوع إلى ما خلق إليه.” فهو وإن لم يبتغ امتهان الموسيقى، وعلى إثر ذلك التحق بقسم النحت في دراسته الجامعية للفنون الجميلة، فإنّ ما قاده لاحقًا إلى عالم أغاني الكرتون بداية التسعينات، بعد اتصاله بمركز الزُهرة، كان وليد الصدفة.
كان طرقان عازف أورج في أحد مطاعم سوريا، وفي أحد الأيام، التقى شخصًا من معارفه القدامى كان يعمل وقتها مهندسًا للصوت في مركز الزُهرة. أخبره المهندس أنه يزور المطعم بهدف الالتقاء بأحد الملحنين من أجل مشروع متعلّق بشارات أطفال، وبعد أن تخلّف الملحن عن الموعد أكثر من مرة، وبدا الاتفاق معه ميؤوسًا منه، سأل المهندس طرقان مبتسمًا: “تروح؟”
كانت ملامح مشروع طرقان واضحة منذ الشارة الأولى؛ عندما حدّثه الأستاذ مناع حجازي، أحد مؤسسي مركز الزهرة، عن قصة الكرتون الذي يحتاج إلى أغنية، سرعان ما جمع طرقان بين هذه القصّة وحكاية حي بن يقظان. هكذا جاءت شارة ماوكلي التي لما عرضها على الأستاذ مناع، فوجئ بانطباع غريب منه؛ إذ رأى في عينيه بريقًا ينم عن الإعجاب، وضحكًا متواصلًا، ذلك أن كلمات الأغنية كانت بالعامية السورية.
يقول طرقان إنّ كتابته أغنية ماوكلي باللهجة العامية في البداية، تعود إلى قلة علمه بأغاني الأطفال، وظنّه أنّ الكرتون لن يتجاوز التداول المحليّ، لذلك، أعاد طرقان كتابة الكلمات بالعربية الفصحى، واستقرت على الشكل الذي عرفناه وحفظناه. لاحقًا، تلت أغنية ماوكلي عدة أغاني سلكت النهج نفسه.
من السهل على كل من نشأ على متابعة سبيستون، تمييز شاراتها عن سائر أغاني الأطفال في القنوات الأخرى. فلئن كُتبت كلمات هذه الشارات بلغة عربية فصيحة تضمن مخاطبة كل أبناء البلاد العربية، فإن الألفاظ التي جاءت فيها بدت غريبة آنذاك عمّا جرى عليه العُرْف في أغاني الأطفال، ولمّا سئل طرقان عن رأيه فيمن يدّعي عُسرَ ألفاظ شارات سبيستون، أجاب بأن لا وجود لما يسمى بالألفاظ الصعبة، بل تغدو كذلك إن هُجِرت.
تكمن قيمة هذه الألفاظ والتراكيب، متى ما تكررت على مسامع الأطفال، في إكسابهم حسًا لغويًا سليمًا يميزون من خلاله الكلام الصحيح عن النطق المعووج، وهذا قبل أن يلموا بشيء من قواعد اللغة. يرى الأستاذ طارق أنه من الطبيعي ألا يفهم الطفل كل لفظ يسمعه، فالغاية بدايةً هي تعويده على سماع إيقاع لغة سليمة، لكي يتيسر له فيما بعد فهم معانيها.
يسترجع طرقان في هذا الشأن صورًا من طفولته، أيام كان الأهل يتسامرون على وقع المطارحات الشعرية، فيتخيّر لنفسه موضعًا بينهم ويصغي إلى كل بيت وقافية، حتى قال إنّه قد حفظ بيت أبي تمام “السيف أصدق إنباءً من الكتب / في حدّه الحدُّ بين الجدِّ واللعب”، وهو لمّا يدخل الحضانة بعد. يبدو أثر أبيات الحماسة جليًّا في أغاني سبيستون، إذ نجد فيها حضورًا لمعجم الحرب من ذكر السيف والرمح والفداء، ودائمًا ما يوظف هذا المعجم في سياق الانتصار إلى العدالة والذود عن الأرض والدفاع عن المستضعفين.
تحضرني في هذا فواصل لغويةٌ كانت تبثُّ قديمًا على سبيستون؛ فمنها فاصل فيه ترديد لتفعيلات بعض بحور الشعر، وأخرى من تأليف وغناء طارق العربي طرقان واسمها أزمنة الأفعال، تقول كلماتها “أزمنة الأفعال ثلاث: ماضٍ، مُضارع وأمر”. ويتردد فيها تصريف الفعل “مضى” في هذه الأزمنة، حتّى يعلق بآذان السامعين.
