.
نقلًا عن محدثي عبد السلام شوشان، الشاعر الشعبي الملمّ بالتراث الغنائي والشعري البدوي، تقول الأسطورة إنّ المهبولي انتظر طويلًا قبل أن يُرزق بمولودٍ ذكر بعد بناته الخمسة. ابتهج الرجل لقدوم الولد الذي سمّاه علي، وعلّق له حرزًا ظل ملازمًا له وشكّل كنيته فيما بعد، الحرّازي١. نذر المهبولي لابنه أن يتسلم مقاليد السلطة المستقبلية للعائلة، بعد أن يورثه جلالة موقعه بين الأعيان، ويتشرّب من قيم الفحولة والغِلظة وشيم الفروسية البدوية التي ميّزت جنوب تونس وقبائلها.
بعدما شبّ الولد، وصلت إلى مسامع أبيه أن ابنه مرق ونزق، وكثرت من حوله الأقاويل عن غنائه وتشبهه بالنساء في رقصه، حتى أقسم أبوه على ذبحه درءًا للفضيحة. أذعن علي الحرّازي لقدره وأصابه الكدر، لكن أصحابه وجدوا له حيلة. ذبحوا ناقة وفصلوا عنقها الطويل، ثم أفرغوا محتواه وملؤوه بالدماء، وخاطوه ليصبح حزامًا مكتنزًا بالدم، طلبوا من الحرازي لفّه حول عنقه. تحقق النذر بسفك الدماء، وانطلت الحيلة على والد الحرّازي، الذي لم يعرف أن الدم الذي سفكه كان دم ناقة. تشير بعض الروايات الأخرى – رغم ضعف متنها – إلى أن المهبولي علم بالحيلة وأراد لابنه أن ينجو دون أن يخسر مهابته أمام الناس، بعد أن أقسم بأغلظ الأيمان على قتله ثم ضعُف أمام تضرّع زوجته.٢
أخبرني عبد السلام شوشان أن الحرّازي، الذي لم يستوعب إقدام أبيه على ذبحه، هرب من منزله مغطًّى بالدماء، ثم اختلى بنفسه بين الوديان وشرع يغني: “بين الوديان، دمّه يقطّر”، وهام على وجهه وصولًا إلى تونس ومن ثم الوطن القبلي.٣
تحضر أغنية بين الوديان كعلامة رمزية على الهروب من الموت / الذبح، وكتأريخ للحظة هروب الحرّازي وبداية رحلته الطويلة شمالًا. تحتل رمزية الجمل المذبوح مكانةً ملتبسةً في الذاكرة الشعبية، من خلال استبطانها لقصة إبراهيم وإسماعيل وصورة التضحية الدينية، إذ يشير فعل الذبح وسيلان الدم إلى نذرٍ بحياة جديدة، تجسدت بشكلٍ ملحمي حينما بدأ الحرازي رحلته الغنائية.
لا توجد إشارات موثّقة إلى علي الحرّازي غير ما كتبه الصادق محمد العمري في كتابه موسيقيون من الأعراض. يشير العمري إلى أن الحرّازي ولد حوالي سنة ١٨٨٠ في قرية أم التمر جنوب وادي الزاس في منطقة ورغمّة القبلية٤، من عائلة تقوى ودين هي عائلة المهبولي، في حين أن أمه من منطقة الحرّازة واسمها زازية. من الوارد أن يكون الحرّازي قد قد حمل لقب والدته بعد أن خلعه والده، حتى لا يرتبط غناؤه ورقصه بلقب العائلة الأصلي. كان الخلع وسلب اللقب العائلي أمرًا شائعًا في البوادي والأرياف، يذكّرنا بماضي المخلوعين من الشعراء الصعاليك في العهود التي سبقت الإسلام، مثل قيس بن الحدادية الذي خلعته قبيلته خزاعة، فاختار لقب أمه الحدادية. انتقل العمرّي إلى قرية أم التمر للقاء كبار السن هناك٥ لجمع الشهادات حول الحرازي، وعند سؤاله عن الرجل كان الجميع يشيح بوجهه ويستنكر ذكره، معتبرين إياه مصدر عارٍ بخدشه لحياء القرية واشتهاره بالرقص الخليع والغناء.
