.
قابلت قط أسود (علي طالباب سابقًا) لما زار القاهرة من بودابست في يوليو الماضي. حركني الفضول لإني بسمع قديمه قبل جديده. قُلتِله، لما فضّل إننا نقعد في قهوة بلدي: “الصوت هيبقى طشاش بسبب الدوشة.” رد عليّا: “إنت لسه مصمم على اللي في دماغك؟” سكت، ابتسم هو وأضاف: “هحكيلك، مع إني مش عارف دا مفيد ازاي دلوقتي.”
على مدار خمس أو ست ساعات حكالي قط أسود عن السين في أثناء وبعد ثورة يناير في ٢٠١١، وعن رؤيته ومخاوفه وإحساسه بمشروع علي طالباب وقتها، وإن الهامش أحيانًا بيكون مساحة حرية بعيدًا عن التعليب، فضلًا عن إشكاليات تسجيل التراكات وتنظيم الحفلات والروح اللي فُقدت من السين المصري.
كلامه يعتبر شهادة ذات صلة على ربيعنا المأزوم، اللي خرج منه كاركتير قط أسود عشان يواجه واقع سين جديد، يمكن يساعده يفهم اللي فات ويلعب مزيكا ويقول تاني، أو يكتب كلام يغنّيه الأطفال.
قط أسود: مفيش. حاليًا حاسسني أخدت مساحة عشان أقدر أدخل جوّا نفسي أكتر. لو حد سامعنا دلوقتي، يمكن ميعرفش إني وقفت مزيكا من ٢٠١٦ تقريبًا، ممكن لسه جوّا دماغه إن علي بيعمل حاجة معينة لها شكل محدد وبيتكلم عنها بطريقة ما. لكني حاسسني بعدت عن دا شوية.
دخلت رحلة تانية، بتاعتي، بعمل حاجات تخصني. زمان، كنت بتكلم لبرّا، إنما اللي بعمله دلوقتي حاسسني بتكلم فيه لجوّا أكتر. دا تلخيص لإزاي شايف اللي بعمله دلوقتي، أو إزاي اللي فات كنت بقول فيه حاجة للناس. ساعتها، وجود الناس كان عنصر مهم من اللي بيحصل، بس حاليًا وجود الناس مش بنفس الأهمية. بقيت بستخدم المزيكا عشان أتعامل مع حاجات جوّا نفسي أنا. وجود الناس بقى تمام، وإذا لأ: تمام برضه.
مش الناس قد ما هو أنا برضه. لأن الناس هتحطّك في حتة معينة عشان إنت أخدت خطوات عشان يشوفوك فيها. الفكرة كلها إن الوقت اللي بتكلم عنه من ٢٠١١ لـ ٢٠١٦ كان فيه حاجات بتحصل حوالينا بنشارك فيها، فإحنا بنتكلم في اللي بيحصل حوالينا بجد. بشوفني أخدتها في السكة دي عشان دا اللي كنت عايشه وحاسه. كان دايمًا بيجي التعبير كدا. بعد ما سافرت في ٢٠١٦، مبقاش فيه نفس الحاجات.
هي موجودة جوّا دماغي ولسه فاكر المواقف، بس أنا مش عايشها. عندي حياة تانية بعيشها، في مكان جديد، بناس ومشاكل وأفراح مختلفة. بقى عندي مساحة خاصة بيّا.
مبدئيًا، أنا نفسي لسه بحاول أفهمها، حاولت أفهمها لما وقّفت، لأنها مكنتش واضحة جوّا دماغي وهيَّ بتحصل. كان فيه حركة طول الوقت. فيه مشهد موسيقي، مش هقول إنه كان جديد تمامًا لإنه دايمًا كان موجود، بس أعتقد على نطاق أضيق شوية. هو دلوقتي موجود بس على نطاق أوسع شوية لأن فيه حاجات بتحصل في الشارع مساعدة الطاقة دي كلها تطلع وطاقات الناس دي كلها تتجمع.
كان فيه مزيكاتية إنت بتقابلهم هنا وهناك، وفيه أماكن بتفتح في كل حتة لاستقبالهم. إحساس إنك عايز تقول حاجة، أو اللي بنسمعه – إنتاج اللي بنعيشه – مكنش مناسب أو مش كافي. بحاول أفتكر فعلًا إحساس اللحظة ساعتها، دا عدّى عليه حوالي اتناشر سنة، اللي هو ماضي الماضي.
