كريم الصياد بيتهوفن إيرويكا إيروكا سيمفونية نابوليون بونابارت
أجنبي جديد

بيتهوفن يقدم موسيقى خالصة | عن الحركة الأولى من إيرويكا

كريم الصياد ۲۹/۰۱/۲۰۱۹

في هذا الفيديو، الذي يقدم قيادة هربرت فون كارايان للحركة الأولى من السيمفونية الثالثة لـ بيتهوفن (إيرويكا) مقام مي-بيمول الكبير، مصنف رقم ٥٥، أقوم بتحليل الحركة معتمدًا على الحواشي السفلَى[Mtooltip description=” subtitles” /]. الحركة في صيغة السوناتا، وبالتالي تنقسم إلى قسم العرض، قسم التفاعل، وقسم إعادة العرض. في العرض نستمع إلى الألحان في صورتها الأولى قبل الإنماء، وفي قسم التفاعل يحدث إنماء الألحان وتداخلها، أو تفاعلها، لإنتاج ألحان جديدة، توضح طبيعة الصراع بينها. في إعادة العرض، تُعاد الألحانُ كما وردت في قسم العرض، مع تغييرات محسوبة. يلي ذلك قسم فرعي هو قسم الكودا، الذي طوّره بيتهوفن ليكون بمثابة قسم لإعادة عرض التفاعل.

تقوم الحركة على الصراع بين عنصرين أساسيين، هما ما أُطلِق عليهما في هذا الفيديو: اللحن الأول، واللحن الثاني. اشتق بيتهوفن اللحن الأول لهذه الحركة من لحن افتتاحية باستيان وباستيين لموتسارت، لكنه طوره بشكل واضح الاختلاف. في الواقع قام بيتهوفن بنزع الكايدنس[Mtooltip description=” Cadence” /] من اللحن، ليتحول إلى تيمة[Mtooltip description=” Theme” /]، وبحيث لا يستقبل الكيدنس إلا في نهاية الحركة. ما يعني أن اللحن لا يكتسب كينونته التامة كلحن إلا في نهاية الحركة، أو أن الحركة هي قصة كفاح ذلك اللحن من أجل الاكتمال. يعبر ذلك بشكل ما عن كفاح البطل – نابليون بونابرت – في سبيل بلوغ بطولته. (أزال بيتهوفن بعد اكتمال تأليف السيمفونية اسم نابليون من عليها، بعد أن قضى على أحلام الجمهورية ونصب نفسه إمبراطورًا مطلَقًا، لذلك بدّل اسم سيمفونيته ليصير البطولية، أو إيرويكا بالإيطالية). أما اللحن الثاني فهو كذلك تيمة أخرى، لكنْ أطلِق عليه مع الأول لفظ (لحن) من باب التبسيط.

رغم أن قسم العرض لم يكن يقدم إنماءات صريحة مسهِبة للألحان في ذلك الوقت (مطلع القرن التاسع عشر)، فإن موهبة بيتهوفن الأساسية كانت في تطوير الألحان، لا الألحان ذاتها، هذا إذا ما قورن بموتسارت مثلًا. لذلك يتعرض اللحن الأول والثاني إلى إنماءات متطورة في قسم العرض، ثم يتبعهما لحن ثالث، وهو الغريب في صيغة السوناتا المعتادة حتى وقت بيتهوفن، التي تعتمد على عنصرين فقط على الأكثر. لكن هذا الثالث لا يكتسب بلورته الأساسية كلحن إلا في قسم التفاعل. بينما يعبّر اللحنان الأول والثاني عن النضال في طريق البطولة، فإن الثالث يعبر عن الشكّ والخوف، ثم يصير لحنًا جنائزيًا بوضوح في قسم التفاعل (الدقيقة: ٥:٤٨).

