.
على قدّ الليل ما يطوِّل هو اللحن الافتتاحي لأوبريت العَشَرة الطيّبة بالعين المفتوحة وليس المكسورة، كما يدلّ على ذلك النص المنشور، والعشرة الطيبة مصطلح يدل على ورقة العشرة من لون الطيبة carreau/diamonds أو الديناري في لهجات عربية أخرى، وهي ورقة ذات قيمة خاصة في لعبة البصرة أو الكومي; الشائعة في الشرق الأوسط، كما يحيل العنوان أيضًا وبشكل غير مباشر إلى العِشْرة الطيبة وهي مسرحية غنائية يتخلل فيها الغناءُ الحوار، مما يطابق مفهوم الأوبريت في العُرف الغربي. ألّفها الأديب المصري الشاب محمد تيمور (١٨٩٢–١٩٢١) ملبيًا طلب الممثل الشهير نجيب الريحاني (١٨٨٩–١٩٤٩)، الذي كان قد أسس الفرقة التي تحمل اسمه، كما كلف صديقه بديع خيري (١٨٩٣–١٩٦٦) بتأليف الأغاني، والملحن السكندري الشيخ سيد درويش البحر (١٨٩٢–١٩٢٣) بمهمة تلحين الأغاني. ويلاحظ أنهم جميعًا ينتمون إلى جيل واحد فقد كانوا في الثلاثين من عمرهم عند عرض المسرحية لأول مرة.
رواية العشرة الطيبة في الأساس مقتبسة من الأوبرا بوف Opéra-Bouffe أوبرا ذات موضوع فكاهي الفرنسية ذو اللحية الزرقاء Barbe-Bleue (١٨٦٦) من تأليف مياك وهالِڤي هنري مياك (١٨٣١-١٨٩٧) و لودُڤيك هالِڤي (١٨٣٤- ١٩٠٨) مؤلفان مسرحيان فرنسيان ألفا معظم أعمال جاك أوفنباخ المسرحية الغنائية. وألحان جاك أوفنباخ. وكما هو معهود في الاقتباس فقد تم تعريب وتمصير الأسماء والأماكن والمواقف، حيث صارت الفلاحة إرميا Hermia (التي يتضح في سياق الحبكة أنها في الحقيقة أميرة) نُزهة واسمها الملكي تم تعريبه/عثمنته بـجُلبهار، والبطل الراعي صافير Saphir (وهو كذلك أمير متنكر) تحول إلى سيف الدين. أما لمسة محمد تيمور العبقرية في تمصيره لهذا العمل، فتكمن في إضفائه على حبكةٍ بريئة تدور أصلًا حول شبق الأرمل المِزواج «ذو اللحية الزرقاء» Barbe-Bleue أو «حاجي بابا حمص أخضر» في الصيغة المصرية، الباحث أبدًا عن زوجات جديدات، أصداءً وأبعادًا سياسية لم تكن موجودة في الرواية الفرنسية وقد ساهمت إلى حد بعيد في نجاح المسرحية وشهرتها في مصر، بحيث يتصادم في الصيغة المصرية أبطالٌ من الفلاحين المصريين مع أشرار ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية العثمانية. وعند قراءة النص يلاحظ أن محمد تيمور حرص على أن يجعل الوالي يتكلم لغة عربية ركيكة بلكنة تركية متميزة، مما أثار، حسب الرواية الشائعة، غضب النخبة العثمانية وإيقاف المسرحية لمدة قصيرة بعد العرض الأول في مارس ١٩٢٠، وهو زعم يصعب التأكد منه في الواقع، وقد يكون تضخيمًا لبعض الانتقادات، في إطار ما نستطيع تسميته ملحمة سيد درويش، البطل الأوحد للرواية الوطنية للتاريخ الموسيقي المصري. فمع أن على قد الليل لا يحتوي على أي مضمون سياسي، فيجب أن يؤخذ بعين الاعتبار السياق الذي ورد فيه هذا اللحن المشهور، أي في مستهلّ مسرحية غنائية تندرج، بالرغم من موضوعها الخفيف، في إطار الملحمة الوطنية التحررية المصرية، بفضل دفاعها، ولو بنبرة كوميدية، عن بطولة الفلاح المصري الثائر والرافض للرزوح تحت نير المستبد، تركياً كان أم انجليزياً، الأمر الذي يضفي على هذا العمل مشروعية وطنية هي في الأساس منوطة باسم سيد درويش، ملحنها العبقري (افتراضًا).
