fbpx .
الحفر في الذاكرة | فرقة شكون صوتًا للتغريبة السورية

الحفر في الذاكرة | فرقة شكون صوتًا للتغريبة السورية

مايا البوطي ۲۰۲٤/۱۰/۲۹

عاصر جيل التسعينات العديد من التجارب التي حاولت مزج التراث الموسيقي لبلاد الشام مع الموسيقى الإلكترونية أو الروك، مثل فرقة ميراج الأردنية أو فرقة كلنا سوا السورية التي توقفت عام ٢٠٠٨. لتظهر لنا فرقة شكون في أواخر ٢٠١٥، وتحيي هذا النوع من الدمج في مزيج مرهف، إذ استطاع أعضاء فرقة شكون تمثيل جزء من سردية المنفى التي عايشها الملايين من السوريات والسوريين. بينما يقف البعض من المُهجرات والمُهجرين في مواجهة ضياع المعنى وتشظي الهوية، تأتي موسيقى فرقة شكون كمسكّن لآلام وأوجاع الكثيرين. 

إن جمهور حفلات شكون في أوروبا متنوع الجنسيات والأعمار، مع حضور قوي للسوريين وباقي المنطقة العربية. في وسط هذا الحشد تحلق الكوفيات والهتافات لفلسطين، وتعم الجو طاقة دافئة لوجوه مألوفة، كما حصل في حفلهم في باريس في الباتكلان في كانون الثاني ٢٠٢٤. لقد أخافت هتافات غزة فئة من اليمين المتطرف في فرنسا، وتناولتها الأخبار بطريقة معادية. هذه الروح المقاومة والغاضبة والحالمة هي الطاقة التي تبثها فرقة شكون في قلب جمهورها الذي يجد مساحة للصراخ في وجه الممارسات العنصرية الأوروبية، وفي ظل غياب عدالة العودة إلى الأوطان بسبب الديكتاتورية المترسخة. إذ تظهر تجربة فرقة شكون إمكانيات الابتكار والخلق والتجريب في مساحات حرة، بعيدًا عن الخوف من التقييم والرفض، حيث يعكس خيارهم الفني جنوحًا نحو الاستكشاف.

تشكّلت فرقة شكون في عام ٢٠١٥ من قبل أمين خاير وعازف الكمان ماهر القاضي والألماني ثوربن بيكر، وبذلك أصبحت الفرقة مزيجًا سوريًا-ألمانيًا. تأسست الفرقة في مدينة هامبورغ في ألمانيا التي قدم لها أمين خاير لاجئًا في نهاية ٢٠١٥، بعد أن لجأ من مدينة دير الزور في سوريا. بدأت رحلة الفرقة مع أغنية لترز التي قدمتها في مهرجان فيوجن في ألمانيا، إذ غنى خاير القصيدة المُغناة على أنغام إيقاع الهاوس البطيء. قدّمت الفرقة أغان من التراث السوري، والأغاني الشعبية على وقع موسيقى تراثية بصوت إلكتروني، والهيب هوب مع موسيقى شرقية.

شكون

استوحى أمين اسم الفرقة من أول كلمة عربية علّمها لصديقه ثوربن بيكر، وهي شكون وتعني ماذا بلهجة أهل دير الزور. بحسب أمين خاير، كونه عانى في ألمانيا مع تحدي اللغة والسؤال الدائم الموجّه له حول ما يقصده ويريده، جاءت كلمة شكون كرمز لصعوبات التواصل الذي تعايشه السوريات والسوريون في الغربة. كما بيّن أمين خاير أنه أراد أن يتحدّى السردية التي تقلل من شأنه بتصويره كمجرد لاجئ بطريقة تنميطية ترتبط بالعجز. لذا، اختار من خلال موسيقاه أن يروي قصته وذكرياته وصورًا من ماضيه لتعزيز الجانب الإنساني من قصته. 

