.
قبل سنوات، وفي إحدى جلسات تبادل الأغاني المعتادة، أرسلت لصديق عراقي تسجيلًا لأحد أغاني الأعراس القديمة في منطقتنا. جاء رده أقرب للحيرة: “لا أعرف كيف أتعاطى مع كثير من أغانيكم، الألحان مبهجة والكلمات حزينة”، تبسّمت وأضفت: “ومناسباتها أغرب، أعراس وحفلات وأسمار.”
من جنوب البلاد لشمالها، من بنزرت لبنقردان ومن الدخلة إلى النخلة، لا يخلو لون أو طرق أو نص أو مهوى أسماء تقنية محلية تعوض عبارة صنف موسيقي. من هذه السمة؛ حضور الحزن القوي في مقابل الألحان أو المناسبات المبهجة. بل إن أصنافًا كثيرة ارتبطت بالحزن وأخذت منه أسماءها كأحزان المزود والزندالي، وغيرها مما لا يسعنا الإحاطة به هنا، لاختلاف مواضيع الأسى فيها والكيفية التي يطفو بها عليها، وللحظ الذي ناله بعضها من الرواج والدراسة والتوثيق.
ذلك على عكس ألوان أخرى، تُعزف وتغنّى في دواخل البلاد الوسطى والغربية القصية، حتى كاد يلفها النسيان، وهذه نتف من قصتها.
في أوساط علماء الأورنثولوجيا (علم دراسة الطيور)، لا يوجد خلاف حول تمييز أصناف الحمام المختلفة من الحمام المنزلي، من الورشان إلى القمري وغيرهما.
هذه تصنيفات علمية، يضرب بها الغناية والشعراء عندنا عرض الحائط، حيث حتمًا يميّزون القمري، تلك الحمامة الصغيرة المهاجرة رفيعة العنق، عن غيرها من حمام الأبراج والبيوت. لولا شدة الوجد والأسى التي تشتد عليهم ويمسي معها القمري، صنوًا للحمامة أو ربما أبًا لها.
لا يهم كل ذلك، طالما أن هذا الطائر يخفف عن النفس ما ألم بها، وشاهد على لحظات حزنها. في واحدة من المطولات التراثية التي أعاد تقديمها عبد اللطيف الغزي للجمهور الواسع منذ ما ينيف عن العقدين، تحتل الحمامة والقمري مكانة أساسية في مطلعها وخاتمتها، حتى صارت مع تكرار لازمتها اسمًا لها:
“طير الحمام ولد القمري / هز الخبر وأرجع ليّا
مريت على ديارهم ننشد / يا أحباب ريتوليش بنية”
تروي القصة المتواترة بين الناس أن شابًا في زمن غابر، عاد بعد سنين أمضاها قسرًا في الجندية إلى قبيلته. من فرط شوقه لحبيبته، توجّه مباشرة لدوّار (منزل) أهلها. على غير المتوقع، لم يجدها. استفسر عنها، فجاءت الإجابة جافة وقاسية كقسوة الموت: “قالولي راهو الدايم ربي / هزوها للقبر هدية.” بذلك انطلقت رحلته الثانية نحو المقبرة.
تسرد بقية الأغنية بالتفصيل كيف وقف على قبرها، وأزاح عنه التراب، ورفع اللحد، وكشف عن جثمانها، وعانق ما تبقى من جسد تحلل ولم يبق منه غير شعر طويل تبعثر فوق فخذيه: “قلعت لحودها باللحدة / نلقاها في القبر مطوية.” في فرط حزنه، لم يجد غير حمامة تحوم حوله، ألقى عليها مرثيته، وأمست المرثية أغنية.
اللافت أننا نجد نظيرةً لهذه الأغنية نعرف عن تفاصيلها الواقعية الكثير، حيث تسعفنا كلماتها بتفاصيل أكثر، وإن تشابهت مع الأولى في إطارها العام، وفي ارتباطها الوثيق بالحمام أيضًا. عُرفت هذه الأغنية أيضًا بـ غرد الحمام منذ أن غناها الفنان الشعبي لمجد القفصي في تسعينات القرن الماضي.