تأخذ اللغة مكانة أساسية في مشروع سبيستون، وذلك من خلال محافظة القناة على أسلوب متفرد وألفاظ باهرة يتوزع حضورها على الفواصل والأعمال المدبلجة وشاراتها. عبّر طرقان كثيرًا عن حرصه على سلامة اللغة التي تُقدَّمُ في أغانيه، فكان دائمًا ما يراجع كلمات أغانيه مع مدقق القناة اللغوي، حتى مع علمه خلوّها من الأخطاء. هذا بالإضافة إلى وقوفه على تصويب زلات زملائه من المغنيين، والذين قد يخلطون عند التسجيل بين النطق العامي والفصيح، كأن يقال الَّزي بدلًا من الذي، أو السائر بدلًا من الثائر. ويشهد كل من عمل مع الأستاذ طارق فضله عليهم، خاصة فيما تعلق بإتقان النطق وتقويم مخارج الحروف.
تنهل شارات سبيستون من منابع موسيقية شتّى، إذ نجد في نغماتها وألحانها تأثرًا بالإيقاعات الشرقية والمغاربية، حتى استغنت بعض الشارات عن الكلمات أحيانًا، كحال شارة ون بيس. ينتج هذا الثراء عن ولع طرقان بكل ألوان الموسيقى؛ وعن كونه جزائريَّ الأصل، سوريَّ المولد والنشأة، فقد تنقلت ألحانه بين مختلف هذه الألوان. كما عبّر طرقان عن حبه وتأثره بموسيقى المغني الجزائري حميد شريط المعروف بإدير، وقد يميّز المتذوق لشارة سيمبا حضور هذا الأثر فيها.
لطارق العربي طرقان طقوسه الخاصة في التلحين والكتابة؛ إذ يذكر أنّه كثيرًا ما كان يصحو من نومه على أصداء ألحان وكلمات تتردد في أذنه، فيهرع إلى تسجيلها، ويتخيّر الآلات المناسبة لأدائها، وكان هذا شأن شارة الكابتن ماجد، التي بدأت حكايتها بنغَمٍ يتكرر في مسامع الأستاذ طارق ويقول “الكابتن ماجد، الكابتن ماجد”، وانطلاقًا منه، كُتبت الشارة ولُحنت.
كما تبدو إيقاعات شارات سبيستون ملتزمةً بأوزان الشعر العربي؛ ومن السهل ردُّ هذا إلى ولع طرقان بالشعر منذ صباه، فقد كانت أمه شاعرةً، ودأب هو على قراءة الشعر القديم حتى تآلفت ذائقته مع أوزانه وإيقاعاته. تقوم هذه الشارات على اقتباس عناصر شعرية، كالحفاظ على القوافي واتفاق المقاطع مع أوزان بحور سهلة الحفظ كالمتقارب والمتدارك والرجز.
لشارة دراغون بول مثلًا إيقاعٌ خاص تتنظمُ أغلب مقاطعه على بحر المتقارب، الملائم لمواضع الشدة والقوة التي اتسمت بها كلمات هذه الشارة. كما جاءت أجمل مقاطع شارة ماوكلي التي تقول “فلتحذر أن تغترّ، استخدم عقلك أكثر”، منتظمة على بحر المُتدارك ذي الإيقاع الراقص والخفيف.
في بعض الأحيان، كان طرقان ينظم المقاطع على وزن أحد البحور ثم يخرج المقطع التالي عن هذا الوزن، كما في شارة بابار فيل بانتظامها على بحر الرمل ثم خروجها عنه. يقول طرقان إن الوزن قد يُكسر أحيانًا من أجل الموسيقى، لكنّ الإيقاع يظل منتظمًا بإدخال العلامات الموسيقية الزمنية عليه، فيما يبدو مزاوجةً بديعة بين إيقاعات الشعر ونغمات الموسيقى.
اتسمت أغلب أغاني وشارات الأطفال في السابق على قيام ألحانها على نغمات السلم الكبير، وهو سلم موسيقي تبعث نغماته أحاسيس الفرح والبهجة، ولم تخلُ شارات سبيستون من استعمال هذا السلم كما في شارة الكابتن ماجد مثلًا. لكن مكمن التجديد قد بدا من خلال تأليف شاراتٍ تعتمد نغمات السلم الصغير، والتي لم تكن شائعة في صناعة أغاني الأطفال لما فيها من أجواء العاطفة والتأمل والحزن، كما في شارة عهد الأصدقاء، وشارات أبطال الديجيتال بأجزائه المتعددة، وخاصة أغنية لا تبكِ يا صغيري.