غادر الحرّازي قريته أم التمر٦، وذهب باتجاه قابس سيرًا على الأقدام، حيث استقر هناك لفترة طويلة، قبل أن يشد الرحال من جديد ويمر بقفصة والقيروان، فصفاقس والساحل عبر سوسة، ليتجه شمالًا نحو تونس، ثم يحط في نابل وتحديدًا منزل تميم، حيث استقر وأصبح مطلوبًا للأعراس والحفلات، حتى في مناطق أخرى مثل القيروان والكاف وبنزرت وباجة. لا يفصح تعدّد البلدان لوحده عن ثراء وتنوع رحلة الحرّازي، فالأهم من المجال الجغرافي هو المعطى القبلي والعروشي (العشائري) الذي كان موجودًا قديمًا في تونس، واستأثر بمجالات محددة ومتغيرة حسب الحروب والصراعات وحركات البداوة، وحدّد انتماء الأفراد. جمع الحرّازي في رحلته بين قبائل المثاليث التي وجدت بين صفاقس وجزء من المهدية، وأولاد سعيد الذين كانوا في الساحل، جلاص في القيروان ودريد شمالًا وغيرهم. اشتهرت هذه القبائل بأنماط غنائية وأدائية مميزة، نستدل بها على ثراء تجربة الحرّازي وأهمية الأثر الذي تركه أينما حل.
في محطته الأولى قابس، أهم مدن منطقة الأعراض، لقي الحرّازي ترحابًا كبيرًا واستأنس بأهاليها، في استعادة لتقاليد الجوار في الثقافة العربية القديمة، عندما كان الخلعاء يلجؤون إلى الترحّل أو الاحتماء بقبيلة أخرى تؤويهم. أشاد الرحالون والجغرافيون العرب وغيرهم بالدور النشيط الذي لعبته منطقة الأعراض في مجال التجارة الصحراوية٧. ساهمت تلك الحركة التجارية – التي جمعت بين البر والصحراء والبحر – بإثراء مشاهد الموسيقى في قابس، عبر التقاء المقامات البدوية الصحراوية والبحرية الريفية والحضرية. على صعيدٍ آخر، شكّل قرب قابس الجغرافي من ليبيا دورًا مهمًا في انتشار أساليب الغناء الطرابلسي، الذي قدم مع قوافل الهجرات الطرابلسية من ليبيا إلى تونس خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين٨. كان لتلك الهجرات أثرٌ قوي على الموسيقى والشعر في تونس، إذ جلب الطرابلسيون حمولة شعرية ثرية بالإضافة إلى أساليب الأداء والإيقاع، ومن ضمنها اللون الطرابلسي في الغناء، الذي يُشار به إلى انطلاق الغناء من آخر كلمة أو عبارة في شطر البيت، ثم استئناف الغناء من البداية الطبيعية للبيت الشعري.
أصبح الحرّازي مطلوبًا في الأعراس والحفلات في قابس، وكوّن فرقةً هناك وبدأ بغناء نصوصه الخاصة بالإضافة إلى ما حفظه من تراث المنطقة. لم يجد الرجل حرجًا في استعراض رقصاته الماجنة وارتدائه للباسٍ نسائي. لكن رغم ذيوع صيته هناك، كان يتعرض الحرّازي إلى الضرب والشتم في بعض الأحيان.