تلقى القفصي الأغنية من ألسن نسوة ورجال تناقلوها في أسمارهم وأعراسهم جيلًا بعد جيل، وصولًا للقرن الثامن عشر في بلاد قفصة والجريد؛ حيث عاشت فتاتان، هما بنتان لأحد أعيان المنطقة. أثناء انتقال البنت الأولى للزواج، ألمّ بها مرض سرعان ما فتك بها. في المساء، بلغ خبر الموت والدها وإخوتها الذكور، وشفقة على أختها، كتموا خبر الموت عنها.
عوضًا عن مكاشفتها، أعلموها بأن أختها متوعكة، وعليها زيارتها. رحلت الفتاة مفجوعة نحو منازل أختها، وكما في القصة الأولى، وصلت لتجد أن مراسم دفنها قد انتهت، وعوض الذهاب لبيتها، توجهت للمقبرة وفتحت قبرها:
“كيف رحت للجريد أنّقل / نلقى لحودها مبنية
عريت على الزين الغالي / وحطيتها بين يديّا
وبكيت بالدموع”
لم يقبل المغنيان في الحالتين بحكم الموت، ليس رفضًا له في مطلقه، وإنما للموت القادم على حين غرة لمن هم في ريعان الشباب، لمن لا يستحقونه، حتى ينالوا من الحياة ما يكفي من مباهجها، أو حتى يذوقوا على الأقل منها، الحب والزواج.
تحديًا للقدر الذي حرمهم من ذلك، تمسي طقوس الموت نفسها طقوسًا رمزية لزواج أو فرح لم يتم. ففي غرد الحمام، تحوّل الأخت موكب جنازة أختها لموكب عرس، ونعشها لـ “جحفة” الجحفة من العادات الثابتة في التراث التونسي قديمًا لنقل العروس إلى بيت الزوجية، حيث تصحبها كوكبة من الأهالي بالاهازيج والطبول. تحملها نحو بيت زوجها. تحف بها الصبايا والوصيفات بالزغاريد والأهازيج وهي داخله مسجّاة وسط أكفانها وكأنها عروس في كامل جمالها وأناقتها:
“هاويني جحفتها طلّت / بالملف والحرير تبان
نحوا القميص على رقبتها / كتّان جاء على كتّان
طلوا البنات على غشوتها / وجبين يذهب الشيطان
يا بنت القليد”
ثم سرعان ما ينفد مفعول تلك الحيلة، وتقف من جديد أمام حقيقة الموت العارية، لتنهار وتبكي: “وبكيت بالدموع / يا الباكي ما ترد عليا لله الرجوع”، ولا يرد عليها غير طير الحمام بشجوه و”غراده”.
على خلاف الحمامة، التي لا تغيب عن مثل هذه المقامات، ولا تحضر فيها أيضًا كمكون أصلي لقصة الأغنية، وإنما فقط كمساعد يثير الشجن أو المواساة، تحفظ لنا الذاكرة الموسيقية حكايات حزينة، أبطالها المخلوقات الأكمل والأحب لدى البدو والحضر على السواء: الغزلان.
في بوادي التل العالي وسباسب قمودة وقفصة وجبالها، تواصل وجود الظبي والغزلان الأطلسية لحدود عشرينات القرن الماضي. لم تؤد التغيرات المناخية الكبرى على امتداد القرون إلى القضاء عليها، بل تكفل بتلك المهمة حملات الصيد الاستعمارية الكبرى للفرنسيين ومواليهم من المخزون المحلي. غابت الغزلان عن المجال، لكن استمرت ذكرى حضورها في ذاكرة السكان المحليين، كذكرى حزينة.
في واحدة من أغاني بدو وجبالية منطقة شرق قفصة، ردّدت الأصوات المنكسرة قصيدة قيل إن صاحبها صيّاد ماهر في الزمن الغابر. حاول ذات يوم صيد غزال فتّي، رماه ببندقيته، فأصابه في ذراعه. وقع الغزال، وتقدم منه الصيّاد، مستلًا سكينه ليجهز عليه.
