.
قراءة، أو تلاوة النصّ القرآنيّ ليست بالبساطة التي تبدو عليها. يمكن الحديث عن أنماط تلاواتيّة متعدّدة من شأنها أن تلائم استعدادات القارئ من ناحية المغزى من كلّ قراءة. فبرغم كون المتن القرآنيّ نصًّا دينيًّا، فإن التماس مع هذا المتن لا يكون في كلّ الأحوال فعلًا تعبّديًا صرفًا، وإن كانت كلّ قراءة قابلة لأن تحتمل شحنات روحية متعالية. نتحدث عن تنوّع في التلاوات من ناحية كونها إما نابعةً من مدرسيّة تعليمية سمتها المرور المتسارع على ظواهر المعنى الدينيّ المباشر عند الجماعات، وإما، وهذا ما يشغلنا في هذا النصّ، تلاوات جمالية استبطانية خالصة. وهي قراءات ترتكز، في العمق، لا بالضرورة على تكرارت الآليات القرائية \ الصوتية والمقاميّة لمجمل الآيات باعتبارها موحّدة المصدر، بل إنها قراءات تلحظ أو تعكس تفاوتاتٍ في قدرة القارئ على توصيل الوحدة التركيبيّة (الآية \ أو مجموعة آيات) ضمن السورة الواحدة على نحو يضعها في سياقات مزاج الآية وروحها العميق أولًا، وفي سياقات تأويليّة تاليًا، ومتفردة مقارنة بالسياق العام للسورة. لا يعدّ هذا الافتراض تناقضًا من ضمن السورة الواحدة بل يمكن الرؤية إليه خصوبة في قدرة هذا النص اللغويّ على التمرئي قِرائيًا في وجوه عديدة تظلّ تعترض المريدَ بالرؤى والحدوسات.
سورة النور المدنيّة تحتمل تمثيلات حادة وجليّة للمستويات القرائية والتلاواتية فيما يتّصل بالمقدّمة المُورَدة أعلاه. لا نميّز، هنا بالضرورة بين آيات عذبة في القراءة وآيات أقلَّ جذْبًا للقرّاء، بل نجيز القول بشكل واضح إنّ اتصال آياتٍ أو وحدات تركيبيّة بلاغية خاصة بمقامات معيّنة أو بخامة صوتية معينة يكون بالضرورة محلًا للتأمّل ومحاولةً للتأويل. نتحدّث عن مستوى من التفاعليّة التي تتيح للمقرئ \ القارئ العارف بأمزجة الآية استبطانَ هذه التراكيب، واللعب تلاواتيًا بالذات الشعورية للسُمّاع مستثمرًا عدّة لا تقف بالضرورة عند الوعي بالجماليات المعنوية الظاهرة لهذا الخطاب محدَّدًا في تلك الوحدات المخصوصة. فالجذب، في هذا المستوى من الوعي، هو جذب متبادل بمعنى قدرة الآية على جذب الصوت مجازًا، بمقدار قابلية هذا الصوت لأن يتراكب في الآية أو الآيات. نتحدث عن شغف شعوريّ بالنصّ قبل الدخول في ثناياه تلاواتيًا، وهو ما يتيح تخريج المقطع الصوتيّ فائقًا بمقدار ذلك الوعي الشعوريّ المضاف، لو صح التعبير، بتقنياتِ النقل والوقف والتصعيد والتخفيت بين المقاطع ومغزاها الصوتي والجمالي، فضلًا عن مغزاها الدلاليّ المتشعّب في كل حال.
سورة النور هي، تسميةً، سورة الآية الخامسة والثلاثين: ”الله نور السماوات والأرض \ مثل نوره كمشكاة فيها مصباح \ المصباح في زجاجة \ الزجاجة كأنها كوكب دريّ \ يوقد من شجرة مباركة \ زيتونة لا شرقية ولا غربية \ يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار \ نور على نور \ يهدي الله لنوره من يشاء (…)” إنها الآيةُ مفتاحُ السورة. مفتاح لا بمعنى أنّ سواها من الآيات معمّاة أو مقفلة على مستويات التلاوة العذبة والخطاب، بل إنها مفتاح بمعنى أنها تنقل المزاج القرائي للمريد من حديّة سلسلة من الأحكام التشريعية والوعظيات، إلى متعاليات قد لا تناسب بالضرورة المقامات التلاواتية لما سبق أو لما سيلي هذه النقلة. إنها نقلة تفتّح الخطاب التلاواتي على بساتين شعورية لا بالضرورة في سبيل تسكين حديّة الآيات السابقة بل كأنها انتقال من مزاج نصف الدائرة الخَلْقية الظاهر بالتشريع إلى نصف الدائرة الحقيّة المضمَر بالأحجبة المتعالية. بهذا المعنى، تُوغل هذه الوحدات القرائية مزاجيًا ومعجميًّا ودلاليًّا في تشبيع المتلقي أو القارئ بما يناسب نصف الدائرة الحقّية من أحساسيسَ تختلط بين كونها ذلك التحزين الذي يصيب العارف، وهو تحزين يختلط بالغبطة والمتعة بهذا المستوى من الوجود في قلب المقام أو النصّ. (تطريب \ تحزين \ إسرار).