ما أريده هنا هو دراسة هذه الأغنية–اللحن المسرحي من حيث سميائيتها الموسيقية musical semiotics المتغيرة من خلال صِيَغها المتتالية، من التسجيل الأصلي لصالح شركة أوديون سنة ١٩٢٠ إلى صيغة ١٩٥٢ في فيلم مسمار جحا بصوتَي إبراهيم حمودة وشهرزاد، ثم الصيغة الإذاعية سنة ١٩٥٧ بصوتَي كارم محمود وأحلام، والصيغ اللاحقة الكثيرة (سيد مكاوي وإسعاد يونس في أوائل الثمانينيات، ومؤخرا صيغة حازم شاهين)، وهو تتالٍ يؤكد إدراج هذه القطعة الموسيقية في التراث المشروع، تارةً بعد تنقيح النص لجعله مقبولا ومطابقا للصورة النمطية لأسطورة سيد درويش، وتارة أخرى بالعودة إلى النص الأصلي، بحثا عن الأصالة والروح الشعبية المفترضة الكامنة في القطعة.
لا حاجة للتذكير بأهمية سيد درويش في المتخيل الجماعي المصري والعربي بصفة عامة، حيث يمثل في الرواية الرسمية لتاريخ الموسيقى نقطة الانطلاق «الحقيقية» للموسيقى المصرية، كأن ما سبقه لم يكن، أو كأنه إما مجرد إرهاصات تسبق الولادة الرسمية أو موسيقى بدائية ونخبوية في آن (فالخطاب القومي لا يتورع عن التناقض)، تشوبها “شوائب الرطانة العثمانية التركية“، قبل أن يجيء سيد درويش محرّرا لها ناجحًا في صهر الحداثة والأصالة المصرية المتجذرة في التراث الشعبي (ويكفي لذلك العودة إلى كتابات كمال النجمي ونعمات أحمد فؤاد ومحمود أحمد الحفني ثم ڤكتور سحاب وحسن درويش في صيغته الأكثر كاريكاتورية في كتابه من أجل أبي، وإلى نقد هذا الخطاب عند فادي العبد الله). وهذا ما يقوله محمد سلماوي مقدمًا نص العشرة الطيبة في طبعتها الحديثة؛ “تمثل مرحلة هامة في تطور المسرح الغنائي العربي لو استمرت لوصلنا اليوم إلى الأوبرا العربية“، فهذه الجملة تلخص بفصاحة المنظور الدرويني التيليولوجي teleological السائد والذي يرى في فن سيد درويش المسرحي فرصة ضائعة لم تكتمل لتعرضها لعوائق لا يُجهد الكاتب نفسه لتحديدها. ولسيد درويش إنتاج فني مزدوج في طبيعته ومبادئه الجمالية؛ فمن ناحية لحن درويش أدوارًا وموشحات لا تخرج كثيرًا عن جماليات الموسيقى الفصحى النهضوية اللهم في بعض المحاولات الساذجة لإدخال الأربيچ في الآهات وتقييدها دون ترك للمؤدي المبكر حرية التصرف فيها مثل ضيّعت مستقبل حياتي وأنا هويت وانتهيت وهي حصيلة جيدة مُجملًا، وإن كانت محدودة الحجم مقارنة بمعاصريه داود حسني وإبراهيم القباني، و من ناحية ثانية هناك طقاطيق سجلها مطربو ومطربات العصر، شأنه في ذلك شأن زملائه، وأخيرًا إنتاجه المسرحي، الذي لا ينفرد به إذ خاض داود حسني مغامرة التأليف الموسيقي للمسرح. غير أن سيد درويش يتميز بانتقائه الدقيق والموفق لنصوص ذات مضمون ساخر ووطني، تدافع عن الطبقات الشعبية وترسم لوحة للحياة