عندما وقف أمام الغزال، نظر في عينيه الجميلتين، لينال منه الندم، ويعود متحسرًا على إزهاقه روحًا بتلك الجمال. رمى بندقيته وانهالت عليه الأحزان القديمة والجديدة، وأنشد ما ستعيد زهرة الأجنف غناءه بعد عقود طويلة تحت اسم ع الذرعانة. حاولت الأجنف إضافة لحن عصري – مثل المحاولات السابقة – أكثر بهجة للأغنية، لم يكبت كل ذلك الحزن، حزن يتفجر كلما رفعت بالصوت، كلمات الحسرة والأسى:
“بيدي ضربت الريم / ع الذرعانة
وصابني الندم يا ناس / عل قتلناه”
على امتداد الخط الوهمي الفاصل بين شقّي الصحراء والسباسب التونسية – الجزائرية، استقرت منذ قرون مجموعة قبلية عربية قديمة، أولاد سيدي عبيد. في ذلك المجال الصحراوي القاسي، خاضت القبيلة منذ القرن التاسع عشر حروبًا دموية مع الغزاة الفرنسيين، وحروبًا داخلية في سبعينات القرن التاسع عشر، خاضت فروع قبيلة أولاد سيدي عبيد حربًا داخلية سببها قصة حب غير موافق عليها. عرفت الحرب محليًا بعام عيشة واستمرت اثنتي عشرة سنة. للمزيد: حفيظة القاسمي، عام عيشة ٢٠٠٧. لا تقل فتكًا.
انعكست قسوة الصحراء وحزن الذكريات على موسيقى أولاد سيدي عبيد، فاصطبغت بالسواد الذي بلغ أوجه في لون الركروكي اللون الموسيقي المنسوب للركاركة، أحد فرق القبيلة.، ومنها امتد للقبائل المجاورة شرقًا وغربًا، حتى بلغ تبّسة وما بعدها في أعماق المجال الجزائري.
موسيقى الركروكي بسيطة في مكوناتها: نسق لحني بطيء وعازف قصبة ناي محلي مصنوع من القصب ومنتشر بين بوادي غرب تونس وشرق الجزائر. وحيد، لا تعضده أي آلة إيقاعية، سوى صوت المغني الحزين، وهو يشدو بمقاطع لا تخرج من مواضيع الموت والاغتراب والفراق:
“يا دفّانة / مدوا التراب خلي يهوّد
والزين الغالي / علاش يدوّد”
بقدر ما توحي به بساطة مشهدية أدائه، يعتبر الركروكي من أصعب الألوان المحلية في الأداء، حيث يفرض على عاتق كل من القصاب والمغني ضغطًا مضاعفًا، من أجل ملء الحيز الصوتي بشكل منفرد في المراوحة الدورية بين عزف القصبة وغناء المقاطع.
يتطلب الركروكي من المغني امتلاك مقدرة ومساحة صوتية عالية تتيح له أداء المقاطع الشعرية بشكل مخصوص؛ التمطيط في المقاطع الصوتية وتكرار بعض الحروف، وإضافة حرفي الألف واللام في عدة مواضع. تصبح النتيجة النهائية مقطوعة هادئة وبطيئة، وعسيرة على الفهم في أحيان كثيرة، حتى على العارفين بتلك اللهجة.
تراجع أداء الركروكي الخالص أو حوّرت ألحانه وأغانيه بسبب صعوبة أدائه وأثره الثقيل على النفس، وأضيفت لها مؤثرات تقنية أو إيقاعية بهدف الانفتاح على ذائقة شرائح أخرى من الجماهير الشابة، ولو على حساب خصوصياته الفنية.
بذلك لم يبق من فناني الركروكي إلا القليل، البعض يتغنى به على سبيل السليقة في مجالسهم الخاصة وأسمارهم الصحراوية، وعدد أقل من المحترفين. آخرهم الشابة صفية الركروكية والتي رغم سعيها للمحافظة على قواعد لونها، لم تنج مطلقًا من تأثير الأنماط الرائجة كالراي والسطايفي، التي استقت من تقاليدها لقبها الفني: الشابة.
المهم أن صفية نجحت في توثيق عدد من أغاني الركروكي القديمة، تمامًا كما كانت تغنيها نساء العرش (القبيلة) ورجاله في أفراحهم وأحزانهم على حد السواء. إذ يتجاوز الركروكي من بين مختلف الألوان الموسيقية تقسيم المناسبات إلى ثنائيات الفرح والحزن، التي تتطلّب ألوانًا خاصة بكل منها.