في تلك الأثناء، كان الشيخ العفريت مارًا بقابس في اتجاه جربة لأداء مناسك الحج اليهودي في معبد الغريبة٩. التقى العفريت بالحرّازي وأصبح يشتغل معه في فرقته مردّدًا صوتيًا لبعض الوقت١٠، وغادر معه قابس باتجاه تونس العاصمة بعد أن جدّت حادثة كادت تودي بحياته.١١
المعلوم أن الشيخ العفريت كان يتنقل في البوادي والأرياف، حيث كان يلتقي بالمغنين الشعبيين ليحفظ عنهم أغانيهم وتراثهم، ثم يعود إلى تونس ليؤدي تلك الأغاني البدوية بأسلوبه الحضري الخاص. يشير فاروق الشعبوني في كتابه الشيخ العفريت مطرب تونس، إلى أن العفريت حفظ عن المغنين المشهود لهم، وخاصةً من الكاف، لكنه لم يأتِ على ذكر لقائه بالحرّازي: “تعلم العفريت الكثير من الغناء الشعبي والحال أن جلّ ما تغنى به هو في الحقيقة مستمد من رصيد التراث الشعبي، فقد نسب الشيخ العفريت لنفسه ألحانًا وكلمات من التراث الشعبي، وهذا الصنيع وإن كان غير مشروع إلا أنه مسموح به ومتداول في ذلك العصر.”
أخذ العفريت عن الحرّازي أغانٍ مثل ليام كيف الريح في البريمة ويا ناس هملت وعملت الرحلة، والتي يمكن أن نستقرئ منها حديث الحرّازي عن ترحّله وانتقاله المتواصل: “يا ناس هملت وعملت رحلة وسفرت البلدان / درت الصحراء بلاد القبلة ومسكن العربان”، بالإضافة إلى لايقلّه سيدي خويا التي ألفها الحرّازي بعد أن تزوّج بإحدى قريباته وأنشد يقول: “علي الحرّازي لا يقلّه / جاب عروسة تتجلى”، التي غيّرها الشيخ العفريت فيما بعد لتصبح: “سيدي خويا لا يقلّه / جاب عروسة تتجلى.”
وصل الحرّازي إلى تونس العاصمة في فترةٍ ما من بدايات القرن العشرين، وعرض عليه العفريت أن يبقى معه ويعملا سويًا لكن الحرازي آثر الارتحال مرة أخرى. لا نعلم على وجه الدقة إذا ما قدّم الحرازي عروضًا راقصة في تونس أم لا، لكن الثابت هو تداخل القصص مرةً أخرى، والتقاطعات المثيرة بين الحرّازي الراقص وشخصيات أخرى في العاصمة. يذكر العمري أن الحرّازي كان “يلبس الخمار فوق أنفه ويضع قلّة (أي جرّة من فخار) فوقها لوحة وكانون فيه البخور، ويضع الماء في إحدى الكؤوس ثم ينقل الماء بحركاته من كأس إلى آخر ويضعه فوق مجموعة أخرى من الكؤوس دون أن ينزل الماء إلى الأرض.” هذه تقريبًا نفس الحركات التي كان يقوم بها ولد الجلابة، الراقص المثير للجدل الذي تواجد في تونس في بدايات القرن العشرين.١٢
يجدر بالذكر هنا أن تاريخ الرقص في تونس يزخر بالكثير من الراقصين الماجنين الذكور، الذين نُسجت حولهم قصص كثيرة فيما يتعلق بهوياتهم الجنسية وتمثّلهم بالنساء، نذكر منهم سالم ولد خضراء، التوقتري أو ولد الجلابة، عبد السلام قنفيدة، شق العصبان. تواجد أغلب هؤلاء في المجال الحضري لتونس العاصمة خلال فترة ما بين الحربين، وكان أغلبهم يقدم عروضه خلسة في المخازن المغلقة والمخابز ومحلات الجزارين وبائعي الخضار والغلال بعد نهاية أوقات العمل. مثّلت تلك الأماكن فضاءاتٍ بديلة لتقديم العروض الفرجوية التي لا تنضبط لنواميس الحياة الحضرية المحافظة، خلافًا للفضاءات الرسمية الأخرى، قبل أن ينتشر الرقص النسائي ويغزو الكافيشانطات١٣، التي مثّلت أولى ملامح العروض الفرجوية في تونس المتأثرة بالثقافة الأوروبية، مثل مقهى العروض (café concerts) أو القاعة الأمريكية (music hall). تشير الباحثة سلوى حفيظ في كتابها الرقص في الثقافة الإسلامية (الذي سحب من الأسواق سنة ٢٠١٢، صفحات ٢٦٤ – ٢٦٥) إلى أن الرقص النسائي ظل إلى بداية الستينات مقتصرًا على راقصين ذكور تجري تهيئتهم بلباس نسائي.
