fbpx .

دائرة الحياة اللا نهائية للسيتي بوب الياباني

معازف ۲۰۲۲/۰۳/۰۱

نُشر المقال على بيتشفورك بالإنكليزية، كتبته كات جانج، وترجمته براءة فاروق.


في الأسابيع الأخيرة من ٢٠٢٠، تصدّرت أغنية بوب يابانية من عام ١٩٧٩ قوائم سبوتيفاي الضاربة. اسم الأغنية مايوناكا نو دور / ستاي ويذ مي، أدتها ميكي ماتسوبارا ذات الـ ١٩ عامًا آنذاك. الأغنية منعشة كقيادة سيارة مكشوفة عند الشفق، مع صوت ماتسوبارا الحزين الذي يطفو فوق بايس راقص وأبواق مرحة، ولمسات إنتاجية وامضة. متنقّلةً بين اليابانية والإنجليزية، تناجي المغنية حبيبًا فتر شغفه ليستمر معها في العلاقة، بينما يلاحقها شبح ذكراه من الليلة السابقة. ظهرت الأغنية بدايةً في الأنيمي والتيك توك الياباني في أكتوبر الماضي، لكن ذروة ستاي ويذ مي على سبوتيفاي كانت بعد ستة أسابيع؛ بداية ديسمبر. صوّر صانعو المحتوى اليابانيون على تيك توك أنفسهم وهم يلعبون الأغنية أمام أمهاتهم، اللاتي انفرجت أساريرهن لتمييزهنّ الأغنية الضاربة من أيام شبابهن. 

كان المشهد كربوجًا للغاية. أغلقت الأمهات أعينهنّ بانطراب، ورقصن كأنهن في كاريوكي. أدّى صعود الأغنية إلى توجيه اهتمام عالمي نحو السيتي بوب، جنرا يابانية ذات تعريفٍ فضفاض بتأثيرات جاز وآر أند بي، يعود تاريخها إلى أواخر السبعينيات والثمانينيات. كانت اليابان في ذاك الوقت ثاني أقوى اقتصاد في العالم، مهدّدةً باكتساح الغرب من خلال هيمنة شركاتها وتطور آلاتها؛ في حين انغمس اليابانيون الصاعدون طبقيًا في شراء ملابس باذخة ونبيذ مستورد وسفر حول العالم، مستمتعين بحرّيات غير مسبوقة.

@evaweens Pop off queen Yukari #fyp #TheWildsChallenge #mystepmomisagoddess ♬ 真夜中のドア/Stay With Me – Miki Matsubara

سمح ظهور أجهزة سوني ووكمان وستيريوهات السيارات المتطورة بتخصيص قوائم سماع للطريق، ما أعطى فجأة لجولات القيادة في المدينة ورحلات نهاية الأسبوع بريقًا رومانسيًا سينمائيًا. برز السيتي بوب كموسيقى تصويرية لهذا النمط من الحياة الكوزموبوليتانية. كانت الموسيقى في الغالب حيوية وبرّاقة، مستلهمةً من الموضات الأمريكية مثل الفانك واليات-روك والبوجي واللاونج. محاكيةً أجواء كاليفورنيا المسترخية، يغلب على الموسيقى إحساس الهروب من الواقع، الذي تمثله الكفرات المشبعة بأشعة الشمس من تصميم هيروشي ناجاي، أحد مصممي أغلفة السيتي بوب الأيقونيين، مع مياه زرقاء متلألئة، سيارات جذابة، ومبانٍ بألوان باستيلية تستثير فانتازيات عطلة نهاية أسبوع على البحر. لكن في التسعينيات، سرعان ما انتهت صلاحية الفخامة والحالة المسترخية التي مثّلها السيتي بوب، عندما انفجرت فقاعة اليابان الاقتصادية ودخل البلد في “عقده الضائع”.