المدنية أو الريفية مليئة بالحيوية، جلّها من تأليف بديع خيري ويونس القاضي وبيرم التونسي في بداياته. كما أن معظم هذه الألحان المسرحية موضوعة على مقامات لا تحتوي على البُعد الذي يساوي تقريبًا ثلاثة أرباع التون (الثانية المتوسطة أو الزلزلية حسب معجم نداء أبو مراد)، كالنهاوند والعجم والنكريز والحجازكار المعدل، لكي تكون قابلة لأن تُصاحب آليًا من قِبل أوركسترا غربية أو أوربية المرجع والإيحاء، تلك التي كان يقودها، على سبيل المثال، المايسترو كاسيو في كازينو دي باري في شارع عماد الدين بالقاهرة.
من حيث كلمات بديع خيري، فأول ما يلفت الانتباه هو الطابع الهجين للكلمات، التي تمزج ما بين: العبارات الشائعة في الشعر الغزلي “سهري ونوحي في حبك” وبين نبرة ساخرة هزلية تقوم على استخدام معجم عصري منبوذ عادة من الطقطوقة الغرامية “طظ في أهلي“، “حطي في قلبك بطيخة صيفي“، “عرفت إنك مستعبط“، ثم ألفاظ تدليلية تحنينية hypocoristic تثير الضحك “يا حنتوسه“، “يا قطاقيطها“، “يا عين الحبوب من جوه“، وأخيرًا تلميحات وإيحاءات جنسية شبه صريحة “سايح“، “ما شبعتش من ليلة امبارح“، “زمر زمري“، “شفتي بتاكلني” لا تختلف كثيرا عن مضمون الطقاطيق الخليعة، خاصة من حيث تدبير الحبيبين لحِيَل من أجل تلاقيهما السري والتلاعب على الوالدين “طظ في أهلي“، كما في اوعى تكلمني، تعالى يا شاطر، ما تخافش علي، ارخي الستارة، إيه اللي جرى في المندرة، وغيرها. وهي كلها أغانٍ ظهرت بعد هذه القطعة بسنوات معدودات، ما يوحي بتأثير مباشر من المسرح الغنائي على طقطوقة التخت الخليعة من جانب المضمون النصي؛ إلا أن هذه الأغنية جاءت في شكل حوار ثنائي، أو ديالوج حسب المصطلح المتّبع لدى شركات الاسطوانات في العشرينات، قبل أن يفرض المصطلح الإيطالي دويتو نفسه لاحقا في عصر الأغنية السينمائية. الأغنية تحاكي في ذلك مقتضيات ونبرة الدويتو في الأوبريت الأصلي (لحن Aimons nous, C’est si doux). فمع أن المشهد الغرامي بين سيف الدين ونزهة من المفروض أن يقع في الأرياف المصرية وفي العصر العثماني وأن يجمع بين راع وراعية، فنجد تصرفات الحبيبين أقرب إلى ألاعيب الحضر من «أهل البندر» منها إلى حشمة فلاحي الحرام ودعاء الكروان، وترجع هذه المفارقة إلى مراعاة الحبكة الأصلية، القائمة على الصورة النمطية للراعي والراعية المتحابين في الأدب الفرنسي المستوحى من التراث الإغريقي واللاتيني، ولكن جاء هنا على حساب الواقعية المنشودة عادة في تراث سيد درويش. أما المستوى لمعجمي للكلام فـ«بلدي»، مع أنه يجب الانتباه إلى أن القيمة الاجتماعية للألفاظ قد تكون تغيرت في خلال قرن: فعبارة “نهارك أبيض من طبق القشطة“، واستخدام صيغة «تَنّ+ضمير متصل» للدلالة