لا يتسق ذلك مع حالة الركروكي بلحنه الحزين وكلماته مهما كان سياقها: الغزل أو الشوق أو الوحدة، ما يجعلها صالحة لكل المناسبات، خاصة مع ذائقة مجبولة أصلًا على محبة الحزن والاحتفاء به. تعد رانا غربة مثالًا جليًا على هذه الازدواجية. يكفي أن تقترن الكلمات بصوت القصبة الشجي حتى تتحول أكثر مقاطعها تعبيرًا عن المحبة والوفاء للمقربين – الأخ في هذا السياق – مقطعًا حزينًا لا يوحي بغير التضحية في بعدها المأساوي:
“واش نهدي لخويا / نهديله عين من عينيّا
راي تبقى عين ياسر فيّا”
https://www.youtube.com/watch?v=HsM0-LhGZHg
يظهر الركروكي وكأنه لا يعرف غير الحزن موضوعًا، أو لا يستحضر غيره من المشاعر، وإن لم يكن الوحيد. إذ تروي الأحاديث المتواترة بين أهل الصنعة، قصة وجود لحن قديم مفقود، يعزف بالقصبة دون سواها، ويخلو من الكلمات المصاحبة، اسمه طرق الصيد أو الأسد.
لا تُعرف اليوم الطريقة الأصلية لعزف هذا اللحن أو الطرق. يرجع ذلك إلى كمّ الحزن الرهيب الذي يبعثه في نفوس السامعين، حتى أنه لا يقدر على عزفه إلا من بلغ به الحزن أقصى مبالغه، ولا يستسيغه أو يطلب سماعه إلا ذو المحن والمصائب الكبرى.
رغم وجود بعض التسجيلات النادرة لعازفين يدّعون عزف الطرق أو على الأقل روايات قريبة له، تفوح منها رائحة الحزن، لكن في حدود “معقولة”. على كلٍ، تبقى هذه القصة محل تشكيك تاريخي، إذ ربما لم يوجد هذا اللحن أصلًا، لكنها تبقى ذات أهمية فيما تعكسه من ذهنية عامة مسكونة بفكرة وجود لحن أعلى، يحقق الرغبة المطلقة في إشباع رغبة الحزن، ولا يُبلغ في الآن نفسه. كأن الفكرة نفسها، تحقق بعضًا من هذه الرغبة، أو تحفز العازفين على منافسته ومحاكاته.
ليس الركروكي مثالا شاذًا لإقحام الحزن في سياقات يفترض فيها بداهة أنها مخصصة للفرح والبهجة، بل هو استمرار لممارسة كاملة تتقاطع فيها كلّ الألوان والأنماط السالفة، من الصالحي فالملّالية للغناء بـ “الصوت”، والتي لا يغيب أي منها عن أعراس المناطق ولياليها الكبرى والصغرى على حدّ السواء. إذ من غير المنطقي أن تبقى هذه المدونة الضخمة عاطلة ودون فضاءات لأدائها.
تعد أغنية غرد الحمام سابقة الذكر مثالًا عمّا سبق. إذ كثيرًا ما تغنّى بها الفنانون الشعبيون في حفلات الحنّة والأعراس، بل استنبط أحد المغنين الشعبيين المغمورين في أحد الأعراس فكرة غريبة، تتمثل في تجسيد الأغنية في لوحة مسرحية حيّة خلال أحد الأعراس. وسط ذهول الحاضرين، جُلبت فتاة وقد لفت في كفن أبيض ووضعت في قلب القاعة. ثم جاءت فتاة أخرى لتلعب دور أختها المتفجعة على أنغام الأغنية.
للأسف، لم نتمكن من الحصول على تسجيل الحفلة، والذي اعتاد الفنان على عرضه وسط معارفه بزهو وافتخار؛ علّنا نطالع بعضًا من ملامح الحضور وردود أفعالهم، والذي يبدو أن حظه معهم كان أفضل بكثير من نظير له، مبتدئ في أحد بلدات منطقة الحوض المنجمي بقفصة، والذي عوض أن يفتتح واحدة من أولى حفلات الزفاف التي يحييها بغناء صلوا على محمد أو جيبوا الحنة، افتتحها بغرد الحمام، ليتعرض للضرب والطرد هو وفرقته بسبب فأله الشؤم.
لم يكن لحن الأغنية الراقص السبب الوحيد المغري لعزفها، بل ربما يعود ذلك لوجود تقليد راسخ يفرض أداء أغانٍ من هذا القبيل في الأعراس. بل في أحيان كثيرة، لا تبلغ هذه الأعراس ذروتها إلا معها.