كشفت مقابلات عشوائية في الشارع الياباني أن مصطلح السيتي بوب غير معروفٍ حتى بالنسبة للناس العاديين، وإن عرفوا الفنانين المرتبطين بالجنرا. يقول جايسون تشَن، بروفيسور في جامعة هاواي وِست أواهو يدرّس موسيقى البوب اليابانية والأنيمي: “كانت زوجتي هي الفئة المستهدفة، وكان عليّ أن أفسر لها المصطلح. في السابق، كان الناس يسمّونها موسيقى فقط.” لكن في السنوات الأخيرة الماضية، شهد ما يُعرَف بالسيتي بوب إحياءً في الغرب. في يناير ٢٠٢٠، في جزء من برنامج نيبون! شيساتسودان الياباني الشهير، كان هناك تحقيق عن فورة المشاهير الباحثين عن أسطوانات السيتي بوب في مقاطعة شيبويا، طوكيو. يسأل المراسل فتًى أبيضًا نحيلًا مرتديًا نظارات: “هل هذه الموسيقى مشهورة بالفعل في أمريكا؟” يرد الفتى: “أجل”، مشيرًا إلى دور الإنترنت وتحديدًا يوتيوب. لاحقًا، عندما يلتقط الفتى أسطوانةً من ١٩٨٥ للمغني الياباني توشيكي كادوماتسو، تنتقل الكاميرات مباشرةً نحو الجمهور الياباني المصدوم.

في الأساس، السيتي بوب عبارة عن موسيقى غربية طوّعها اليابانيون، وتأتي إلينا الآن كمصدر استعادي للسحر. يقول رئيس شركة تسجيلات بزنس كاجوال أن الاستماع للسيتي بوب وكأنه “رؤية إعلانات قديمة من عالم آخر، تبيع ذات الماركات والمنتجات الاستهلِاكية، لكن بطريقة تختلف عمّا أتذكره.” إنها مألوفة بما يكفي لتكون مُطمئِنة، لكنها موجودة ضمنيًا في عالم موازي؛ حيث تحافظ الكلمات اليابانية على هالة من الإكزوتيكية والغموض، لتعطي المستمعين الغربيين فسحة ليسقِطوا عليها رغباتهم بحرّيّة. على يوتيوب، حيث يزدهر السيتي بوب، يعيش المستمعون بشغف على ذكرياتٍ مصطنعة عن اليابان. كتب أحد المعلّقين على الميكس الشهير ليالٍ دافئة في طوكيو: “أتذكر وقتها حين كنت أقود في شوارع طوكيو ليلًا والنافذة مفتوحة، أضواء النيون منعكسة على المباني، والجميع مستمتعون، كانت الثمانينيات رائعة” قبل أن يتكشّف الوهم: “لحظة، أنا في الثامنة عشر من عمري وأعيش في أمريكا.” على كل تسجيل سيتي بوب الكثير من التعليقات المشابهة.

عادةً، حين يتحدث الناس في الغرب عن السيتي بوب، “في الواقع نحن نتكلم عن أنفسنا، والطريقة التي نرى بها آسيا”، كما يقول تشَن. يكشف فحصٌ أدق عن طبقاتٍ أخرى، مثل الأساطير الغربية عن اليابان كمستقبل تقني-رأسمالي، حيث سرّع الإنترنت التبادل العالمي، ومثل الدور الغريب لخوارزميات التوصيات الإنترنتية في تعزيز حنينٍ إلى ماضٍ مصطنع.

قد يكون انتعاش السيتي بوب قادمًا من اليابانيين أنفسهم. قبل عدّة عقود، بدأ المنقبون المحليون عن الأسطوانات القديمة بإعادة نقد الموسيقى اليابانية العتيقة، أو وامونو. بحسب الدي جاي شينتام – المؤلف المشارك في دليل تسجيلات وامونو من الألف إلى الياء الشهير، والمشارك في تقييم تجميعة العام الماضي للجاز والفانك والرير جروف اليابانيين – أن مفهوم وامونو لم يكن موجودًا قبل منتصف التسعينيات: “كان لعِب الموسيقى اليابانية في وصلات الدي جاي شبه محرّم،” كما أخبر رزيدنت أدفايزر. لكن مشهد الرير جروف في بريطانيا، الذي دفع المبشّرين بأنواع منسيّة للبحث عن الفانك والسول والديسكو المغمورين، هو أيضًا ما دفعه ليبدأ التنقيب عن تسجيلاتٍ محلية من بداية القرن؛ وحوالي عام ٢٠٠٨ بدأ يلاحظ الاهتمام ضمن دوائر الجامعين حول العالم. اليوم تجري سمبلة تلك الموسيقى المغمورة باستمرار من قِبل دي جايز الهاوس والديسكو. يقول شانتام: “لأولئك خارج اليابان، يُعد وامانو رير جروف.”