أثناء الاستعمار الفرنسي، كان الرقص ممارسة رجالية يحمل نفس صورة المسرح اليوناني والياباني القديم. ينظم الجنود رقصات هزّ البطن في حلقات الجيوش، ويتطوّع أحد الرجال للقيام بدور المرأة فيما يوقّع الآخرون بضرب الأيدي. لكن الأمور اختلطت في مرحلة لاحقة، بالذات عندما تنكّر المجتمع للفتيات اللواتى لفظتهن عائلاتهن لأسباب أخلاقية، فلم يكن هنالك غير طريقتين متناقضتين للاندماج: إمّا الالتجاء إلى مقامات الأولياء والتكفير عن الذنوب، أو الانخراط في فئة المهمشين والتحول كليًا نحو الرقص أو الدعارة.
غادر الحرّازي قابس مع الشيخ العفريت وفرقته على كرّيطة (عربة تنقل تجرها دابة) وارتحل في مختلف المناطق في تونس. طاف بالعديد من المدن والأرياف، احتك بالمغنين الشعبيين وأرخى حمولته الشعرية وتلقّف أغانٍ أخرى حملها معه. يشير عبد السلام شوشان إلى أن الحرّازي مرّ بجهة المثاليث أثناء رحلته، والتقى بإسماعيل الحطاب الذي كان يرعى الغنم مع والده. أصبح إسماعيل أحد أكبر قامات الغناء البدوي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وتلقّف من الحرازي أغنيتي بين الوديان وبعيني شبحت الريم في جريانة اللتين غناهما الحرّازي أمامه.
استقر المطاف بالحرّازي أخيرًا في الوطن القبلي، وتحديدًا منزل تميم، حيث قضى بقية حياته. عاش الحرّازي فصلًا خصبًا ثانيًا من مسيرته الغنائية هناك، واشتهر في الأعراس بأدائه لأغاني العرضاوي١٤ المنسوب لجهة الأعراض. ساهم استقرار الحرازي هناك في انتشار أغانٍ مثل أم القد طويلة صالحة التي غنتها نعمة في مرحلة ما، وينسبها العمرّي إلى مزهود بن مامي، أحد مغني الموقف١٥ قديمًا الذي عاش بين القرنين التاسع عشر والعشرين، بالإضافة إلى مكحول أنظاره التي ينسبها البعض إلى أحد الصعاليك القدامى، في حين يشير العمرّي إلى أنها تعود إلى امرأة حمرونية (نسبة إلى الحمارنة، إحدى العائلات الكبيرة في منطقة الأعراض) غنتها أواخر القرن التاسع عشر في مناسبة لأحد الأثرياء، وانتقل بها الحرّازي إلى نابل ونشرها في الأعراس إلى أن أصبحت رائجة وغنتها نعمة فيما بعد. تجدر بنا الإشارة إلى أن نعمة ولدت في أزمور في ولاية نابل، ما يفسر ترديدها لتلك الأغاني عندما استقرت في تونس العاصمة، وانضمت إلى الرشيدية وأصبحت فيما بعد مطربة قديرة في الإذاعة التونسية، بعد أن نهلت من التراث الهجين لمنطقتها، المشبع بالمخزون الجديد الذي أضافه الحرّازي.