في حديثه عن أداء الشارات، يقول طرقان إنه يختار مغني الشارة بعد كتابة كلماتها، إذ تكشف هذه الاختيارات عن حسّ عالٍ؛ فنجد أنّ الشارات التي اختصّت بنفسٍ حماسي ملحميّ، كهزيم الرعد وصقور الأرض ودراغون بول، كانت دائمًا من نصيب الفنان عاصم سكَّر صاحب الصوت الهادر القويّ. فيما كانت الأغاني الأكثر مرحًا أو عاطفة، كدروبِ ريمي وعهد الأصدقاء وإيميلي، من نصيب أصوات أكثر رقّة كرشا رزق ونور عربي.
لما كانت أغلب شارات سبيستون من كتابة وتلحين طارق العربي طرقان، ندر ما نجد أغنية بصوته، ولعلّ هذه الشارات هي الأحبُّ إلى قلبي، فمنها أغنية سيمبا وأسرارُ المحيط وسوسان، والتي لحُسن إيقاعها كُنت أُفضّل مشاهدة ميغالو وسوسان على توم وجيري. يقول طرقان عن سرِّ خفوت صوته وتواريه في خلفيّة الأغاني عند أدائه مع مُغنٍّ آخر، مثلما نرى في شارات إيميلي وكونان، أنّه يعمد إلى خفض صوته كي لا يطغى على صوت زميله.
يرى طارق العربي طرقان أننا نظلم الأطفال إذا ما استخففنا بعقولهم واعتبرناهم قاصرين عن إدراك معانٍ جديدة. فنجده يقول في كل حوار “أنا لا أريد كتابة أغانٍ تقول كلماتها هذا يمين وهذا شمال، أو هذا أحمر وهذا أصفر، هذه أمور بديهية. أنا أفضّل أن أغني مررتِ بخاطري فكرة / عبرتِ ظلّتِ الذكرى.”
يؤكد طرقان أنّه دائمًا ما كان يكتب كلمات شاراته كأنما يخاطب بها أبناء العشرين، متخلّيًا في ذلك تمامًا عن كلمات الشارات الأصلية. وعادةً ما يتصل خيط الإلهام لديه بمشاهدة لقطات بسيطة من الحلقات الأولى للكارتون، فيَعي فكرته العامة ثم يصوغ من حولها كلماته الخاصّة. وهي كلماتٌ قال عنها، في أحد حواراته، بنبرة تخاطبنا “هذه كلماتٌ كُتبت من أجلكم”.
على غرار الحكايات المَثَلية التي تقدم قصصًا على لسان الحيوان، مخاطبةً بها واقع الإنسان، ابتدعت سبيستون ما يمكن أن نسميه بالشارات المثَلية؛ إذ نجد في شارتي سيمبا وماوكلي خير تعبير عن هذا الأسلوب. فقد درج عندنا أن للغاب قانونًا يقول بسيادة القوي على الضعيف، لكن هل سبق ورأينا “ذئبًا في البراري يأكل أخاه؟”. هنا يقول الأستاذ طارق “لا أحد يأكل أخاه سوى البني آدم”. وعلى هذا النهج تسير كلمات شارة سيمبا منطلقة من تساؤلات عديدة تنتصر لقيم الغاب على أفعال الإنسان. فمن من الحيوانات “يمشي مغرورًا بأذاه؟”، ومن منهم يشهد زورًا و”يعضّ اليد التي ترعاه؟”.
تناقش شارة ماوكلي هذه البيئة نفسها، إذ نرى فيها فتى الأدغال آخذًا بأيادينا كي نتعرف من خلاله على حقيقة قانون الغاب. تضع الشارة المقارنة بين عيشة الغاب وعيشة الإنسان؛ أين ينعم ماوكلي بين الذئاب والسباع بالحُب والإخلاص والعيش الفطريّ الهانئ، ونراه آمنًا بين الوحوش لا يمسه “خوف ولا ظلم ولا غدر ولا أحزان.”
لا تحمل كلمات شارة ماوكلي نظرة متشائمة تجاه الإنسان، بل نجد فيها دعوةً إلى العودة للفطرة السليمة التي بددت الحضارة قيمها وأخلاقها. كما تحفل هذه الشارة بنبرة نُصحٍ متكررة تدعونا إلى مساعدة الغير وحب الخير وإدراك أن الخلاص لا يكون فرديًا، فالمرء المنفرد “عودٌ غضّ وطريّ، والجمع عصا لا تُكسر.”