قسم التفاعل من أطول التفاعلات التي ألفها بيتهوفن، وأعقدها، وأجملها، وأكثرها درامية – ربما لا ينافسه في ذلك سوى تفاعل السيمفونية التاسعة. نرى في بدايته الصراع بين اللحنين الأول والثاني بوضوح. تخرج في هذا القسم ظلال الألحان [Mtooltip description=” Figures” /] من الخلفية، وتنمو، لتمثِّل أجزاء أساسية من التفاعل، أهمها ظل اللحن الثاني. كما أن بعض العناصر – كالتآلفين اللذَين تبدأ بهما السيمفونية – تكتسب حيوية وحرية كبيرة في الحركة، لترفع التفاعل إلى الذروة: الدقيقة ٤:٥٨، أو ما سُمِّي في هذا الفيديو ضربات السيف. كما نجد التنويعات، التي برع فيها بيتهوفن بصفة خاصة، للحن الأول بين الدقيقتين: ٦:٠٦-٦:٣٥، وهو الموضع نفسه الذي نلمح فيه الطابع الذي اشتهرت به هذه السيمفونية بالذات: طابع الاستشهاد والتضحية، ما يصوغ فكرة البطولة لدى بيتهوفن بشكل مختلف عما نراه لدى فاجنر أو سيبليوس أو ريتشارد شتراوس؛ فهي ليست مجرد استعراض للقوة، بل لا بدّ أن تتضمن مواجهة الأخطار، الشجاعة، الاستعداد للفداء، الحُب، بل والموت ذاته. هو أيضًا القسم – قسم التفاعل – الذي استغل فيه بيتهوفن الهورن الزائد، الذي أضافه إلى الهورنَين التقليديين في الأوركسترا حتى وقته، أفضل استغلال، ليصنع أصواتًا شبيهة بسرينة تحذيرية وقت الغارات أو الكوارث.

كون قسم إعادة العرض قريب من قسم العرض، ننتقل مباشرة إلى الكودا (بدءًا من ١١:٢٣ إلى النهاية)، وهي في المصطلح تذييل للعمل، أو ختام. تبدأ الكودا كما بدأ قسم التفاعل بموجات من اللحن الأول، لكنها تتضمن تنويعات أجمل. تلخِّص الكودا التفاعلَ سريعًا، لتنتهي إلى اللحن الأول مكررًا في شكل كانون، بالكورنو ثم الكمان ثم التشيللو ثم الأوركسترا ككل بما فيها الهورن، مع ظلال للحن تتبادلها الآلات في الخلفية. نستمع هنا للمرة الأولى إلى كايدنس اللحن الأول التي تبلوره في هيئة لحن حقيقي. تنتهي السيمفونية بضربات التآلف التي بدأت بها.

تتبدى في هذا العمل مقدرة بيتهوفن الحقيقية على التأليف، والمتجاوزة لأقرانه وسابقيه بجلاء. السبب في ذلك الحُكم أن الحركة – باستثناء اللحن الثالث في التفاعل والكودا – غير مبنية على ألحان أصلًا، وإنما على جُمَل وتيمات وظلال ألحان وموتيفات، بل وعلى عناصر أدقّ من كل ذلك، كالتآلفات التي تبدأ بها السيمفونية، ثم تتحرك بحرّية، لتكون من الأحجار المكوّنة للبناء بشكل جوهري لا يمكن الاستغناء عنه، ولأن اللحن الأساسي كما ذكرنا يتكون تمامًا في النهاية، لا البداية كما هو مألوف عند باخ وموتسارت. يعكس كل هذا عقلية هندسية نادرة، دون أن نستشعر في العمل شكلية طاغية، كالتي نجدها عند شوستاكوفيتش، أو تكلّفًا في الإيحاء بالعمق وعدم تلقائية كبرامز، أو تطرفًا في الدراما كما لدى فاجنر. كل هذا دون أن يفقِد بيتهوفن نقاء موسيقاه؛ أي أنه أولًا وأخيرًا يقدّم موسيقى خالصة، فالتيمات والألحان لها تعبيرات محددة، لكنها لا تعبّر عن شخوص معينين يمكن الإشارة إليهم في العالم الخارجي أو الأدب مثلًا، كما نجد لدى فاجنر وشوستاكوفيتش، بالتالي تظل موسيقاه صراعًا بين المشاعر المجردة، لا بين شخصيات أو جهات متعيِّنة.

ملاحظات:

– هذه الفقرات بها بعض المصطلحات الصعبة على غير الدارسين، كالجملة والتيمة وظل اللحن والكايدنس … إلخ، لذلك أنصح بالتوجه مباشرة إلى الفيديو، المحلَّل بشكل أبسط كثيرًا في الحواشي السفلية.

– قد يرى المشاهد في بعض التعليقات على الفيديو انطباعات ذاتية: ضربات السيف، الاستشهاد، وما إلى ذلك؛ لكنها في الحقيقة ليست كذلك، فهي مما يتفق عليه النقاد، لهذا يمكن للموسيقى أن تكون علمًا شبه موضوعي للشعور الإنساني.

– هناك مناطق خلافية حتى اليوم بين المحللين في هذا العمل، كاللحن الثالث: هل هو لحن مستقل أم تنويع على الثاني؟ والسبب هو غرابة تقديم لحن ثالث في صيغة السوناتا؛ وهل اللحن الثاني موتيفة أم تيمة؟ وقد عرض المقال وجهة نظري في هذا الشأن.

المزيـــد علــى معـــازف