أثناء تواجد الحرّازي في منزل تميم، توفي أبوه وبلغ مسامعه أن عائلته وأخواته يرغبن في زيارته. سافرت أخته رقيّة بصحبة أفراد من العائلة إلى منزل تميم في نابل، عبر القطار الذي كان يُسمى وقتها البابور. لم يتوقع الحرّازي أن يلتقي بعائلته بعد غيابٍ طويل. أخبرته رقيّة عن كيفية قدومهم وكيف ارتعبت من التجربة بعد أن ظنت أن القطار سيدخل بهم عرض البحر. لم يتمالك الحرّازي نفسه، وشرع فيما بعد يغني عن فرحة لقائه بأخته: “البابور اللي هز رقية / لا يغرق لا تطبّه امّيه.” يحضر الالتباس مرة أخرى في أغنية البابور اللي هز رقية، فنفس مطلع البيت حاضر في أغنية انتشرت في الشابة في الساحل التونسي، وأحيتها فرقة أولاد قبودية خلال الثمانينات. تنتشر رواية أخرى في الشابة، تفيد أن أحد الشعراء تعلّق بفتاة جميلة اسمها رقية، إلى أن هربت عن طريق البحر وسافرت بعيدًا. تلوّع الرجل لغياب حبيبته المفاجئ بعد أن كثر اللغو حولها في القرية، فأنشد يغني: “البابور اللي هز رقية / والموجة قوية يا عذابي.”
ساهم الحرّازي – إلى جانب قوافل الهطاية والخضارة والغنامة١٦ – في الإفراج عن العرضاوي وإخراجه من بيئته الجنوبية لينتشر في ربوع تونس. أشار العمرّي إلى أن الحرّازي انتقل بين مناطق عدة وغنى فيها مقام العرضاوي بصحبة فرقته، رغم أن العرضاوي “لا ينتقل إلى فريقيا١٧ إلا بسبب الجفاف وطلب المرعى.” لم يقتصر دور الرجل على نقل أغانٍ ذات طابع عرضاوي، إذ كان له تأثير كبير على مرافقيه وأهمّهم الشيخ العفريت؛ فإلى جانب الأغاني التي تلقفها عنه، ضمّ العفريت في فرقته في تونس عازف كمنجة اسمه العدّاوي، اشتهر بحذقه في مقام العرضاوي١٨، تأثرًا باحتكاكه بالحرّازي.
اصطبغت رحلة الحرّازي بالانتقال بين الأرياف والمدن، ولا مبالغة في أن نعتبرها أهم رحلة حملت أثرًا موسيقيًا على درجة كبيرة من الثراء في تاريخ الأغنية التونسية. في نفس الوقت، يشترك الحرّازي مع علامات أخرى في المغرب الكبير كان لها دور مهم في انتقال الأغاني، وإن غيّبتهم الذاكرة في أغلب الأحيان، مثل محمد الضمراوي الذي اختفى في ظل ناس الغيوان (مثلما ابتلع الشيخ العفريت الحرّازي)، وسيدوم ولد أنجرتو في موريتانيا الذي يعتبره كثيرون جد طبقة المغنين، الإيكاون. تحفل ذاكرة الأغاني التونسية بسير الصعاليك والمارقين وغريبي الأطوار، الذين ألّفوا أغانٍ بقيت مجهولة النسب. كان الحرّازي أحد هؤلاء المنبوذين الذين لم تسعفهم الذاكرة الجماعية ولا التحولات العميقة التي أتت على تاريخ الأغنية التونسية، بعد أن تنكّر له أهله وقريته، وبقي صوته ضائعًا داخل الذاكرة الغنائية بالرغم من الأثر الكبير الذي تركه في التراث التونسي.
١. متن القصة ضعيف، أولًا لأن عادة تعليق الحروز والتطيّر منتشرة بكثرة في البوادي والأرياف وحتى المدن، وبالتالي لم يكن الحرّازي ليكسب امتيازًا فعليًا بحيازته لحرز ما. ثانيًا، لأن عائلة الحرازة متواجدة فعليًا في منطقة ورغمة ويُعتقد أن أصلها يمني قدم إلى تونس مع الحملات الإسلامية الأولى أو الزحف الهلالي.
