.
يوقف جورج وسوف الفرقة الموسيقية عن العزف، يتوقف عن الغناء، ويقول لأحد رجال الأمن الذين يحولون بينه وبين الجمهور: “اتركه، اتركه”، ليتشجع الجمهور ويصرخ مرة تلو مرة، “سيبه سيبه سيبه”، ليمكّنوا واحدا منهم، أصابته لحظات جنون نادرة، فقرّر أنه سيفعل أي شيء من أجل مصافحة أبو وديع، حتى لو عنى هذا أن تقبض عليه الشرطة.
حصلت هذه الحكاية في حفلة جورج وسوف في جرش عام ٢٠١١، لكن قبل هذه الحادثة بسنوات، حصلت حكاية أخرى، ظلّت حاضرة في ذهني لأكتب عنها، وعن أبو وديع اليوم.
حينها ، كنت طالبًا في الثانوية، متدينًا، ومعتقدًا أنني مسؤول عن إصلاح العالم وهدايته للدين القويم. لا أعلم الآن مقدار صدق هذه الحكاية، ولا يعنيني هذا في شيء، ما يعنيني اليوم هو الأسطورة التي ترددت في المدرسة حول بطليها.
بعد سنوات من الاستماع إليه في غرفة النوم المغلقة على وقع كتابة رسائل لبنت الجيران التي وقعنا في حبّها لحظة صعدت إلى السطح لنشر الغسيل، أو من شريط رديء في سيارة السرفيس، أو بصوت مطرب الحارة الذي لا يمكن للمرء إلّا أن يعجب بإصراره على تقليد صوت جورج وسوف، حصل الآلاف من محبي جورج على فرصة الاستماع إليه بشكل مباشر، فأمّوا مهرجان جرش، ولم يتبق في المدرّج متسع لمؤخرة مهما صغرت، ومن بين هؤلاء المحظوظين شاب من مدرستي، مدرسة توفيق أبو الهدى الثانوية للبنين.
الجمهور يهتف: أبو وديع، أبو وديع، أبو وديع
جورج وس،ف ناظرًا إليهم: حلوين، وحياة إمّي حلوين.
جرش، ٢٠٠٣
في تلك الأمسية العظيمة، خرج كل شخص من المستمعين بشيء سيحمله في ذاكرته مطوّلًا، فتاة ما تعرّفت على الشاب الذي سيحطم لها قلبها بعد أشهر، وشاب ما حصل على حصّته من الركل والمعس وسط الجموع، ووصل آخرون لجنّة الحياة الدنيا، واحتفظوا بصورهم التي بثها التلفزيون ليتفرج عليها أبناؤهم بعد عقود من الآن، تمامًا كما نتفرج نحن الآن على صور ذوي الحظوة من البشر الذين نالوا شرف رؤية أم كلثوم في إحدى حفلاتها.
من قصص هؤلاء جميعًا، لا تعرف مدرسة توفيق أبو الهدى إلّا قصة ذلك الشاب الذي قرّر في لحظة شجاعة أن يقفز عن الحواجز الأمنية، ويركض باتجاه جورج وسوف، ليحظى بالثواني الأهم في حياته، فيسلم عليه. لكن الحظ، لم يكن مع صاحبنا، إذ أنه وبمجرد قفزه عن أحد الحواجز كسرت ساقه. الآن وأنا أكتب هذا النص أفكر: أحّا، ما الحاجز الذي يمكن للقفز عنه أن يكسر ساق شاب في السابعة عشر من عمره؟ ربما كل ما حصل له هو أنها رضّت، أو أن شيئًا ما فيها قد تمزّق، لكن التشويق الذي أسعى لخلقه لديكم يدفعني إلى القول أن رجله قد كسرت. حسنًا، يقفز الفتى عن الحاجز، تكسر قدمه، فيتمكن رجال الأمن من إمساكه، ويبدأون بمحاولة إبعاده عن الحاجز، أو إعادته من حيث اتى، أو ربما اعتقاله. لكن ما حصل، سيغيّر من حياتنا جميعًا، حتى أنتِ عزيزتي القارئة.
ما حدث في تلك اللحظات هو أن جورج وسوف، قال لرجال الأمن، وبصوت سمعه كل من كان متواجدًا في الحفلة: “سيبوه سيبوه”، أو ربما نطقها هكذا: “زيبوه زيبوه”، وعلى الأغلب أنه قد أشار لهم بيده، فسابوه وزابوه. ولذا قام أحدهم، فيما أتخيل، بسند الشاب الذي علت وجهه ابتسامة لم يعرف مثلها منذ خلق، واتجه نحو أبو وديع، فعانقه، أو ربما وضع شماغًا على رقبته، أو ربما قبّله، ليس لديّ أدنى فكرة. المهم أن الشاب قد عاد إلى عمّان، ليصبح شهيرًا، لدرجة تدفعني الآن بعد أكثر من عقد على الحكاية لتذكر قصته في الوقت الذي أحاول فيه الكتابة عن جورج وسوف.