اللي حاسه دلوقتي، ودا على العكس من زمان، إنّي مش سامع اللي شايفاه عينيا. كان فيه مُوود إن إحنا بنحاول نطلّع حاجة إيجابية بالعافية، ممكن يكون دا كان مهم، بس كان فيه حاجات أهم، زي الغضب، وكان سهل إننا نقدر نوجّه الغضب دا تجاه شيء واضح.
حاجة إنت شايفها قدامك هنوجه غضبنا كلنا تجاهها. دا بدأ يبان لي بعدين.
ما اعرفش. في الأول، كان فيه طاقة إن إحنا شباب الثورة الجميل، عارف، اللي هم الناس المحترمة اللي بيلخّصوا اللي حصل في إطار محترم أو مفهوم على الأقل. زي مثلًا: إحنا فهمناكو، قصدي إن كلنا على بعض فهمنا دا إيه. لكني كنت حاسس إن لأ، محدش فاهم دا إيه، مش بقول إني كنت فاهم دا إيه، لإن محدش فاهم دا إيه أصلًا.
حسّيت إن الصوت اللي ظاهر طالع في قالب. دا ما كانش منطقي بالنسبة لي. على الأقل فيه حاجات بشوفها قدامي من المشاركات ومن وجودنا في الشارع لاحتياجات معنية إن لأ: الموضوع مش كدا بس. ومن هنا حسيت إنه منطقي جدًا إن مشروع علي طالباب يطلع من اللي كان بيحصل. بقولك دا عن حاجة بحاول أفهمها لسه بعد اتناشر سنة.
دا التصوّر اللي حاسه أقرب شيء للي حصل جوّا دماغي. في لحظتها كان أكشن ورا أكشن؛ بنزل أشوف حاجة فسجّل إحساسها على طول. كان عندنا إيمان بإحساس الشيء، دا اللي بيقودنا؛ إن فيه إحساس ما، حتى لو مش عارف أعبّر عنه مية في المية بالكلام الصح، بس في زِعِيقة محتاجة تخرج. الزِعيقة، فيه كام شخص فهمها عشان شافوا نفس الشيء. دا كان كل الفترة دي.
قط أسود ظهر في المتأخّر خالص. بالنسبة لي، هو غير طالباب، لأني بشوفه كارت جوكر. دا فهمته متأخر. اللي إنت بتحكيه حوالين الأندرجراوند كان أكتر ناحية طالباب. الأندرجراوند، عندي، عقلية إنت إزاي بتفكر في مكان حُر تقدر تعمل فيه اللي انت عايزه، تقدر تكسر تابوهات وتجرّب حاجات؛ مقابل إنك موجود وظاهر وبتلعب بالأصوات النمطية لحد ما، مش قصدي نمطية نمطية حتى وإن جددت، بس هي هتجدد في إطار مفهوم أو مبلوع أو في إطار أصلًا.
إنما وجودك في حتة تخلق منها مع مجموعة حوالي خمسة ولا تمانية بني آدمين بيلعبوا مزيكا مريح ليك، مش اللي هو اسمعونا يا جماعة، لأ، بس اللي هيلاقينا – إحنا قاعدين في الركن – ممكن يحس معانا حاجة. هو مساحة تقدر تعبر منها بحرية مطلقة، غير خاضع لأي إطار محتاج حد يحطّك فيه.
الأندرجراوند بالنسبة لمشروع طالباب، مساحة مستخبية شوية عشان يعمل حاجات صح شوية وغلط شوية، فاهم إزاي، لكنها مش مكان محكوم. إنت لما بتطلع في الحتة الباينة بتكون في مكان محكوم جدًا. هتكون مضطر طول الوقت تتعامل مع اللي انت ممكن تكون ضدّه.
ما كنتش عايز الحفلات تكون من غير فلوس. فاهم إنها جزء مهم من عملية إنتاج المزيكا، بس هي جزء مهم، مش الغاية منه. دي الفكرة كلها. إنت مش بتعمل دا عشان الفلوس. إحنا كنا عايزين نقول من غير ما نبُصلها كغاية. خُد بالك إننا وقتها كنا لسة طلاب في الجامعة، فكان عندنا مساحة وطاقة إننا نعمل حاجة، وإن الدنيا لسه مش جاية علينا جامد.