مع ذلك، غالبًا لم يعلم السمّيع الغربي العادي شيئًا عن السيتي بوب إلا قبل بضعة سنوات. ليست الموسيقى اليابانية بتلك السهولة في التذوّق حول العالم، إذ كانت اليابان بطيئة بشكلٍ استثنائي في تبنّي فكرة البث، وأعطت الأولوية لاستهلاك السيديّات؛ كما كان توسّعها في الأسواق الأجنبية كسولًا. كان أحد الإنجازات الضاربة الأخيرة ألبوم باسيفيك بريز: جابانيز سيتي بوب. إيه أوه أر & بووجي ١٩٧٦ – ١٩٨٦ التجميعي، الصادر بنسخة ثانية عام ٢٠١٩ عن شركة تسجيلات لايت إن ذ أتيك، المتخصصة في إعادة الطباعة، كجزءٍ من سلسلة اليابان الأرشيفية. احتاج العمل على هذا المشروع أربع سنوات ليرى النور، والآن يجري العمل على جزءٍ ثانٍ له. يقول يوسوكي كيتازاوا، واحد من ثلاثة قيّمين على باسيفيك بريز: “لم تفهم الكثير من اللايبلز اليابانية لِمَ قد تهتم لايبل أمريكية مستقلة بالحصول على رخصة التصرف بهذه الأشياء، لذا استوجب الأمر الكثير من الإقناع. لم نعلم حتى أن تلك العناوين مشهورة على يوتيوب – لقد جرى تقييمها من ألبومات امتلكناها جميعًا.”

تجوّل في يوتيوب لفترة كافية وستشّك أن الخوارزمية منحازة نحو الموسيقى اليابانية العتيقة، والتي تبدو مئات الآلاف، إن لم يكن الملايين، من مشاهداتها على يوتيوب غير متناسبة مع شهرتها في موطنها. “أي سماع لألبوم نادر من الموسيقى الإلكترونية أو الجاز، قد يرسلك نحو الشرق.” كما لاحظ أندي بيتا في مقالة على فولتشر، يتحرى فيها عن كيف بنت ألبومات محيطة يابانية مثل ثرو ذَ لوكينج جلاس (١٩٨٣) لـ ميدوري تاكادا جماعات من دراويشها على الإنترنت. في مقالة على سبين، لاحظ أندي كَش كذلك أنه بغضّ النظر عن اختيارك الأول، ستأخذك خوارزمية يوتيوب حتمًًا إلى الألبوم المحيط جرين (١٩٨٦) لـ هيروشي يوشيمارا. حتى أن أحد مستخدمي ريت يور ميوزك قام بتوليد قائمة كاملة من توصيات نواة يوتيوب اليابانية Japanese YouTube Recommendations Core، متضمنةً كلاسيكية ماي ياماني، تاسوجاري ١٩٨٠، والتي جرت سمبلتها بشكل ملفت في أغنية يانح نودي و بلايبوي كارتي المسربّة الضاربة، بيسي بامبر / كِد كادي.

واحدة من أكبر ضربات توصيات يوتيوب الأخيرة هي بلاستيك لَف (١٩٨٤) لـ ماريا تاكيوشي، أغنية ديسكو-فانك تحكي عن محاولة مداواة ألم القلب بالرقص. حققت الأغنية وقت صدورها مبيعات متواضعة بلغت حوالي عشرة آلاف نسخة، لتزيد شعبيتها فجأة بعد أن رفع مستخدم مجهول باسم بلاستيك لَفر نسخة للأغنية من ثمان دقائق على يوتيوب عام ٢٠١٧. صعدت الأغنية سريعًا إلى قائمة الاكتشافات الموسيقية على السَب-ريديت: لِسن تو ذِس، وانتشرت بعدها عبر الميمز والفان آرت. على فيديو الأغنية حاليًا ٥٥ مليون مشاهدة، رغم أنها أُزيلت مؤقتًا بعد أن وجّه المصوّر آلان ليفنسون ضربة للقناة بدعوى حقوق النشر لغلاف الفيديو، وهي صورة حالمة لتاكيوشي بالأبيض والأسود. تقريبًا، كل من تحدثت إليهم من محبي السيتي بوب اليافعين أشاروا إلى بلاستيك لَف كبوابة للجنرا، وإلى توصيات يوتيوب كطريق. للمفاجأة، لم تكن الأغنية متاحة على سبوتيفاي حتى قرابة شهرين.

