عربي قديم

غمّاز المقام | إرث عبد العظيم عبد الحق

محمد سالم عبادة ۱۳/۰۱/۲۰۲۰

تبدو السَّلطنة أنسب مفردة تعبّر عن المنجز التلحيني للراحل عبد العظيم عبد الحق، المغرق في شرقيته كما يبيّن انحيازه غير المشروط لمقامات ثلاثة أرباع التون الشرقية. بمناسبة ذكرى ميلاده التي حلت في الأول من الشهر الحالي، أعيد اكتشاف أبرز ملامح أسلوب عبد الحق عبر ست أغانٍ تُذكر أكثر مما يُذكر، نستطيع عبرها فهم أثره في الوجدان الجمعي المصري.

اقترن أشهر ألحان عبد الحق على الإطلاق بصوت محمد قنديل في أغنية سحب رمشه. تأتي المقدمة القصيرة في الصَّبا – المقام الأساسي للأغنية – وكذلك المذهب، ليخرج منه عبد الحق في الكوبليهات الثلاثة الأولى إلى البياتي، درجة مختلفة من سلم البياتي مع كل كوبليه، قبل أن يخرج إلى الحجاز في كوبليه غزال أنفاسه تتنسّم. يذكّرنا التصرف اللحني – الذي خرج به عبد الحق إلى أكثر من درجة من سلم البياتي في كوبليهات الأغنية – بنفس تصرُّفه في أغنية والله عليّا دين.

يعمل عبد الحق وفق بنية مشابهة في تحت الشجر يا وهيبة من أداء محمد رشدي، حيث يبدأ في البياتي – مقامه الأثير الدافئ – ويعرّج منه على الصَّبا في عبارة “يا عيونك النايمين ومش سائلين”، ليعود إلى البياتي في “وعيون ولاد كل البلد صاحيين”، ثم يعرّج على الراست الفرِح اللامبالي المتوافق مع عبارة “تحت الصجر واقفة بتتعاجبي”، ويعود سريعًا مرةً أخرى إلى البياتي في “دي برتقانة ولاّ دا قلبي”. في الكوپليه التالي يخرج إلى مقام الهزام في “يا عايقة يا إنتي يا نجمة الصبحية” ليعود إلى البياتي في “خلخال برنّة يرقّص الجلابيّة”. يؤكد عبد الحق في هذا اللحن انحيازه إلى المقامات الشرقية. صحيح أنه لا ينوّع درجات سلم البياتي التي يخرج ويعود إليها كما في الأغنيتين السابقتين، إلا أنه يتخذ البياتي مرةً أخرى قاعدة انطلاق يخرج ويعود إليها سريعًا.

في الأغنية القومية وحدة ما يغلبها غلاّب، آثر عبد الحق أن يلوذ بمقام الراست من البداية إلى النهاية، المقام الرئيس في الموسيقى العربية، ربما ليوحي بالفرحة بوحدة مصر وسوريا عام ١٩٥٨، لاسيما أن قنديل غنّاها بالكامل بلهجة شامية. رغم أحادية المقام، حشد عبد الحق في هذا اللحن سلطنة بالقفزات من أعلى سلّم الراست إلى أسفله، تلك التي أبدع قنديل في أدائها بحماسيّة محكومة بقدراته الاستثنائية، ما قد يبدو أمرًا مستعجبًا في الأغاني الوطنية.

بعكس الأعمال السابقة، تعد أغنية الصيادين أثرًا روحانيًا منسيًا وفريدًا من آثار الشاعر الغنائي مأمون الشناوي وعبد الحق، والمطرب الكبير كارم محمود صاحب الصوت الذي يجمع النعومة إلى القوّة والسلاسة. تؤدّى المقدمة الآلية القصيرة الهادئة على آلات النفخ بصحبة الوتريات في مقام الحجاز، كأنها ترمز إلى أذان بعيد يهيمن على عالَم مفردات الأغنية ولحنها. بعد ذلك تدخل جوقة الرجال لتردد مع الإيقاع الرباعي البطيء: “هُوَّ هُوَّ هُوَّ”، كأنها حلقة ذِكر مأخوذة في وجد صوفي عميق. ثم يغني كارم في البياتي المطمئن: “الرزق بإيده هُوَّ”، فيما تظهر مقدرة كارم في مراوحة الصوت بين الانخفاض والعلُوّ بسلاسة. أبدع هنا عبد الحق لحنًا مطمئنًّا بالذِّكر، ببنية أبسط من الأعمال السابقة لكن بتطلُّبٍ أدائيٍّ أكبر، مع الثبات المستمر على شرقيته.