ما الذي دفع جورج وسوف إلى فعل ما فعله، مع أنه كان يمكن له أن يتحجج باندماجه بالغناء فيتجنب التواصل مع الشاب، أعني تمامًا كما نفعل نحن، إذ نقطع الشارع إلى الجهة الأخرى عندما نلمح على الجهة التي نسير عليها متسولًا، أو ربما كان بإمكانه أن يتحجج بكمية الحشيش التي تعبث برأسه، أو بكمية الدم التي تسري في كحوله، أو بأي عذر آخر، لكنه، قرّر أن يكون كما يتوقع منه محبوه؛ سلطانًا، ولذا نادى الشاب، وصنع له، أكثر مما كان يتمنى.
وقتها، كنّا مراهقين، ببثور على الوجه، ومشاكل مع آبائنا، وبأحلام لا نجرؤ الآن على تذكرها. كنا تائهين جدًا، ومدفوعين بالهرمونات؛ نبحث عن أي فتاة لنقول لها الشعر الرديء الذي كتبناه في دفاتر خبّأناها لئلّا يفتضح أمرنا. نبحث عن كائن حي نمارس معه من الجنس ما يغنينا عن العلاقة المتفاقمة مع “بائعة الحليب”، وكذلك، كنّا نبحث عن مغنٍ نجد عنده تعبيرًا ما عن الأفكار التي كنّا نحس بها، مغنيًا نشعر حين نستمع إليه بأنه يقول تمامًا ما نود أن نقوله، بعد أن منعتنا لغتنا القاصرة وخبرتنا الضحلة من قوله.
في تلك الأيام غير المباركة، كان لدينا باقة من المغنين، ولكل واحد منهم، الوقت المناسب الذي يستدعي إخراجه من جوف الجرّار إلى قلب المسجّل، كان لدينا كاظم الساهر، نخرجه بعد أن يرى أحدنا فتاة ما من مدرسة البنات، فيقرّر، لأسباب لا يمكن فهمها، أنها ذَ وَن، دونًا عن باقي بنات الدنيا، فنكتب لها من القصائد التي يغنيها ما نشعر بأنه يناسبها، نغني لها علّمني حبك سيدتي، ونغني لها إلى تلميذة، وحافية القدمين.
أمّا عندما كانت العلاقات تفشل، فلم تكن تتوافر لدينا وقتها خيارات كثيرة؛ البعض كان يلجأ للدين ويجد فيه مكانًا يصلح لأن يقيم فيه ويجد فيه العزاء، والبعض الآخر كان يستسلم للحزن الذي يشبه حزن عبد الحليم حافظ في أفلامه التي يكون فيها مغشوشًا مخدوعًا، فيلجأ إثر هذه الخيانات إلى التوقف عن تناول الطعام وإلى ترك الدراسة وإلى الهرب من العالم بأسره وإلى الاستعانة بجارور خاص يحوي أشرطة هاني شاكر وحمادة هلال والأهم مصطفى كامل. أما الخيار الأخير فهو خيار أبو وديع، والذي كنّا نكتشف بعد مدّة كافية، أنه أفضل مما توقعنا، وأبقى مما يحصل مع مغنين آخرين.
بغد فترة كافية من الاستماع إلى أبو وديع تكتشف أن أغانيه ليست كورسًا علاجيًا تتناوله لدى شعورك بالألم، ولكنها أسلوب تربية ومنهاج. يعلمك جورج أن تكون قويًا، أن تتألم، وربما أن تصرخ، لكن ألّا تضعف، أن تنهض من جراحك أكثر قوّة، أكثر عزمًا. يعلمك جورج وسوف ألّا تذلّ لأحد، وأن كرامتك فوق قلبك.
لهذا السبب، ولغيره، لم يكن لدينا في مراهقتنا اسم مغن، يمكن لنا أن ننطقه من دون أي حرج كما كان يحدث مع جورج وسوف.
بالطبع يمكن نقض الكلام الذي قلته أعلاه بسهولة تامة، ويمكن جلب أدلة تهدم هذا المقال على ساكنيه، لكن شيئًا ما مميزًا في أبو وديع، كان يجعل من الكلام الذي يقوله، مختلفًا وأجمل، وأصدق من الكلام الذي يقوله الآخرون، مهما تشابه كلامهم مع كلامه.
هذا الشيء المميز في جورج وسوف، جذب إليه طائفة من المعجبين الذين على الأغلب لم يملكوا في يوم من الأيّام ما يمكنهم من حضور حفلاته، أبناء هذه الطائفة الذين لا يعرفون عن بعضهم، سنسمّيهم، او سيسمّون أنفسهم: الدواوين.