تتميز قناة سبيستون بشعارها الذي لا يفارق اسمها: قناة شباب المستقبل، ولطالما بدت رسائلها وفية لهذا الشعار؛ فلم تقتصر برمجتها على الترفيه وتسلية الأطفال، وإنما سعت من خلال شاراتها وفواصلها إلى إكساب الطفل وعيًا مبكرًا بهويته وتراثه وقضاياه. ذلك أننا نجد في فواصل العروض مثلًا، أبيات شعر تثير في الصبيان حِسَّ الانتماء إلى الوطن العربيّ، فيتردد في أسماعهم بيت فخري البارودي: “فغنوا يا بني قومي / بلادُ العرب أوطاني.”
كانت سبيستون دليلي الأول في الصبا إلى القضية الفلسطينية. إذ ما زلت أذكر أيّامًا دأبت القناة على تعليق برامجها تضامنًا مع أطفال غزة، تزامنا مع العدوان الذي شنه الاحتلال سنة ٢٠٠٨. فيتوقف الإرسال وتطالعنا قناة سبيستون بشاشة زرقاء داكنة كُتِبَ أسفلها “اللهم اِحقن دماء أطفال غزة”. منه علمتُ، وأنا في السابعة من عمري، أنّ أطفالًا مثلي تمامًا ممن يبتهجون ويطربون لشارات دراغون بول وسيمبا، هم الآن يألمون ويُقتلون بنيران احتلالٍ غاشم جبان؛ ولمّا كنتُ، وما زلتُ، قليل حيلةٍ اكتفيت بمطالعة تلك الشاشة الزرقاء أردد قراءة دعاءِ اللهم احقن دماء أطفال غزة، كلما مرّ أمامي كالشريط الأخباري.
تحضر القضيّة الفلسطينية في شارات سبيستون معنًى وسياقًا. نرى هذا مثلًا في شارة هزيم الرعد التي كُتبت كلماتها زمن الانتفاضة الفلسطينية الثانية. فبعد اقتحام أرئيل شارون المسجد الأقصى، يوم ٢٨ سبتمبر عام ٢٠٠٠، قائلًا إنّ الحرم القدسي سيظل منطقة إسرائيلية، اندلعت مواجهات بين المصلين وجنود الاحتلال استشهد على إثرها سبعة فلسطينيين، لتقوم بعدها انتفاضة الأقصى الشعبية.
جاءت شارة هزيم الرعد في هذا الظرف، لتستنهض العزائم والهمم وتخاطب الأطفال مخاطبة شباب المستقبل، فتراهم يرددون منذ صباهم “ما عاش الظالم يسبيكِ وفينا نفسٌ بعد”. ليس من الغريب أن تكون لهذه الشارة منزلة خاصّة لدى كل من نشأ على هدير ألحانها ودويّ كلماتها، ذلك أنها من أبرز الأغاني التي أثرت فينا حين كنّا أطفالًا، ثم أخذنا ندرك معانيها كلما تقدم الزمن بنا.
في اليوم الثالث من انتفاضة الأقصى، استشهد الطفل محمد الدرة بين يدي والده بعدما اخترق رصاص الاحتلال جسده. كان لهذا المشهد المأساوي أثرٌ أليم على طارق العربي طرقان، فألّف بعدها أغنية طلقة التي أدّتها آنذاك الطفلة هالة الصباغ متوشحة الكوفية الفلسطينية. تعيد هذه الأغنية رسم مشهد سقوط محمد الدرة شهيدًا، وتجيء كلماتها على لسانه فتقول “طلقة، تلو الطلقة، يرحل جسدي روحي تبقى”، ونسمع في نهايتها وصيّة من الشهيد تخاطبنا كأنما خُطَّت اليوم: “طلقة، ألفُ طلقة، تخرج مع أنفاسي الأنقى، واثقةً صارخةً شعبي: كذب المحتل ولو صدقَ.”
هذا وتتسم العديد من شارات سبيستون بتكرر نغمة الفداء في كلماتها، والتي تتصل عادة بمعاني حب الوطن والاستماتة في الدفاع عنه والحلم بالعودة إليه. في شارة صقور الأرض، التي تبدو أشبه بنشيد وطنيّ، نجد المقطع القائل “تعاهدنا غدًا سنُعلي راية الفداء”، ثم يليه المقطع الأخير “أرواحنا فدى الوطن رخيصة الثمن.” تحضر هذه النغمة في شارة هزيم الرعد ماثلةً في هذه الكلمات التي حفظناها جميعًا: “بحنيني بدمي أفديكِ وروحي تُنبت مجدْ.”