من الأجواء ذاتها صاغ عبد الحق لحن أغنية بشاير، الشاهدة على إخلاصه لمعاني وحالة كل نص يقع بين يديه. يقدم الشاعر مرسي جميل عزيز أهزوجة دينية تتغنى بفرحة زيارة مسجد النبي. على إيقاع الوحدة الكبيرة، يبدأ اللحن في مقام الراست المُنصف لحالة الفرحة الغامرة، ويخرج منه إلى البياتي في الكوپليه الأول “يا مركب طيري واتهادي”، ثم إلى الحجاز في الثاني “طوايف من بعيد جايّة / تجاورك يا نبي شويّة”، ثم إلى الهُزام في الثالث مع خروج إلى إيقاع مقسوم سريع “وساعة البشرى ما تجينا / بيوم عودة مُحِبِّينا”. في كل مرة يعود عبد الحق إلى الراست الذي اختاره معادلًا موضوعيًّا لفرحة زيارة النبي، حيث يصعد صوت سيد إسماعيل القادر والمتمكّن إلى أعلى السلّم بثقة مع عبارة “على المختار حبيب الله”.

https://www.youtube.com/watch?v=vMnVroWOMrg

بسماع هذه الأغاني، على جمالها وتفرُّدها، يصعُب تخيُّلها أو حتى أجزاءٍ منها منسوبةً لـ عبد الوهاب، لكن عبد الحق أشار بالفعل إلى اقتباس عبد الوهاب في أغنيته الخالدة أنا والعذاب وهواك، من واحدة من أكثر أغنيات عبد الحق حيويةً وعرضةً للنسيان: والله عليّا دين بصوت حورية حسن. بتقديري، ربما يوضّح بيان تصرُّف عبد الوهاب لحنيًّا في الموازير الأربع كثيرًا من الأمور بخصوص عقلية عبد الوهاب القاسية، والاحتمالات الكامنة في أعمال عبد الحق الشعبية البسيطة ظاهريًا.

يبدأ عبد الوهاب لحنه بحوار بين الوتريات وآلات النفخ في تتابع نغمي غير محدد المقام تمامًا، ثم يأخذ الپيانو مكان الوتريات في عزف التيمة الأساسية مع ردود من النفخيات، التي تبدأ بتوتُّر منذر يتكرر مرتين في تتابع: صول-لابيمول-ري-فا. ينحلّ التوتر وغموضُه تدريجيًّا لنعرف أننا في مقام الكُرد على درجة صُول. كل هذا على إيقاع رباعي غربي قريب من الرومبا المترنّح. يدخل صوت عبد الوهاب بعد ذلك لتتولى النفخيات الردود عليه بقسوة تليق بالكلمات الناطقة بقصّة حُبّ متوترة معذِّبة، قبل أن يدخل الكورَس النسائي بالردود بكلمة ويّاك، ليكرر غناء المذهبَ كاملًا بعد ذلك، في إيحاء بأنّ عذاب القصة الموصوفة ربما يكون محسوسًا عند الطرفَين، فهو توتُّر كامل.

يأخذ الجيتار مكان الپيانو بعد غناء المذهب، متحاورًا مع الوتريات ومعلّقًا عليها من آنٍ إلى آخر. تستمر الأغنية على وتيرتها مع تعريج سريع على عقد النكريز في بَيت “وقلت اغنّي ويّاك يا قاسي / بعدت عني وفضلت ناسي”. بعد الكوپليه الأول وتكرار المذهب يعمد عبد الوهاب إلى تكسير اللحن الأساسي من خلال أداء صارخ للوتريات، ثم تنويع جديد على حوار الجيتار مع آلات النفخ، تحديدًا من الثانية ٤:٢٥ إلى ٤:٥٨.