على استمرار الحدث “تنّك سايح“، و“عنها ودوغري” (بعدها مباشرةً)، و“دا انا متبرجل” (فاقد رشدي) كلها عبارات ترسي النص في مستوى «بلدي» مدروس، هوأقرب إلى واقع المحكي من الكلام الذي سيرد لاحقًا في معظم الطقاطيق، بما في ذلك الخليعة منها، ربما بسبب انتسابها للنمط لعوالمي الأصلي، وهذا بالرغم من التزام بديع خيري ببعض التقييدات الشعرية المعتادة في فن الأغنية كالقوافي الداخلية (مثل سايح–امبارح، ساهي–دواهي، ما تلتقيهاش–بلاش، النبقة–وقّة–حدقّة … إلخ) ولكن دون وجود إيقاع وعَروض ظاهرَين.
أما الشحنة الإيروتيكية للمشهد، فلا شكّ أنها كانت صادمة للمعاصرين، وتفسّر جزئيا المقولة الشهيرة المنسوبة، حقًا أو ظلمًا، تارةً إلى مصطفى رضا بك القانونجي الأرستقراطي وأحد أقطاب نادي الموسيقى العربية، وتارة أخرى إلى إبراهيم القباني الملحن، حين تفشى خبر وفاة سيد درويش : “انتهى الهلس في البلد“. فها هو سيف الدين يدّعي أنّ “شفتي بتاكلني“، مطالبًا حبيبته بالاستزادة في القُبَل، فتجيبه نزهة قائلة “يوه يا دين النبي تنّك سايح ما شبعتش من ليلة امبارح“، علما بأن لفظة “سايح” تفي معاني الشبق، كما أن قول سيف الدين أنه، بعد التأكد من عدم وجود العذال “طُبُل طبلي كده كده كده” (إشارة إلى دقات القلب) ثم “زمر زمري” التي يمكن أن تفهم كتلميح جنسي، خاصة لدى جمهور مدرّب على استشفاف إيحاءات بذيئة من وراء أكثر العبارات براءة. أما النهود، فبدلًا من التشبيه المعهود بالرمان، الوارد في بعض الطقاطيق العوالمية، فـ “فوق عن وِقّة” إشارةً إلى وزنها الثقيل، والمراد من هذا التشبيه غير المألوف هو في الأرجح إضحاك المتفرجين أمام صراحة الفلاح في ألفاظه وسذاجته في التعبير عن الرغبة.
أما في التسجيلات اللاحقة للقطعة، فخضع النص للتهذيب الذي صارت تقتضيه أولًا المكانة التي احتلها سيد درويش في الخطاب القومي، وذلك حتى قبل ثورة ٥٢، ثم نوعية الوسيط والاستهلاك والجهة التي صدرت منها. ففي فيلم مسمار جحا إنتاج ١٩٥٢ نجد التعديلات الآتية:
طظ في أهلي وأجدادي > أفوت أهلي وأجدادي
شفّتي بتاكلني أنا في عرضك خليها تسلم على خدك > مهجتي في إيديكي أنا في عرضك خليها يا روحي أمانة عندك
تنك سايح > تنك سارح
أما نهودها فوق عن الوقّة > أما قوامها زيّه ما تلقى
لا شك أن الفرق في الوسيط يعلّل إلى حد بعيد ضرورة التهذيب، كما أن أخلاق العصر ليست أخلاق سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى فالرواية المسرحية الأصلية كانت تُشاهد في قاعة مغلقة واحدة لا ثانية لها، دخولها ليس في متناول الجميع. أما السينما ففن أكثر شعبية وأوسع انتشارًا، والمعروف أنه كلما وسعت دائرة الانتشار، كلما ألحت ضرورة الرقابة ورقابة الذات.