تمنح اللهجة الديرية التي يستخدمها أمين في أغنياته قيمة عاطفية وإنسانية لفنه، خاصة بعد الذي تعرضت له لهجة الشمال السوري ومنطقة الفرات من تهميش ممنهج من قبل إعلام النظام السوري. بينما ينحدر ماهر قاضي من محافظة السويداء في جنوب سوريا، بحسب لقاء مع ليانا صالح من تلفزيون فرنسا ٢٤، ويساهم هذا الخليط بإثراء أعمال الفرقة تراثيًا، ويكشف غنى الثقافة السورية بشكلها الأوسع. هذا الثراء الثقافي والفني الذي تعرّض للتعتيم لسنوات ضمن سياسات النظام الذي يتعمّد فرض صبغة أحادية على أطياف المجتمع السوري وفنه المتمايز.

بصوت قوي ورجولي يذكرنا بالمطرب السوري، يغنّي أمين بنفحة من الحزن الغاضب رائعة الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام شيد قصورك. مع موسيقى توحي باضطرابات تسبق العاصفة، بهمس قادم من الخلفية تأتي الكلمات “شيد قصورك على المزارع من كدنا وعرق إيدينا”. تتواتر الضربات الإيقاعية ويتردد الصوت الأجش، كصدى شبحي باكٍ “وعرفنا مين سبب جراحنا وعرفنا روحنا والتقينا”. تلعب الموسيقى في الخلفية بصعود متواتر ينبئ بالانفجار القادم، بارتفاع الموجات تحمل النغمات الإلكترونية التوتر لتبثه في الرؤوس كإشارات فضائية متتالية. مع توالي الزمن، تلعب الآلات الوترية متداخلة مع النبضات الإلكترونية المشدودة، بإحساس أقرب للركض والدوار، يترجم فريق شكون ما تعنيه شيد قصورك على المزارع لجيل يشعر بالخذلان والغضب والحاجة إلى الصراخ والرقص المجنون. مساحة من الأنغام القلقة التي لا تنفجر في النهاية، بل تستمر بطريقة متسائلة عن كل هذا الظلم القائم. ضمن هذا السياق، يجب الإشارة إلى اختلاف استقبال الفرقة بين حالة حضورها في المنفى الأوروبي، وما تعرضت له من انتقادات في مصر، بعد إحيائها حفلة في الساحل “الشرير” في آب الماضي، إذ نرى كيف شكلت الفرقة تهديدًا لليمين في فرنسا بعد هتافها لغزة، وكيف أّدت الفرقة أغنية شيد قصورك في أكثر الأماكن برجوازية، مخالفين بذلك روح الأغنية الثورية التي تهتف باسم الفقراء. من المهم عند التعاطي مع الفرقة عدم تحييد حقيقة أن أعضاءها هم في ذاتهم من المهمشين الذين هجّروا من أرضهم، وخسروا حقهم بالعودة إليها، كما يجب استذكار سياق الفرقة في أوروبا، مع ما تشكله من حالة تعزز أصوات اللاجئين واللاجئات هناك، خاصة مع توحش اليمين ورفضه لهم. 

ما يميز صوت خاير حقيقةً هو أنه صوت رجولي قوي يذكرنا بجمال قيمة الرجولة النابعة من المنطقة العربيّة، والتي دائمًا ما يتم تنميطها ووصفها بالإرهاب في أوروبا والغرب. إن هذا التنميط مشابه لتجربة أهل المكسيك والجنوب العالمي عندما يتم وصف رجالهم في الغرب بالجلافة والخشونة. من اللافت أنه في دراسات الباحثة والمفكرة النسوية غلوريا آنزالدوا الأمريكية من أصول مكسيكية، وخاصة في كتابها المناطق الحدودية / لا فرونتيرا، تنتقد المفكرة التيار الذي يستخدم كلمة ماتشو باللغة الإنجليزية بقصد يتضمن دلالات ومعاني سلبية، فهي تبين أنه خلافاً لذلك، ماتشو تستخدم في لغتها الأصلية للإشارة إلى الأب الحنون الذي يعيل العائلة ويزودها بالحب. لكن عادةً ما تستخدم بطريقة تجعل من رجولة المكسيكي رجولة فظة وقاسية بما يناقض تصور آنزالدوا الحميمي عنها. بشكل مشابه نرى أمين خاير يحتفل بصوته الرجولي القادم من الفرات الريفي العابق بإرث يربط الرجولة بقيم الكرم والحفاوة والعزة. هذه الرجولة التي يقدمها أمين خاير بذقنه الأسود وترددات صوته الصادح من العمق، إنما هي تحد لتنميط كل رجال منطقتنا بالعنف، وتأكيد على حنية ورقة الرجال الشرق أوسطيين الذين تعرضوا أيضًا لعنف المنظومة. كما قد أشار أمين سابقًا إلى أنه يعاني في بعض الأحيان من العنصرية الفجة، إذ لا يرغب البعض بالجلوس إلى جواره في الباص لكونه بلحية سوداء وملامح شرق أوسطية.