أمّا نحن، المراهقون الباحثون بيأس عن قدوات مختلفة، فقد دفعنا إعجابنا بهذه الطائفة، نحو الإعجاب بما كان يعجبها، من دون امتلاك الجرأة على تقليد أبنائها في بقية سلوكياتهم التي جعلت منهم قدوات.
الدواوين، وبالمصرية الجدع، وبالسورية القبضاي، وفي بعض الأحيان لدينا الزجرت أو الزلمة، كان يفعل الصح من دون التفكير بالعواقب، الزجورت لم يكن يسمح لمدير المدرسة بالتجبر عليه، ولا يسمح لأبيه أن يمد يده على أمّه، الزجرت يعمل ما يجب أن يُفعل حتى وإن عنى هذا طرده من المدرسة أو نقله نقلًا تأديبيًا، الزجرت يحمي أبناء صفّه ومدرسته وحيّه، رغم علاقته المضطربة بهم. الزجرت باختصار، هو شاب “قد حاله”.
لست أحاول القول أن محبي جورج كلّهم من هذه الفئة، لكنني أتحدث عن الأسباب التي دفعتني إلى اعتبار جورج وسوف أيقونة، ومغنّيًا مفضلًا، حتى الآن.
أمّا لماذا هو، دونًا عن غيره، فربما أن هذا حصل بسبب تصوّرنا الذهني حول جورج وسوف، وهو التصور الذي عزّزته كلمات أغانيه، وسلوكه في المجال العام، والأخبار المتداولة حوله. سلوكه العام الذي كان يطبّق مقولة مظفر النواب القديمة: “قدمي بالحكومات في البدء والنصف والخاتمة”. لكن جورج كان يزيد عليها، قدمي بالشائع، قدمي بالمين ستريم، قدمي برأيك عزيزي الناقد، وقدمي، ذاتها، في رأيك حول ما يجب على صوت المغني أن يكونه.
الجمهور: صلّوا عالنبي، صلّوا عالنبي
جورج وسوف: اللهم صل على كل الأنبيا
جرش، ٢٠٠١
هذا التصوّر جعل من جورج وسوف نسختنا المحلية من كائنات خارجة على القانون ولكن تحظى بشعبية لا ينالها الأبطال الرسميّون، هو نسختنا من مارادونا الذي لا يخجل من علاقته بالمخدرات ولا من هدف يسجله بيده، هو نسختنا من توم وايتس الحانق على كل شيء، والمبالي بلا شيء. وهو نسختي الشخصية الأقل عمقًا، من محمد الماغوط، الذي تخيّل نفسه: “قرداً في غابة\ يقطف الثمار الفجّة\ ويلقي بها على رؤوس المارة\ وهو يقفز ضاحكاً مصفقاً\ من غصن الى غصن”.
أحب الاعتقاد في أن في جوف كلٍّ منّا، حتى أكثرنا وقارًا، رغبة عارمة بالتمرد، التمرد على أبائنا، والتمرد على العرف الاجتماعي، وعلى القانون الذي لم نشارك يومًا في وضعه، وعلى كل من يقول لنا لا يجوز وما بصير وعيب. لكن المؤامرة الكونية تعمل ضدنا، فنربي أنفسنا، ويربينا البيت، وتربينا المدرسة، والوظيفة وشرطي السير ورئيس الوزراء عبدالله النسور لاحقًا على أن نقمع هذه الرغبة، وعلى أن نقتلها في مهدها. وينجح السيستم في القيام بهذه المهمة، ومن ينجو من هذا الترويض يكن له الرسوب وغضب الوالدين ومخالفة الشرطي والغضب الإلهي والسجن الأرضي بالمرصاد.
ولذا ننظر نحن “المتحمسون الأوغاد”، عبيد الوظيفة الرسمية، والدوام من التاسعة صباحًا إلى السادسة مساءً، نحن المقموعون وقامعو أنفسنا وغيرنا نحن الذين نسير وفق منطق الحيط الحيط، نحن الذين لا رأي لنا حتى في لون ملابسنا الداخلية، ننظر إلى جورج وسوف وإلى أمثاله من الأوغاد بشيء من الحب عميق، وبإعجاب نخجل منه أمام أبنائنا، وأمام رؤسائنا في العمل.
في أيّام مراهقتنا، وربما اليوم، لو قام باحث اجتماعي بالتجوال في أشد مناطق عمّان الشرقية فقرًا؛ المحطة، وجبل النصر، ومخيم الوحدات، وجبل التاج وغيرها، وحاول رصد ما كتب على جدران هذه المناطق، وما خطته علب الرش على حيطان مدارسها، وما خربشه مراهقوها على أغلفة دفاترهم لوجد أن أبو وديع من التعابير الأكثر تكرارًا، وربما يليها اسم أحد الناديين: الوحدات والفيصلي.