أما الصيغة التي سُجلت سنة ١٩٥٧ للإذاعة المصرية بصوتَي كارم محمود وأحلام، في إطار تقديم المسرحية كاملة كإحياء لذكرى سيد درويش الذي كان قد تحوّل إلى البطل القومي والمرجع الأوحد للأصالة الموسيقية، فوصل فيها تهذيب (أو خَصْي) النص الأصلي ذروته، فإن قمنا بجرد التعديلات وجدناها كالآتي :
طظ في أهلي وأجدادي > أفوت أهلي وأجدادي
يا كتاكيتها > يا حلاوتها
يا ننوسه > يا شرباته
يا حنتوسه> يا وجناته
اوعى يكون حد شايف طيفي / حطّي فى قلبك بطّيخة صيفي > اوعى يكون حد شايف طيفنا / حبنا طاهر إيه يخوّفنا
شفتي بتاكلني أنا فى عرضك خليها تسلّم على خدك / يوه يا دين النبي تَنّك سايح ماشبعتش من ليلة امبارح >
مهجتي ف إيديكي أنا ف عرضك خليها يا روحي أمانة عندك / يوه عجب العجب تنك سارح مانا لسه مقابلاك امبارح
على غفلة وملت عليّ ماقدرتش اقولك إوعى > والورد غصونه حواليه تداويني وقمره طالعة
وعنها ودُغري خدت لي بوسة لكن صنعة > وعقلي شت ولا دريت إلا وأنا وفي شعرك أنا باشبك فُلّة
أما نهودها فوق عن وِقّة دانا مِتْبَرجِل ياحَدُقّة ياكتاكيتها > أما قوامها صنعه بدقة دنا متبرجل يا حدقة يا حلاوتها يا شرباتها يا لطافتها يا وجناته
اديني بوسة وكمان بوسة > قرّبيلي يانور عينيا كمان شوية وكمان شوية
فكما أن السينما أوسع انتشارًا من المسرح، فالإذاعة هي الوسيط الشعبي بامتياز، إضافة إلى كونها صوت الوطن و“صوت بلدنا” كما تؤكده أم كلثوم سنة ١٩٦٤ بمناسبة الذكرى الثلاثين لإنشائها: “يا صوت بلدنا يا أعلى منبر للدين ومدنة/ وللمعانى للاغانى وللعروبة ولاتحادنا / اعلا ودوّى يا صوت بلادنا“، مما يؤكد مسئولية الوسيط تجاه الجمهور ليس فقط داخل الحدود الوطنية بل في الخارج، فبقدر ما يظل المشهد الرومانسي في نطاق “الحب الطاهر” فهو أمرٌ مقبول ومناسب للصورة التي تريد مصر الظهور بها أمام نفسها وأمام الإخوة في العروبة. أما نص بديع خيري الأصلي فليس فقط خادشًا للحياء العام (المفترض)، بل يعود بالوطن إلى عصر “الخلاعة والدلاعة” (إذا أردنا الاستمرار في الاستشهاد بأغاني أم كلثوم)، أي بالذات لهذه الصِبغة التي يرى الخطاب الوطني أنها كانت طاغية على فن “العهد البائد“، والتي من المفترض أن يكون سيد درويش جاء ليحرّرَ البلاد منها ويُخرجَها من دركات الانحطاط الشعري والموسيقي فلا أهمية إطلاقًا، من هذا المنظور، للأمانة التاريخية أو للجماليات الأصلية لمشروع سيد درويش وبديع خيري، بل الأولوية القصوى هي إعادة صياغة الأغنية حتى تكون معلما من معالم الطريق القائد نحو «الرُقي» الذي تمثله الأغنية الشائعة الكلثومية – الوهابية سنة ١٩٥٧، وقت تسجيل الأوبريت.