لماذا يزدهر السيتي بوب في أزقة يوتيوب؟ يشير مصطلح يوتيوب-كور (نواة يوتيوب) عادةً إلى موسيقى الاسترخاء المزاجي مثل قائمة لوفاي هيب هوب راديو – بيتس تو ستَدي تو، والتي يمكن تركها تتكرر في الخلفية لساعات بينما تنهمك في العمل. اللوفاي بيتس، المميزة بصريًا برسمٍ لفتاة تدرس يذكّر بأسلوب هاياو ميازاكي، عبارة عن تراكات عمليّة في الأساس وغير مقيّدة بحقوق نشر، ولا يحصل معظم صناعها حتى على تعريف بأسمائهم. في المقابل، ارتبط السيتي بوب بميزانيات واستديوهات أكبر، وبتقنيات تسجيل متطورة، ويجري توليفه من قِبل محترفين. على سبيل المثال تاتسورو ياماشيتا، ملك السيتي بوب، هو أحد أنجح الفنانين في اليابان، مع أكثر من دزينة ألبومات رسميّة والعديد من المشاركات في موسيقى الأفلام والمسلسلات. لكن يوتيوب لا يتعرّف على هذه الفروق الدقيقة، فالخوارزمية ببساطة ستوجّه مستمعي فيديوهات اللوفاي بيتس مباشرةً نحو بلاستيك لَف.

علاوةً على ذلك، يعنون مستخدمو يوتيوب قوائم السيتي بوب بطريقة تشبه نموذج لوفاي المحبب لمحركات البحث: اسم الجنرا يتبعها سيناريو الاستماع الأمثل، مثل: “أغاني سيتي بوب ياباني عند الشعور بدفء الصيف.” حتى أن هناك بث راديو مستمر على مدار الساعة لبيتات السيتي بوب. مع الأخذ بعين الاعتبار الطابع التجاري الصريح لموسيقى اليابان في حقبة الصعود الاقتصادي، فإن تسليع السيتي بوب، أو حتى تسليعها كميمز، قد يكون توظيفًا ملائمًا. قُدِّمتْ العديد من أغاني السيتي بوب الضاربة في البداية كثيمات إعلانات. يشرح تشَن: “يوجد إعلانات مدتها ٣٠ ثانية يُعرَض فيها هوك الأغنية، حيث تروّج الإعلانات للأغاني، والعكس بالعكس. يمكنك اعتبار الأمر وكأنه تيك توك ما قبل الإنترنت.”

شقّ السيتي بوب طريقه في بضع زوايا من الإنترنت قبل أن يصبح ظاهرة ضاربة. عمل جمهور النوع على تتبّع أصل العينات المسمبلة في الفايبروايف وريمكسات الفيوتشر فانك (أحد فروع الفايبروايف، مستوحى من الهاوس الفرنسي)، مكتشفين أغانٍ مثل جود باي بووجي دانس لـ آنري، ودرِسّ داون لـ كاورو آكيموتو. في مرحلةٍ ما، تخطى ريميكس لـ بلاستيك لَف، من إنتاج الكوري نايت تِمبو عام ٢٠١٦، الأغنية الأصلية على محرّكات البحث، حتى أن تاكيوشي شكرته بنفسها لاحقًا لأنه منح الأغنية حياة جديدة. يمكن أن تكون هذه الريمكسات بدائية بشكلٍ مضحك، وبالكاد معدّلة عن الأصل. كما تذمّر مستخدم على ريديت: “لِمَ قد تكافئ المجهود بينما يمكنك فقط زيادة سرعة الأغاني اليابانية واختيار صورة فتاة أنمي كربوجة غلافًا لألبومك؟” لكن هذه التعديلات البسيطة تجعل الأغاني أكثر مرحًا وإشراقًا، أشبه بأمسية على حلبة رقص. 