عاودني الشوق منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ إلى إعادة سماع جل شارات سبيستون، فلقيت فيها شيئًا من جِدَّة القِدَم، ورأيتُ الواقع متشكلًا على كلماتها ومعانيها. فإضافة إلى تغنيها بحب الأوطان وقيم الشجاعة، ترسم بعض هذه الشارات صورة البطل المقاوم الذي يدفع الأذى عن أرضه وعرضه متحليًا بصفات العدل والحلم. فنلقى في كلمات شارة المقاتل النبيل إقرارًا بأن “القوة في الحكمة وفي نبل الأخلاق”. أراها بعدئذ تخاطب كل محتل غاصب بهذه الكلمات “لو حسبتم أن استضعاف العجوز والصغير فيه قوة لكم فهذا خطأ كبير.”
تبرز صورة البطل المقاوم كذلك في شارة سيف النار، فهو “شديدٌ على من يعيث فسادًا”، لكنه بالمقابل “رقيقٌ لطيفٌ مع الضعفاء، مع الأبرياء”، وذلك كي “يحيوا على أرضهم في سلام”. لهذه الشارة منزلة خاصة عندي، فلئن كنت أخشاها صغيرًا فإني اليوم لم أجد تعبيرًا يصف وحشية المحتل كما صورته كلماتها القائلة “جنون الجناة دعاهم إلى أن يُعادوا الحياة.”
جمعت شارات سبيستون بين شعرية الإيقاع وشاعرية المعنى، وكانت ألفاظها التي نحتها طارق العربي طرقان خير قوالب لمعانيها، حتى بدت في أسماعنا كالصور في الأبصار. لطالما ترنمتُ صبيًّا بألحان شارة دراغون بول ثم شغلتني كلماتها وودتُ لو علمتُ فيمن كُتبَت، حتى رأيتها اليوم باديةً على وجه كل مقاوم. كما طربتُ للصور البديعة التي رسمتها كلمات الأستاذ طارق في شارة أسرار المحيط بقوله “لؤلؤتي تريد أن نبحر من جديد، نحو هلال أبيض يسبح في الأفق البعيد.” هذا إضافة إلى ما أذكره من أغانٍ دينية كانت وما زلت تبعث في نفسي السكينة والخشوع، كفاصلة أهلًا رمضان أو أنشودة نورٌ في الأجواء تألق، والتي ما سمعتها يومًا إلا ورأيتني قريبًا من مكّة.
عند سؤاله عن أحوال شارات الكارتون في هذه الأيام، يقول طارق العربي طُرقان إنّ هذه الصناعة قد بدأت بالتراجع منذ مطلع هذا القرن؛ فقد شارفت قلاع اللغة على التهاوي بسبب فساد المسموع، وأصبحت معظم الشارات الجديدة لا تزيد عن كونها ترجماتً للأغاني الأصلية. يضيف الأستاذ طارق أنّ للتطور التكنولوجي دورًا في هذا الانحدار، ما جعل الأطفال يبتعدون عن التلفاز ويتصلون بوسائل أخرى، حتى بدا حاضرنا اليوم أشبه بما حدثتنا عنه كلمات شارة أبطال الديجيتال: “في فخٍّ غريبٍ وقعنا، في عالم الأرقام ضعنا.”
رغم هذا، يحتفظ طارق العربي طرقان بأمل كبير تجاه المستقبل. أملٌ نراه يشعُّ في شاراته، وباديًا على مُحيّاه كلما أطل علينا في عرضٍ أو بث مباشر، فيفتتح قوله مخاطبًا إيانا بأبنائي، ونراه نحن بمنزلة الأب الذي يسعنا حضنه جميعًا. من جملة ألقابٍ كثيرة نالها الأستاذ طارق يظل أكثر لقبٍ محبب إليه هو حارس أحلام الطفولة، ولئن كان شباب المستقبل اليوم قد أثقلته الحروب وأضناه الشتات وملّته الآلام، فإن صوت طارق العربي طرقان لا يزال يحرس ذكرياتنا ويهمس في آذاننا بأننا ما زلنا نملك الخيار، وأن لا خيار لنا إلّا الأمل.