أما صيغة حازم شاهين الواردة في الفيلم القصير اسكندرية تأليف وإخراج أحمد حداد الصادر سنة ٢٠١٢، فقد بدأ تصوير المشهد في نوفمبر ٢٠١١ حسب صفحة الفيلم على موقع الفيسبوك https://www.facebook.com/alexandriahmedhaddad/، أي في ظروف مشحونة بالروح الثورية وبعد شهور من سقوط الرئيس حسني مبارك، ولا غرو في أن يعود المخرج في تتر الفيلم إلى تقديم سيد درويش بلقب فنان الشعب، الممنوح له في الفترة الناصرية، إذ أن سبب الإبقاء على الكلمات الأصلية منوط حتما بهذه المشروعية «الشعبية» التي تلائم مشروعه السينمائي. وكون المغني حازم شاهين قد بدأ يغني هذا اللحن بكلماته الأصلية بضع سنوات قبل تصوير الفيلم القصير لا يغيّر شيئًا في أن جيلًا من المثقفين المصريين أصبح، مع الألفية الجديدة، يعود إلى إرث سيد درويش من منطلق شعبيته المفترضة (مهما كان ما يُودع بالفعل في إطار هذا المفهوم الهلامي، سواء من منظور طبقي أو سياسي أو احتجاجي أو وطني أو كل ذلك مجتمعًا) وأن هذه الشعبية لا تكتمل إلا شريطة اعتماد معجم وصيغ توحي بالواقع المحكي وعدم التورع من ألفاظ فيها شيء بسيط من خدش الحياء البرجوازي – وإن كان بديع خيري القاهري المولد أقرب إلى طبقة الأفندية منه إلى الفئات الكادحة. أما المصاحبة الآلية في صيغة حازم شاهين، فمختلفة تمامًا، من الناحية الجمالية، عن تلك التي تشهد بها أسطوانة أوديون، إذ يعزف اللحن بعوده بينما يرافقه بيانو وأكورديون في الخلفية. فكأنه يتخيل سيد درويش يعزف اللحن لنفسه أو لنجيب الريحاني على عوده، ثم تضاف في تلك الخلفية الحالمة أكورديون باريسي الأصداء، وكأن قطرات من نهر السين أتت لتختلط بـ «النو» السكندري وتعود إلى الأجواء الكوزموبوليتية الخاصة بعروسة البحر في العشرينيات، وتغمز غمزة طريفة إلى المصاحبة الآلية الأصلية دون العودة إلى ما صار مضحكًا فيها ومناقضا للأصالة المرتجاة عند سيد درويش. كما أن هذا المزج بين العود «الأصيل» والآلات الغربية الهادئة غير الكهربائية، و«شعبية» الكلام تجعل هذا اللحن قابلا لأن يدرج في سرب «الأغنية البديلة» والأندرجراوند، فلا تبتعد كثيرا عن ألحان أغاني دينا الوديدي ويسرا الهواري على سبيل المثال.