بمفردات يوتيوب، الاستماع إلى فيوتشر فانك ميجا ميكس يعطيك شعورًا أشبه بالقيادة عائدًا إلى منزلك وحيدًا في الليل بعد حفلة صاخبة، بينما تتمسك بطاقة وحيوية الأمسية. يُعزز هذا الإحساس بالاشتياق جيفّات الأنيمي المكررة، وهي علامة مميِّزة لجماليات أسلوب اليوتيوب كور، من بيتات اللوفاي وحتى الريمسكات المبطأة والغارقة في الريفرب. على الشاشة، تتحول فتاة مدرسة إعدادية إلى سايلر موون. لاحقًا، تعانق يد بشرية يد روبوت، ثم تنسحبان ببطء.

في كتابهما سبايسز أُف آيدنتتي ١٩٩٥، أسس الأكاديميان البريطانيان دايفد مورلي وكيفن روبنز مصطلح تكنو-أورينتاليزم (الاستشراق التقني)، ليصفا كيف أصبحت اليابان “رديفة تكنولوجيا المستقبل، بالشاشات والشبكات وعلوم التحكّم السيبراني والروبوتات، والذكاء الاصطناعي والمحاكاة.” خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حطّم صعود اليابان الاقتصادي فكرة أن الغرب هو المحرك الأساسي للتقدّم المعاصر، وأصاب الذعر العاملين الأمريكيين في صناعة السيارات بسبب واردات السيارات اليابانية، كما تسبّب استحواذ اليابان فيما بعد على تجارة العقارات وشركات الترفيه في أمريكا في زيادة الخوف من كونها تنافس على روح أمريكا. ظهرت على السطح صورة قاتمة لليابان (وبعض الدول الشرق آسيوية) في الثقافة الأمريكية السائدة، وتحولت في المخيال الجمعي إلى إمبراطورية تكنو-مستقبلية، يحكمها إنسٌ آليّون بلا روح. صورة نمطية دعّمتها ثقافة السايبر بنك الخيالية، كما في نيورومانسر لـ ويليام جيبسون، وبلايد رَنر لـ ريدلي سكوت. أشار كلٌّ من مورلي وروبنز إلى أن اليابان تمثّل “الصورة الموحشة والديستوبية للتقدّم الرأسمالي.”

حقّق عدد من الباحثين في أبعاد الاستشراق التقني لموجة الفايبروايف، والتي جنّدت باستمرار المرجعيات اليابانية لدى سخريتها من ثقافة الاستهلاك المفرطة والفقّاعية في الثمانينيات والتسعينيات. كل تراك في ألبوم فلورال شوب على ماكينتوش بلس، ألبوم التعريف بالفايبروايف بالنسبة للكثيرين، مدرج باليابانية؛ حيث يدعّم غموض اللغة بالنسبة للجمهور الغربي تصوّرهم لعالمية رأسمالية-تقنية بلا معالم. تبدو صورة الغلاف أكثر تشاؤمية وحذقًا، شخصيات يابانية بلونٍ أخضر، بجانبها تمثال نصفي إغريقي، وصورة لخط أفق سماء نيويورك قبل ١١ سبتمبر، (مأخوذة من دعاية فيديو كاسيت لـ فوجي في الثمانينيات). كما أشار الخبير الموسيقي الأكاديمي كِن ماكليود، يبدو غلاف فلورال شوب وكأنه تعليق على “التحام الشرق والغرب”، متوقعًا “الانحدار التطوري للإمبراطورية التجارية.” حيث يمكن تأويل كل عنصرٍ في الغلاف كمجازٍ لحضارةٍ عظيمة انهارت، أو ستفعل في المستقبل. 