فالمقام الصوتي نور، والنصّ المصباحُ والمشكاةُ قلب العارف أو المقرئ أو حتى قلب السُمّاع المريدين.
يمكن الانتباه بسهولة إلى كون أسماء السور القرآنية الطوال أكثرَ الأحيان هي أسماء تلك الآيات المفاتيح. آياتٌ تسطع غالبًا وتكون أقرب، في معظم الحالات إلى ذروة أو انتقال في مستوى الخطاب أو ببساطة تعبير مكثّف أو مغزى عن دلالة قصة المقطع أو السورة كلّها. انظر، مثالًا لا حصرًا، سياقات سورة الزمر \ النمل \ الشعراء \ النور … تندرج هذه الملاحظات بمجملها تحت كونها معرفة لازمة للمقرئ إذ هي معرفة تصب في النهاية في تغذية أداء وإمكانات هذا المقرئ، وعبر وعيه بمكانة الآية شكلًا ومحلًا ومتنًا بالمقام الذي يتيح أخذ الآية أو الوحدة التركيبيّة بأمدائها كافة. فالنقلة المتعالية في الآية الخامسة والثلاثين من سورة النور تحتمل كونها بداية من الذروة، أو نقلة تصعيديّة فجائيّة بالمقام، ما تلبث أن تنحدر بسلاسة بالغة الدقة في الآيات التي تليها وتندرج في سياقاتها. هي سلاسة تعبيرية فائقة تجذب المريد لا من حيث اشتباكها المقامي والصوتي بالآية المفتاح فقط بل من حيث اشتباكها المعجميّ بكلّ مفردات التعالي وأفعاله. إنها مشهديّة الدائرة الحقيّة إذ تبدأ من نورٍ، هو نقطة بداية \ نهاية \ لفظ “الله نور السماوات \ مثل نوره…” وتنحدر في معجم التعالي وأفعاله: “في بيوت أذن الله أن ترفع (…) تتقلب فيه القلوب والأبصار (…) \موج من فوقه موج من فوقه سحاب…” وصولًا إلى نقطة هي نقطة بداية \ نهاية \ لفظ. إنه النور مضاعف أيضًا: “ومن لم يجعل الله له نور فما له من نور (…) \ (…) سنا برقه يذهب بالأبصار …”
إذًا، تتصل هذه القراءة الاستبطانيّة اتصالًا وثيقًا بالمقرئ المخصوص. إنها تفترق عن القراءة المدرسية بكونها قراءة توحي بانتفاء المسافة بين المقرئ والنص. وهي، لوهلة، قراءة المقرئ \ النصّ. نعني بذلك أن المقرئ في مستوى من مستويات القراءة والانسجام لا يعدو كونه غير شكل من أشكال انعكاس النص مقاميًّا في الفضاء المخصوص. ويصير تاليًا مخلوقًا مقاميًا مرهونًا أو تابعًا للآليات الداخلية التي تتيحها الوحدات التركيبيّة البلاغيّة في السورة الواحدة. وهو فعل، بخلاف أفعال التعرض الأخرى للنصّ قراءةً، خلاقُ بمعنى أن هذه القراءة ليست قراءة منهجية تحيل إلى قدرة المتلقي على التنبّؤ بالمسار العام للقراءة، بل نتحدث هنا عن تخليقات مقامية ومن ثمّ دلاليّة ينبشها القارئ في كلّ وهلة وعند كل وادٍ أو هضبة من هضاب السورة المخصوصة. كلّ ذلك يكون مندرجًا بالضرورة بالجماليات البلاغيّة المتراكمة التي تحتقن بها الآيات بشهود الجميع، والتي من شأنها أن تشتبك بدورها بعمق مع مستويات لا حصر لها من السرديات المتصلة بالنصّ، دينية أو تاريخية قصصيّة أو تشريعية \ ذاتية، أو سرديات تظلّ تراوغ المتلقي شعوريًا بما تحيل إليه من مستويات الخطاب والتوجّه نحو الذات الفردية ونحو الجماعة.