بعد ذلك يأتي اقتباسُه من عبد الحق في “أهل الهوى مساكين / صابرين ومش صابرين / وبيحسدوا الخالي”، حيث يتحول اللحن إلى حجاز على درجة صُول (شَدّ عُربان)، ليعود إلى التعريج على عقد النكريز في “قال لي باحبّك حيّرت حبي / طاوعت قلبك لاوعت قلبي”، ثم إلى المقام الأساسي في “واحتار شبابي معاك”، حيث يمكننا اعتبار هذا الجزء قنطرة من النهاوند الكردي بين عقد النكريز وبين العودة الصريحة إلى الكرد مع تكرار المذهب “آخرتها إيه ويّاك”.

إذا انتقلنا إلى الأغنية التي افترض عبد العظيم عبد الحق أن عبد الوهاب اقتبس لحنها الأساسي، نجد مقدمة سريعة على مقام نوا أثر على درجة دو[Mtooltip description=” صحيحٌ أن اللحن يرتكز على درجة صول فيما يمكن قراءته باعتباره مقام حجاز صول (شَدَ عربان)، إلا أن عودة اللحن إلى درجة دو موحيًا بالارتكاز عليها – كما يحدث مثلًا قبل دخول الكورَس النسائي للغناء مباشَرةً، يجعل الأغنية برأيي أدخَل في مقام نوا أثر على درجة دو، وهو يعتبَر بشكلٍ ما مقلوبَ مقامِ حجاز صول، فبدلًا مِن تكوُّن نوا أثر من جمع متَّصل لعَقد النكريز على درجة دو وجنس حجاز على درجة صول، يتكون حجاز صول من جمع منفصل لجنس حجاز على صول وجنس حجاز على درجة ري، والتتابع النغمي واحد في الحالتين مع اختلاف ترتيب النغمات المطروقة.” /] تعزفها الوتريات، مع ردود من الناي على إيقاع المقسوم. يخرج عبد الحق إلى مقام البياتي في الكوپليه الأول “يا فرحة من زمان وانا متشوّقة” والثاني “السعد آن أوانه وفات على المدينة”، في درجتين مختلفتين من سلم البياتي، ثم يخرج إلى النهاوند في الكوپليه الثالث “الندر حاوفيهولك يا طاهرة من عينيا” ومنه إلى الراست في الجملة التالية “بسّ امّا ابِلّ فولك وافرّقُه بإيديّا”. خلق عبد الحق بالنتيجة جوًّا طقوسيًّا من امتزاج الإيقاع الراقص السريع واختيار المقامات، ليس ببعيد عن جو الزار الذي قد توحي به مفردة الشمعة المتكررة في الكلمات، في حالة من الدروشة الموسيقية المتجاوبة مع دروشة الكلمات واتّصالها بأجواء التديُّن الشعبي.

إذا صدق افتراض عبد العظيم عبد الحق، فقد قرر عبد الوهاب أن يخلق التيمة اللحنية المقتبسة خلقًا آخر، فجرّدها من بعض متعلقاتها التي تزرعها في التربة الثقافية لحي شعبي مصري، كإيقاع المقسوم الراقص، وجعلها جزءًا مِن كُلٍّ مُنفتح على الموسيقى الأوربية المعاصرة. في النهاية، النغَم نفسه نسمعه شعبيًا قُحًا مع عبد الحق، وعالميّ النكهة مع عبد الوهاب، لندرك أنه حَمَل هذه القابلية في الأصل، لكننا لم نصغِ جيدًا، ولم ندرك موهبة عبد الحق كما أدركها عبد الوهاب.

كان عبد العظيم عبد الحق قطعة ثمينة من الوجدان الموسيقي الجمعي للمصريين. كان يعيش الكلمات المقدمة إليه ويلبس لكل نص لحنًا يلفه كالثوب. ربما لهذا أقبل على تلحين أغنية مثل تحت الشجر يا وهيبة وقد رفضها ملحنون آخَرون لرؤيتهم مخالفة كلماتها للعُرف الغنائي السائد. ربما بدا له أنّ أفق الموسيقى، الشرقية، أوسع من أن نضيّقه على نمط معين من الشعر الغنائي.

المزيـــد علــى معـــازف