الملاحظات الأخيرة بخصوص المقومات الجمالية التي انطلق منها حازم شاهين مقارنة بمشروع سيد درويش «التاريخي» (الرجل وليس المشروع)، بقدر ما نستطيع أن نتوسمه، تنطبق بالطبع على لاحقيه الذين قدموا صيغة للحنه. فالتعامل مع على قد الليل ما يطول لا يتوقف عند النص بل يتعدى ذلك إلى تغيير مقومات اللحن، وما يمكن وصفه بـ تعريب وبـ تمصير اللحن، غناءً وعزفًا. فصاحب الدوبلاچ في صيغة الفيلم ١٩٥٢ والذي يشتبه أنه إما إبراهيم حمودة أوعبده السروجي، ثم بعده كارم محمود سنة ١٩٥٧، هما بدون شك أطلى صوتًا وأعذب خامةً من سيد درويش الملحن غير المطرب، وصوت أحلام لا أثر فيه للنبرة الأنفية الحادة أو السرسعة التي تميّز أداء حياة صبري، كما أن الخط النغمي المُغنَّى عندهما يحفل بالزخارف المحكمة المعهودة في أداء الألحان العربية ما بعد الثلاثينات. فيسهل المقارنة مثلا ما بين أداء سيد درويش لكلمة “استنظارك” وأداء إبراهيم حمودة؛ ينزل سيد درويش سلم جنس الحجاز دون إيقاع بينما يؤدي حمودة قفلة طربية تقوم على التعليق الممطوط والإطلاق السريع، حسب قواعد القفلة التطريبية. أما على صعيد المصاحبة الآلية، فقد تعمّد سيد درويش (أو الريحاني أو ربما الإثنان معًا) الابتعاد عن التخت وقواعده من حيث الترجمة الآنية أو الملخصة، والاعتماد على ثلاث آلات من الأوركستر الذي كان يقوده مِسيو كاسيو أو أحد أمثاله. فبالرغم من قِدَمه، يشي تسجيل أوديون بوجود بيانو وكمان وناي المقصود ليس الناي العربي الخشبي التقليدي المستخدم في التخت بل الناي المعدني الذي كان مستخدمًا وشائعًا في مصر في الفرق العسكرية في ذلك الوقت. Flute، ولا أثر مسموع لأية آلة إيقاع، مع أن اللحن يتراوح إيقاعه بين المصمودي (أو الواحدة الكبيرة) والمقسوم. وفي قسم “طبل طبلي” على ضرب المقسوم، يستخدم الكمانجاتي في تسجيل أوديون تقنية البيتزيكاتي pizzicati، أي نبر الأوتار بالإصبع بدلًا من جر القوس، للدلالة على الطبل والزمر. فكأن سيد درويش يحاول ترك النهاوند والحجازكار للإتيان بالمينور والكروماتيك، مع أن أداءَه يظل مليئا بالحلى «الشرقية» التي ربما أراد التقليل منها وبقي منها في التسجيل ما كان غير إرادي وغير قابل للحذف نظرًا لتكوينه الفني، بالطبع تبقى قضية أخيرة معلقة لا يمكن البت في أمرها، وهي علاقة تسجيل أوديون بواقع الأداء الصوتي والآلي عند عرض العشرة الطيبة على خشبات المسرح؛ هل هو صورة مبسطة في مصاحبته من حيث عدد الوتريات، أم منتج شاذ تمامًا لايمت بصلة للعرض المسرحي ولا إلى أي نوع من الأداء التاريخي؟ اخترنا الاحتمال الأول، مع الاعتراف بأنه مجرد احتمال وارد.
أما التسجيلان المتأخران فيُعتمد فيهما على مصاحبة من قبل نوع من الأجواق لم يكن قد اختُرع بعد سنة ١٩٢٠وهو الفرقة الشرقية، أي التخت المنفوخ ذات الوتريات الكثيرة، كما تتميز بتوزيع الآلات على حسب قيمتها السيميائية؛ مثلًا يُستخدم صوت الناي هذه المرة الآلة العربية الخشبية المستخدمة في التخت ليحيل رمزيا إلى الزمارة، الآلة ذات الطابع الريفي الشديد غير المتناسقة مع موسيقى «راقية» فيضفي طابعًا شعبيًا وظيفته الإيهام بالسذاجة الريفية، بالرغم من انتماء الناي، في واقع المراس الموسيقي، إلى آلات الحصيلة الحضرية العالمة وليس إلى المحيط الريفي. وننتبه كذلك إلى انعدام التوقيع في التسجيل الأصلي والوجود الظاهر للرق في التسجيلين المتأخرين، كما إلى تسطير التنوع الإيقاعي بين مصمودي وواحدة سائرة بل مقسوم (واحدة ونص) في قسم “طبل طبلي وزمر زمري“، حيث نجد مثالًا آخر لهذه الإحالات الرمزية، فيمثل الرقُ الطبلةَ، إذ أن سيميائية الآلات لا تقتضي أن تحيل الآلة إلى نفسها، أي أن تستخدم الطبلة للدلالة على الطبلة الخيالية التي يمسك بها الراعي الخيالي النموذجي، بل يحل الرق محل الطبلة والناي محل الزمارة لإضفاء السمة «الريفية» الراقية المرجوة.