في الألبوم الثاني بعنوان ريما، تتناول الفرقة مواضيع الأمومة والأحلام الضائعة وكذب المنظومة المُستمر. في أغنية يا قلبي المأخوذة من تراث السويداء، يتداخل الناي مع الآلات القرعية ليكثّف حزن هذه الأغنية ويجعلها ترنيمة الوطن الضائع. ينطق أمين حرف القاف الذي يميز لهجة أهل سويداء عن غيرها معتزًا “ومنين أبدا يا قلبي لو قلت فنون”، ليتحدى حضور القاف في الأغنية غيابه في أغاني التيار السائد الذي يخجل من جمال هذا الحرف الذي تتميز به اللغة العربية. كما تعيد الفرقة تصوّر أغنية ريما المشتقة من تهويدة ريما التراثية “يلا تنام يلا تنام لذبحلك طير الحمام // روح يا حمام لتصدق نضحك ع ريما لتنام”، لتستبدل همس الأمهات الناعم بصوت غاضب يعبّر عن السرديات المشوهة التي عملت على طمس فساد المنظومة وضحكت على الجميع. 

في ٢٠٢٢، صدر ألبوم فراق الذي يتضمن أغنية على موج البحر وإينفرتيجو، والذي تابعت فيه الفرقة رحلة اللعب بالموسيقى الإلكترونية. مستلهمة من طقطوقة يا محلا الفسحة، تنقل الفرقة تردد موجات البحر بنبضات إلكترونية تتمدد عبر المساحة حتى تصل إلى الجمجمة مستفزة الأعصاب الراكدة. تعيد هذه الطقطوقة المحببة لدى الجمهور السوري صورًا حميمة، منها صورة ميادة بسليس التي غنتها برهافة منقطعة النظير.

في ألبوم مسرحية الذي صدر عام ٢٠٢٣، أخذت الفرقة ثيمة الوطن البديل في أوروبا كموضوع أساسي للعمل. قدّمت الفرقة أغنية الفرات التي يغني فيها أمين بالفرنسية مع كليب أشبه بلعبة فيديو من التسعينات، ليعكس صعوبات العيش في أوروبا. يحمل هذا الألبوم صيغة أكثر مرحًا وطابعًا لعوبًا يعكس تغيرًا طفيفًا في روح الفرقة بما يحاكي تغيير تجربتهم مع الوطن البديل.

تأتي تجربة فرقة شكون كانعكاس للتغريبة السورية، بما فيها من مشاعر تغيرت مع تغيير المسار التاريخي للقضية من شوق وحزن وكره وانكسار وتمعن في مفهوم الوطن. والمثير في هذه الفرقة هي خصوصية تعزيز حضور ثقافة منطقة الفرات المهملة بروح متجددة. منذ بداياتها وحتى الآن، عملت الفرقة على الحفر بالذاكرة لاستعادة أغاني تتشاركها الأجيال، وقدّمتها بأسلوب يكثّف المشاعر ويطلق العنان للمتعة واللعب. 

المزيـــد علــى معـــازف