.
التقيت سعد محمد حسن آخر مرة قبل عام، في صالون المنارة. كان ضئيلًا، لكن لم يبدُ عليه أي تشكٍّ من التقدم في السن، ملؤه التواضع كما رأيناه في التسجيلات وكما نُقل عنه من مخالطيه. هو على ذلك واثق الدوسة على أوتاره، ناعم التعبير بتفاصيل جمله التي بناها عبر خبرة السنين، فكانت توقيعًا يدل سامعه عليه بين آلاف العازفين. كمانه قرينه، حمل معه الذكريات وبقايا من تلك السنين والأغاني والمواسم والمرافقين، وربما الحاسدين.
ولد سعد محمد حسن في ٢٢ سبتمبر ١٩٤٠ وتعلم في المنيا أول أمره، كما يذكر عبد الحميد توفيق زكي، ثم قدم إلى القاهرة وتعلم من عبده عصفور عازف الأكورديون، حتى اختلط و ترقى واشتد عوده، ثم رافق الفرق وقاد بعضها واشتهر في مصر وخارجها. ظل حسن يرافق الفرق الكبيرة ويُصدر تسجيلاتٍ للأعمال الجديدة والأعمال الكلاسيكيّة في ألبومات اشتهر بها، إلى جانب عمله في غير تفرغ أستاذًا في المعهد العالي للموسيقى العربية بالأكاديمية بالهرم.
هو من جيل الفرق والصّولوهات، جيل ظهر فيه أكثر من عازف قدير، لكن ما ميز حسن واشتُهر به هو عزف الغنائيات، حيث شاع عنه مقدرته على تقديم العمل الغنائي بكمانه، بأسلوبٍ شفيف قريب إلى الكلمة والتقطيع الكلامي. يتضح لي من خلال سماع عزفه، أنه يتناول القطعة الغنائية بالتفكير فيعد جمله وحلياته وتنويعاته في شكل كامل الإخراج حسب فهمه وإحساسه، ليس محاكاة لآخرين أخرجوا هذا العمل بأسلوبهم. بالإضافة إلى ذلك كان يُركز على المقطوعات الموسيقية البحتة.
قدم أيظن، فكان منافسًا لنجاة وعبد الوهاب في غنائهما. قدّم شمس الأصيل فنافس فيها محمود الجرشة عزفًا. عدا عما قدمه في القلب يعشق كل جميل، أنساك، أنا في انتظارك، الحبيب المجهول، كليوباترا، أنشودة الفن، ألبوم عبد الوهاب التي عزف فيه عش البلبل وعلشان الشوك اللي في الورد ووالله مانا سالي، وما قدمه مع عمار الشريعي.
https://youtu.be/mXsLFY0l5yA
أتذكر حين سمعته في تسجيل يعزف لعبده داغر في الكويت مؤخرًا، لم ألمح سيطرة عبده داغر في الجمل والتريلات والحليات عليه. استغربت أولًا أنه يعزف مثل هذه الموسيقى، التي لا تنتمي للمضمار الذي سخر له نفسه وانشغل به طيلة هذه السنوات، واستغربت ثانيًا من استقلال أسلوبه عن سيطرة عبده داغر الذي نرى تلاميذه المباشرين وتلاميذه من التسجيلات لا يستطيعون الهرب منها لشدة تأثيره.
سعد محمد حسن ابن جيل نال النصيب الأوفر من التقدير والإنتاج. لحسن الحظ، له تسجيلات شتى، وله أكثر من نسخة للعمل الواحد ببصمته المعهودة وزخارفه وتفسيراته. بين أيدي جيل عازفي اليوم تجربة طويلة، ومشوار وصل آخره، لكنه خلد بما يريد أن يقول ويفسر. هذه التجربة تعلم الموسيقيّ كيف اختار عازف مثل الحاج سعد طريقًا فريدًا اشتغل عليه ليقدم بشكل ثابت متواصل صيغة فريدة. على الجيل أن يتعلم كيف ظهرت هذه الصيغة، كيف اختار هذا الطريق، ماذا قدم، أين تميز، أين وصل وأين كانت الصعوبة.
ربما نشعر اليوم بألم الفقد، لكن العودة إلى تسجيلات الحاج سعد كفيلة بتذكيرنا بما عاش وسيعيش منه. نرى فيها تلك الابتسامة القريبة من كمنجته كقبلة، ونلمس رؤيته وحبه لما قدمه ولمن قدمه لهم.