فتعامل المنتجات الثقافية المصرية المعاصرة مع التراث الموسيقي «القريب»، إذ لا يفرق بين عرض العشرة الطيبة الأول وأفلام الخمسينات غير ثلاثة عقود، مما يعني أن عددا من المتفرجين من الممكن أن يكونوا قد شاهدوا العرض الأصلي، هو تعامل تحكمه قواعد أيديولوجية واضحة؛ أن يقدم التراث بصيغة لا تلائم الأمانة التاريخية–الجمالية التي لا تهم أحداً، بل الصورة الجاهزة أو الصورة قيد الإنشاء التي يكررها أو يؤكدها المنتج الثقافي عن «الماضي». فكما أن فيلم عبده الحامولي وألمظ (إخراج حلمي رفلة ١٩٦٢) لم يتضمن لحنًا واحدًا لعبده الحامولي بل لمحمد الموجي ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، وكما أن مشهد العوالم في فيلم قصر الشوق (إخراج حسن الإمام ١٩٦٧) يتضمّن مقتطفات متفرقة من قطع موسيقية كانت بالفعل شائعة في العشرينيات غير أنها تنتمي إلى ألوان مختلفة بعضها خارج إطار غناء العوالم، وبأداء وبترتيب (فهي على مقامات مختلفة) وبمصاحبة تبتعد كثيرًا عن مقومات أداء الموسيقى في العشرينات، وذلك لإرساء المفهوم الكباريهاتي لفن العوالم، فإن المعيار المتبع في تقديم ألحان سيد درويش البحر في هذه التسجيلات السينمائية أو الإذاعية هو التأكيد على كونه نقطة الانطلاق المزعومة لما أصبحته الموسيقى الشائعة في الخمسينات وما بعدها، أو بصورة أخرى، التأكيد على صحة مزاعم محمد عبد الوهاب في هذا المشهد الشهير في فيلم الوردة البيضاء الذي ينصب نفسه فيه وريثًا مشروعًا أوحد لفطاحل الموسيقى الفصحى في الحقبة الفائتة، إذ تتركز الكاميرا على وجهه بعد المرور على صور الحامولي وسلامة حجازي وسيد درويش. فكان لا بد إذا لنبذ جماليات التخت التي طلّقها سيد درويش ثلاثاً في هذا اللحن كما كان ضروريًا الابتعاد عن التغرب الساذج وفقدان الهوية اللذين يفضحهما تسجيل أوديون، لإيجاد حل وسط لا يمكن أن يكمن إلا في جماليات الفرقة الشرقية الخمسيناتية التي فرضتها الأوساط الموسيقية السائدة والمشروعة كاختراع كفيل بحل جدلية الأصالة والحداثة اللزجة المزعجة.
فلا يهمنا بالتالي تحديد ما أراده سيد درويش وبديع خيري ومحمد تيمور ونجيب الريحاني في لحن على قد الليل، بل التسليم بأن هذه الأغنية مادة طائعة قابلة لأن تنخرط وتُدمج في أي مشروع جمالي وأيديولوجي خاص بعصر ووسيط نشر معينين، مما يؤكد في الآخر أن الشيخ سيد هو بالفعل “فنان الشعب“، ولكن بشكل ربما لم يكن ليتوهمه.