عندما تحدثنا، علّق ماكليود أن العديد من الجنرات التي نشأت على الإنترنت تخفي نوعًا من “الكآبة المستقبلية-الاستعادية”، إلى جانب هوس بـ “الانهيار المتسارع للرأسمالية كما تجسّد في انهيار الحلم الياباني.” تمثّل اليابان في فترة الصعود الاقتصادي، بمدنها المتروبوليتانية المضاءة بالنيون وحريات الاستهلاك الوافرة، الوعد الضائع بيوتوبيا رأسمالية تحطّمت في التسعينيات بعد أن ضرب الركود البلاد. من خلال تذوّق تلك الموسيقى، يمكن للمستمعين الانغماس في التفاؤل الساذج الجميل الذي عرّف تلك المرحلة، مع كل ما في رؤاه المنعشة لما سيأتي، ورثاؤه في نفس الوقت. كما كتب أحد المعلّقين على ميكس أغاني السيتي بوب على يوتيوب: “أشتاق إلى المستقبل.” شعورٌ تردد صداه عند الكثيرين.

تتضمن النوستالجيا – كما كتبت المنظّرة وفنانة الميديا سفِتلانا بيوم مرة: “تراكُب صورتين، للوطن والأرض البعيدة، للماضي والحاضر، للحلم والحياة العادية.” إذ أن التفاعل العاطفي مع السيتي بوب يركّز على مخيلتين: اليابان والولايات المتحدة، الثمانينيات والحاضر، الوعود السابقة للرأسمالية وواقعها الحالي. على الإنترنت، يعيش مستمعو السيتي بوب ذكريات تخيّلية عن طوكيو الصعود الاقتصادي، لكنهم أيضًا يتذكّرون صورًا شاعرية للطفولة ومشاهدة الرسوم المتحركة، مؤكدين مرة أخرى على ادعاء بيوم أن “الحنين يظهر وكأنه اشتياقٌ لمكانٍ ما، لكنه في الواقع توقٌ لزمانٍ آخر.” 

بينما يستعجلنا الإنترنت لنسابق الزمن، ويبدو العام وكأنه عقود، هو في نفس الوقت يفتح أمامنا بوابات إلى أزقّة واتجاهات مغايرة. أعاد يوتيوب بعث الغموض من الماضي وحصد له جمهورًا ضخمًا. يأخذ تيك توك، مسخ يوتيوب الأبرز، نتائج الخوارزميات الضاربة هذه إلى مدًى أبعد، بينما يقذف بخوارزمياته الخاصة داخل الخلطة، مقوّيًا فعالية وصول الموسيقى إلى الجمهور الأوسع. يصوّر رجلٌ نفسه وهو يتجرّع عصير الكرز بينما يلعب على السكيتبورد، وفي لمح البصر، يعود فليتوود ماك إلى قائمة الأغنيات الـ ١٠٠ الأكثر سماعًا لأول مرة منذ ٤٠ عام.

على تيك توك، كان يحاول باستيان أو @tokyokage، متابع الأنيمي المخلص ذو الـ ١٨ عامًا، أن يحوّل السيتي بوب إلى ترند. اكتشف الجنرا العام الماضي بينما كان يستمع إلى قائمته على يوتيوب لأغاني تترات الأنيمي؛ ظهرت له بلاستيك لَف – ومن غيرُها؟ – في قائمة التوصيات. منذ ذلك الحين، بدأ يصنع فيديوهات ترويج للسيتي بوب على تيك توك، مشيرًا إلى مفضّلاته مثل تِلِفون نمبر لـ جَنكو أوهاشي، وفراجايل لـ تاتسورو ياماشيتا (التي قد تبدو مألوفة لجمهور تايلر ذ كرييتر وألبومه إيجور). باستيان صايع في اختياراته. في يناير ٢٠٢٠، تحوّلت أغنية كريستال دولفين لـ إنجل وود إلى ترند على تيك توك، وهي ريميكس فيوتشر-فانك لأغنية كينجو هامادا دولفين إن تاون (١٩٨٢). بعد أشهر، في آب / أغسطس، شارك باستيان فيديو لأغنية هامادا الأصلية مع كابشن: “ضع لايك إذا كنت تتذكر هذا الصوت!”. أصبح هذا أشهر فيديو له في سلسلة السيتي بوب على تيك توك، مع أكثر من ٢٠٠,٠٠٠ لايك. كما أخبرني باستيان: “لمن يريدون أن يصبحوا على نفس الموجة مع الثقافة اليابانية، يبدو السيتي بوب مثاليًا.”