٢. تبقى القصة عصيّة على التصديق وحمّالة للكثير من الأسْطَرة، فالذاكرة الشفوية معرضة للإضافات والخيالات الجامحة. لم يتبنّ الصادق محمد العمري القصة الأسطورية التي نُسجت حول الحرازي، لكنه ذكر قصة مماثلة وقريبة إلى حد الالتباس، استحضرت نفس الثيمات الحاضرة في القصة التي رواها شوشان، من المروق إلى الذبح والترحّل: “كان في بدايته يرقص ويغني الغناء البدوي المعروف، وهو من المبدعين في الغناء البدوي الخفيف الراقص المحبب لدى الكثير من الناس، فنهروه وضربوه وتقدّم إلى المهبولي أولاده يشكونه العار الذي لحق بهم: ’ابن من أبناء عرش المهبولي التقيّ يعمل هكذا.’ حذّره والده عدة مرات لكنه لم يعر أي شيء لذلك التحذير، وفي إحدى الليالي الباردة الحالكة جاءه والده فوجده نائمًا في فراشه، وكانت في يده سكين فانقض عليه وذبح جزءًا من رقبته، لكنه تمكن من الفرار وكانت الذبحة خفيفة. توجه في تلك الليالي مشيًا على الأقدام إلى مدينة قابس التي احتضنته وأقام فيها عدة سنوات.”
٣. ينفرد شوشان بنسبِ بين الوديان إلى الحرازي، رغم تواجد قصص أخرى تشير بعكس ذلك. في مقالها عن الشعر الأخضر الإباحي، ذكرت ريم بن رجب أن بين الوديان تعود إلى منطقة الكاف، حيث يسود اعتقاد كبير بأن أحد الغناية (جمع غنّاي، وهو من يلقي الشعر الملحون ويجوب به في الأماكن العامة وخلال المناسبات) القدامى، بالصيد الطالبي، كان يتغزل ببنات الدوّار إلى أن أحبّ ابنة شيخ كان يمثّل آنذاك السلطة السياسية والدينيّة في هذا التجمّع السكنيّ، فنظم فيها أبياتًا من الشعر الأخضر (يقصد بالشعر الأخضر، الغزلي الإباحي الذي يتغنى بمفاتن المرأة)، ما لم يُعجب والدها الذي دبّر لقتله. اعترض أحدهم الطالبي ليلًا وحاول ذبحه كالخروف، فبقي يتخبط في دمائه إلى أن عثر عليه بعض القادمين إلى السوق صباحًا ليجدوه على قيد الحياة. حمل الأهالي الطالبي إلى أحد الأطباء الذي خاط له جرحه العميق وأنقذه من الموت، فانطلق في الغناء والتجوال من جديد وكتب يؤرخ لمأساته: “ما بين الوديان دمّه يقطر / نموت ونحيا على الغنجة حلال.” الملفت في القصص والأساطير التي نسجت حول الطالبي استحضارها لتقاطعات مثيرة مع قصة الحرّازي، فكلاهما شكّلا بأفعالهما معارضة صريحة لسلطة الورع الدينية، بالإضافة إلى اشتراكهما في التعرض لفعل الذبح، وثيمة الترحّل وتقوّل الشعر الغنائي التي ميزتهما. في نفس الوقت، لنا أن نستدل بما تورده الذاكرة الشفوية في الكاف بأن الطالبي كان يترحّل لمدة تسعة أشهر في السنة، وهو ما يذكرنا بالهطّاية (مشاركة قبائل الوسط في الحصاد في الشمال التونسي) والعشّابة (انتقال البدو بماشيتهم بحثًا عن المرعى) قديمًا، الذين كانوا يرتحلون في ربوع تونس من أجل الرعي أو الحصاد أو بيع المنتوجات الفلاحية، وساهموا بشكل ما في انتقال الأغاني من منطقة إلى أخرى، وانفتاح التراث الغنائي للجنوب والشمال والساحل والدواخل على بعضها، ما يمكن أن يفسر التداخل بين القصتين (لنا أن نحدس في نفس الوقت، أن انتقال الأغاني من منطقة إلى أخرى في تونس جعل تتبع المصدر الأصلي ضربًا من العبث).
٤. بحسب الحبّاشي في كتابه عروش تونس (صفحتي ٥٠ و٥١)، ورغمّة اتحاد قبلي ذو أصول بربرية، استقر في أقصى الجنوب واتخذ خلال القرن السادس عشر شكل تحالف واسع بين السكان الذين تحركوا بين البحر والصحراء.
