صادق جلال العظم | في أغانينا شيء من دون كيشوت

كتابةمعازف - February 17, 2012

الأستاذ صادق جلال العظم (نقل الحوار عن سكايب)

١-

بعكس الاهتمام الفكري، ليست لدي ثقافة موسيقية واسعة ولا حتى أذن موسيقية مرهفة (ضحك).

في ما يتعلق بليفي ستروس، برأيي علاقة التعبير الفني بالأسطورة مهمة، ولكن ليس بالضرورة أن يستمع الباحث في الأساطير إلى الموسيقى نفسها، كما أن ليس هنالك علاقة الزامية بين الموسيقى والأسطورة، ولعل ذلك كان مفتعلاً بعض الشيء من ليفي شتروس.

قد تكون مثلاً العلاقة مع الرسم أو الشعر أو النحت أوضح، بخاصة لغير المختصين، في التعبير عن جوانب من الأسطورة.   

غير اني لم أقرأ كثيراً في الموضوع الموسيقي. مر بي أثناء قراءاتي الفلسفية نصوص تتناول الموسيقى، مثل هيغل مثلاً، لكنني لم أعط أهمية كبيرة لهذا الجانب. طبعاً، في التقاليد الفلسفية، منذ أفلاطون وأرسطو، تعتبر الموسيقى عاملاً مهماً في التربية وتهذيب النفس واعداد المرء لمجتمعه، وعلى ما اذكر فقد كان هنالك دور للموسيقى لدى الفارابي، في المدينة الفاضلة، في تربية الإنسان الصالح، على الرغم من وجود مدارس معادية للفن والموسيقى في العالم العربي. وإن كنت أفهم أنهم يقدمون تحريم الرسم والنحت، لكن لا افهم ما أسباب تحريم الموسيقى! فلئن كانت تلهي عن ذكر الله، فكل شيء يلهي عنه، من الأكل والشرب إلى الزواج وتربية الأولاد.

تربيتي الأكاديمية والجامعية تفرض علي أن اكون في جانب هادئ وصامت لدى الكتابة، كي لا ينقطع حبل افكاري، لذا لا يرد عندي أن افتح الراديو أو أضع سيمفونية عند الكتابة.

٢-

ما بقي في ذهني كأقدم الأغنيات أغنيات أطفال فرنسية، حيث اني كنت من تلاميذ مدرسة الفرير. من تلك الأغاني Au Claire De La Lune

وكذلك

je suis un bon garçon de bonne figure

j’aime bien les bonbons et la confiture

(ضحك)

أيضاً أذكر أن أبي كان يحب اديث بياف ويملك اسطوانات لها، ومنذ صغري أخذت بصوتها وأدائها ولا زالت المفضلة لدي.

كنا أيضاً نسمع عبد الوهاب وفريد الأطرش، وكذلك فيروز، قبل ان تصبح فيروز المعروفة، والتي أذكر، في طفولتي، انها كانت تؤدي طقاطيق في دويت مع مطربة اسمها حنان في إذاعة دمشق.

٣-

دور الموسيقى في حياتي العاطفية كان هامشياً، ومحصوراً في السهرات والرقصات.  ولكن في شكل عام، افترض ان هنالك علاقة جدلية بين الأغاني وبين الناس ومشاعرها وعواطفها وفقاً لطبيعة حياتها المجتمعية. المجتمع البدوي مثلاً في مشاعره وعواطفه يختلف عن المجتمع المديني، وهذا ينعكس في موسيقاه وغنائه. ثم الموسيقى والغناء تشكل الأجيال الجديدة وتعيد إنتاج نفس البنية. في هذا المعنى، الموسيقى مؤثرة جداً.

النواح والجراح والعذاب والسهر ومثل هذه المفردات تبدو لي نوعاً من التشبث بعالم قد زال، وفيها شيء من دون كيشوت الذي أراد أن يكون فارساً بعد انقضاء عصر الفروسية. فالحامل الاجتماعي لمثل هذه المعاني إلى زوال والنمط الاجتماعي الذي أنتجها يمضي غير اننا لا نزال متشبثين بها ونكررها رغم انها في بعض الاحيان تؤذينا.

موسيقانا مثلاً لا تعكس صخب المدينة، بخلاف موسيقات اخرى. لا زال هنالك شيء من التعلق بريف حالم، رغم انه ريف متخيل.

هنالك أيضاً وظيفة سياسية للموسيقى، واضحة مثلاً في حالة الرحابنة وموسيقاهم ومسرحياتهم، حيث كان هنالك دور مباشر لتبرير الوجود اللبناني كشيء متفرد وخاص، على طريقة “هبة السماء إلى الأرض”، وكذلك نوع من الكشف عن بعض الصراعات وعرضها في شكل يوحي كما لو ان هذه الصراعات كانت قد وجدت حلاً لها وانقضت.

عن تفاوت الموسيقى وحاملها الاجتماعي سأعطيك مثالاً. فوالدتي مثلاً من عائلة مهمة في دمشق، وكانت تحب اغنية حول يا غنام، رغم انني اعرف انه كان من المستحيل لها ان تتحدث مع غنام أو تشم رائحته او حتى أن تسمح له بالاقتراب من بيتها (ضحك). وكانت تلك أيضاً حال قريباتها وصديقاتها من بنات المجتمع الدمشقي العالي. ولست أدري سر ذلك التعلق بعالم لم يعرفنه أصلاً. وفي هذا ما يعيدني بعض الشيء إلى بعض الأفكار التي عرضتها في كتابي عن الحب والحب العذري.