في جزيرة جربة مثلًا، توارثت فرقة الشواشن النسائية عزف الأغاني القديمة في السهرات المخصصة للنسوة. عادةً ما يبلغ الحماس أوجه مع أداء المكتوب غلب القدرة، وإيقاع الأغنية القوي، حيث يمنح الحاضرات القدرة على مجاراته برقصة مخصوصة تتسارع بتسارع الإيقاع. فيما تغني المغنية كلمات هي أقرب للحسرة والرثاء، من حوار جرى ذات يوم بين فتاة أجبرها أهلها على الزواج من رجل عجوز رماها بالزنا، وأمها المحرومة من رؤيتها:
“آه يا ناس / بنتي ما تلوموهاشي
رجالها ما خلّاهاشي / العين تبكي
والدمعة تصب”
https://www.youtube.com/watch?v=3WQ_N9ZktOw
كلّما أغرقت الكلمات في معاني الأسى أكثر، تصاعد اللحن الراقص أكثر ومعه حركة الراقصات، ودموع أخريات في مشهد متنافر ومقصود، وتحديدًا حضور الدموع فيه، التي يبدو أن المغنين يستجلبونها استجلابًا من أعين الحاضرات.
كأن الدموع طقس أساسي في الأعراس. عن سرّ هذا، سبق أن تساءل الجزائري جلال الدين سماعن عندما كتب حول بعض الأغاني الجزائرية الشعبية الحزينة: “لماذا تغني النّساء دائمًا أغان حزينة في ليلة الزّفاف؟” ليجيب عنه بداية بالتمييز بين صنفين من الحاضرات: صنف تقتصر علاقته بالأغنية في لحنها الراقص فتعاملها معاملة الأغنية الاحتفالية، وصنف يذهب لما هو أبعد من اللحن، للكلمات المثيرة للحزن والشقاء.
في نظرنا، هذا التمييز غير دقيق، بل ربما يكون مقدمة لنتائج خاطئة. إذ أن ثنائية الاحتفال والبكاء، ليست مبنية على قدرة متباينة في التعامل مع النص الموسيقي، لكنها عملية مقصودة، خليط من الاثنين عن دراية. ليست هذه الثنائية في النهاية سوى محاكاة رمزية للواقع نفسه، وفي حالة الأعراس، للواقع الذي تعيشه وتقدم عليه العروس وأهلها.
فرحة تأسيس الأسرة والخوف من المستقبل وتحدياته، بهجة الانتقال لبيت جديد، وحزن فراق الأهل والأحبة، سعادة الانتقال لمرحلة حياتية مختلفة وهواجس الشرف والسمعة واسم العائلة. جميعها مشاعر متناقضة، تطوّح بأهالي العرس في تلك الساعات القليلة. مشاعر لا يمكن التخفيف منها أو توفير الأرضية المناسبة لتفريغها، إلا بالاستعانة بمدونة غنائية مصمّمة أصلًا من أجل هذا التناقض.
في واحات بلاد الجريد، توزر ونفطة ودقاش وغيرها من أقدم معمورات المجال التونسي، أدركت النسوة مبكرًا هذه الحاجة الملحة، وبحكمتهن القديمة، أُضيف لطقوس الأعراس طقس خاص، ربما هو الأهم على الإطلاق، هو ليلة الفتول.
الفتول هي آخر ليلة تمضيها العروس في بيت والدها، وخلالها ترتدي جبّة شطّار أو جبة غولي: فستان ذو لونين كالأحمر والأخضر أو الأحمر والازرق أو غير ذلك، وعادة ما يكون قصيرًا ويحتوي على طوق ذهبي.، وتوضع في صدر الغرفة حيث تجتمع حولها الصبايا والنسوة، من أجل ضفر شعرها وفتله على أنغام أغانٍ هي خليط بين البهجة والحزن.
تضع العروس في يدها مرآة، ويُفرض عليها البكاء؛ وكلّما بكت، حقق طقس الفتول مبتغاه. تبرهن ببكائها عن حبّها لأهلها وكأنه شهادة على أنها لم تلق في بيت والدها غير التربية الحسنة والمعيشة الرغدة، ومعها تبكي نسوة أسرتها.
لا ينقطع العزف والغناء، الذي يمضي من أغاني التشبيب القديمة إلى المخزون الأكثر حزنًا. إذ يتحول في أحيان كثيرة إلى رثاء فجّ وصريح: “وحّشك قداش ريّم يا اللمّيمة“، وعلى إيقاع الزكرة والطبل والحزن، ترقص الأجساد وتنهمر الدموع، وتُقضى الليالي الملاح.