٥. ي حديثي معه عن الموضوع، أخبرني العمري أنه تحوّل إلى القرية منذ سنوات طويلة لجمع الشهادات أثناء بحثه للكتاب.
٦. يستدل عبد السلام شوشان بحجة أخرى لنسب بين الوديان إلى الحرّازي، وهي تضاريس المنطقة التي نشأ فيها الحرّازي حيث كثرت الوديان.
٧. الهادي وناس الزريبي، الحامة تاريخ وحضارة، صفحة ١٦.
٨. تعود أصول تلك الهجرات إما إلى النكبات الطبيعية، وما نتج عنها من جدب وجفاف وأوبئة خلال عهد القرامنلة الذين حكموا ليبيا من ١٧١١ إلى ١٨٣٥، أو إلى استفحال الحروب والصراعات الأهلية على الحكم في نفس الفترة، أو خلال فترة الاستعمار الإيطالي لليبيا بدايات القرن العشرين (محمد الجلاصي، هجرة الطرابلسية للبلاد التونسية، صفحات ٥١-٥٧).
٩. معبد يهودي قديم في جزيرة جربة، يحجّ إليه اليهود من أنحاء العالم كل سنة.
١٠. موسيقيون من الأعراض، صفحة ١٦ و٨٩.
١١. “في إحدى سهراته وهو يغني ويرقص ويصاحبه بالتصفيق الحاد والزغاريد، كانت فوق سطح المنزل امرأة ماسكة بابنتها، ومن شدة افتتانها به فتحت يديها فسقطت ابنتها على الأرض وماتت. كانت هذه الحادثة قد تسببت له بعدة متاعب فقرر الخروج من قابس بصحبة فرقته التي تتركب من عازف الكمنجة وتلميذه الشيخ العفريت، واثنين من عازفي الإيقاع والزنه، وأخذوا كرّيطة (عربة نقل تجرها دابة) واتجهوا نحو الشمال وقدموا عدة حفلات زفاف في كل مكان يحلون به إلى أن وصلوا إلى العاصمة؛ لكنه لم يمكث بها كثيرًا وبقي الشيخ العفريت في العاصمة وانتقل الحرّازي إلى مدينة منزل تميم واستقر بها.” موسيقيون من الأعراض، صفحتي ٨٨ و٨٩)
١٢. قدّم الراقص التونسي رشدي بلقاسمي عرضًا تحت اسم ولد الجلابة، استعاد فيه الشخصية التاريخية لولد الجلابة وقام بإحياء رقصاته.
١٣. قاعات السهر الليلية التي انتشرت في العاصمة وقتها.
١٤. مقام على سلم خماسي، وهو من الطبوع الشعبية التونسية، والطبوع تماثل المقامات في المشرق. لا يتعدى العرضاوي العقد الأول مع إمكانية تجاوزه بدرجة أو اثنتين. من الأغاني المشهورة على هذا الطابع: مع العزابة، بخنوق بنت المحاميد، ونا وجمالي فريدة، وجميعها أدتها صليحة.
١٥. من التراث الغنائي البربري في الجنوب التونسي. يصطف الرجال والنساء ويتقدمهم المغني الرئيسي الذي يشرع في الغناء ويرد عليه البقية بالغناء والتصفيق.
١٦. الهطاية مشاركة قبائل الوسط في الحصاد في الشمال التونسي. الغنامة مصطلح مرتبط بحركة الانتجاع بالأغنام من الوسط نحو الشمال في فصل الصيف. الخضارة ممارسة قديمة تتمثل في قدوم أفراد من فلاحي الساحل لشراء محصول غلال الصيف.
١٧. تُنطق فْرِيقيا، وتعني منطقة الوطن القبلي في العامية التونسية، وهي المنطقة التي استقر بها الحرّازي أواخر حياته.
١٨. فاروق الشعبوني، الشيخ العفريت مطرب تونس، صفحة ٣٤.