بعد “العقد الضائع”، اعتمدت اليابان على الثقافة الشبابية وِشركات الوسائط المتعددة، مدركةً إمكانيات الربح في تصدير ثقافة الدراويش / المعجبين المخلصين إلى الخارج. آتت الاستراتيجية أُكُلها، ويمكن القول أن الأنيمي أصبح أكثر شعبية حول العالم من أي وقتٍ مضى. العام الماضي على نتفليكس، تصدّرت برامج الأنيمي قوائم العشرة الأكثر متابعةً في ما يقارب ١٠٠ دولة، لتصل إلى ما يقارب ١٠٠ مليون منزل. قبل شهرين، أطلقت سوني أكبر منصة لبث الأنيمي، كرَنشيرول، بميزانية هائلة تقدّر بـ ١.٢ مليار دولار. على تيك توك، يمثّل دراويش الأنيمي أحد أقوى المجتمعات النخبوية، ليصبحوا محرّكًا أساسيًا للأصوات الضاربة

قبل أن ترتبط مايوناكا نو دور / ستاي ويذ مي بالأمهات اليابانيات اللاتي يعاودن عيش شبابهن، صعدت الأغنية من خلال ترند تيك توك، حيث استخدم عشّاق الأنيمي فلتر الخلفية الخضراء لمقارنة أطوالهم مع شخصيات الأنيمي التي يحبونها. بعيدًا عن التغليف المتمحور حول الأنيمي للسيتي بوب، هنالك رابط حقيقي يجمع بين الاثنين: فنجوم السيتي بوب غنوا في ساوندتراكات للأنيمي، ومنهم ميكي ماتسوبارا وماي ياماني.

صحيحٌ أن التصدير الثقافي الياباني لطالما جذب الاهتمام الغربي لعقود، إلا أن الحماس المعاصر للأنيمي الياباني، وألعاب الفيديو وعناصر الثقافة الشبابية الأخرى، يعكس كيف ازدادت صورة اليابان أُلفةً بالنسبة للأمريكيين عبر الزمن. “كل شيء في اليابان يبدو أكثر إمتاعًا.” كما يقول تيك توكر الأنيمي الشهير (ومحبّ السيتي بوب) كريس أو @ghetto.otaku. في معرض تأكيده على حبه لأشجار الكرز، يقول كريس أنه مسحور بكيفية تناول المشهد الياباني على الشاشة، خاصةً بالمقارنة مع المباني وصفوف المنازل التي لطالما رآها في فيلادلفيا طوال حياته. بطريقةٍ ما، يبدو هذا الافتتان معاكسًا للنقطة التي بدأ منها السيتي بوب. قال هارومي هوسونو، أحد أكثر المؤثرين في صناعة الموسيقى اليابانية الحديثة، وأحد رواد السيتي بوب من خلال فرقته المبكّرة هابي إند، أن طفولته في فترة ما بعد احتلال اليابان كانت غارقة في الترفيه الأمريكي، حتى أنه ندم على عدم كونه أمريكيًا. قدّم عمله مع يالو ماجِك أوركسترا ما أسماه “إكزوتيكية من منظور شرقي”، تشويه لموسيقى صالونات منتصف القرن، والتي قدّمت فانتازيا خام للأمريكيين المتعطشين للسفر.

رغم مساعدة الإنترنت في تقويض الفجوة بين اليابان والولايات المتحدة – حتى أنه يمكنك تسلّق جبل فوجي باستخدام جوجل ستريت فيو، ما زلنا ننظر إلى اليابان من مسافة، ما يجعل رؤيتنا عرضة للتصورات المسبقة وفرط النوستالجيا. كحال الإكزوتيكية من قبل، يعِد سيتي بوب اليوتيوب بهروب رومانسي عبر المحيط الهادئ، بشكلٍ ما مفصولٍ عن الواقع، مغذيًا خيالات اليافعين القابعين في منازلهم متصفحين الإنترنت. يقيّم باستيان تحت طلب متابعيه قائمة سبوتيفاي أسماها سيتي بوب سيروتونين فايبز، موجّهة للمستمعين الصغار الذين يبحثون عن تغييرٍ ما في المشهد. غلاف القائمة صورة لفتاة أنيمي، وفي حال صدّقت الوصف، “وكأنك موجود حقًا في شوارع طوكيو!”

المزيـــد علــى معـــازف