عندنا المساحة وقادرين نقول ونفكر في الأسئلة دي كلها، إيه دور الفلوس في العملية الإنتاجية؟ إن في مجموعة ناس بتساعدني أسجل هنا وهناك. أنا محتاج سماعة، فأرفع تلفون فحد يجيب لي سماعته. فيه الداينمكس دي. هي نوع من أنواع الفلوس، بس مش فلوس ورق، كان فيه قيمة ما الناس فهماها مع بعض. فموجود إننا نساعد بعض لشيء ما كلنا بنحاول نعبر عنه. إننا قادرين نعمل حفلة مش هنكسب منها وممكن نخسر بسببها، بس عادي.
مكنش الغرض إننا نكسب مية في المية. لكن عنصر المادة وقف قصاد استمراريتنا. كمان بقيت في لحظة زمنية بتقولي: “يا علي إنت محتاج تعمل فلوس عشان تاكل وتشرب وتلعب مزيكا باعتبارها هواية على الأقل.” بس احنا ما وقّفناش عشان مفيش فلوس بس – مع إنها لها دور – ولو هتكلم عن سين محدد كان موجود ومقدرش يستمر بنفسه لفترة دون الاعتماد على تمويل خارجي عشان السين يستمر، فـ دي أزمة طبعًا أدت لإن شيء ما يقول لحد إنت متلعبش ويقول لحد تاني إنت تلعب بكل عنجهية.
متفق معاك، خصوصًا في اللعب مع المنظومة. كان فيه طاقة مش مترتب لها. دا اللي كان موجود، إني راجع من اشتباكات وعندنا حفلة أو رايحين نسجّل. أتوماتيك دي كانت الطاقة اللي مكانش عندنا كنترول عليها.
علشان ناكل جاي من حتة تانية خالص، في مشروع ملفّات مع ديجيت، بعد مناقشات وقعدات كتير بدأنا نشوف الحاجات بشكل مختلف. إحساسنا وقتها مش عايز أسمّيه انهزام، لكنه كان قبول، فكان في كدا نَفَس معصلج. إنما المنظومة كان كله بُصوا هنا وبُصوا هنا وبُصوا هنا. إنت بتشاور لشخص عشان تقوله القصة دي موجودة.
حاسس المنظومة كانت بتعمل دا. إنما علشان ناكل كأننا بنقول متبصوش خالص عشان مفيش حاجة تبُصوا عليها، عملناه من المنطق دا، عشان مفيش حاجة خالص فإحنا هناكل، بس بشكل ساخر. خُد بالك، حتى المنطق دا مش بجد، دا ضحك.
أكيد أكيد. لعلمك، الحقيقة إن الوقت اللي المنظومة بالأخص كان شغال فيها هي حقيقة مختلفة تمامًا عن اللي موجودة في السين من ٢٠١٦ وما بعدها. في رأيي، المنظومة كانت انعكاس للحظة اللي كنا بنعيشها وقتها وهتحس دا في إيه بعد البؤس ده، زي ما السين دلوقتي بيعكس اللحظة الحالية.
دا تم استئصاله ولا لأ فتمام ممكن اتفق معاك، مع العلم إن الحقيقة دلوقتي أنا مش جزء منها. باختصار، المساحة اللي كانت موجودة خلال صناعة المنظومة وملفّات مبقتش موجودة دلوقتي.
أنا شايف عكسك. شايف السلطة قدرت تغيرها بإنها سيطرت على المساحات اللي احنا نقدر نتكلم منها. المساحات نفسها مبقتش موجودة بشكل حُر زي زمان. دا واضحة للكل مش محتاجة مناقشة. وإن فيه أفكار جديدة دلوقتي، وإن كان فيه إحساس بنجاة جماعية ما، حاليًا كله بيدور على الخلاص الفردي. إن فلان مثلًا هيبقى كويس لما يحقق الرقم إكس من الفلوس.
دا بقى اللي مسيطر أكتر، للأسف. إحنا حاولنا ننجو جماعيًا من الخرا دا كله، وإن كلنا نبقى في مكان كويس، لكن دا فشل ومبقاش حقيقي حتى. دا مبقاش حتى فيه خطوط واضحة له. الخط الجديد اللي بقى موجود إن إنت ممكن تبقى كويس – أيًا كان اللي هتعمله – بس هتبقى كويس لوحدك.
بالظبط، لعب قط أسود على ساوندكلاود مختلف عن اللعب القديم. بس خليني أقولك حاجة عن نقطتك الأوّلانية، فكرة الاعتزال والكلام دا. إحنا أُرهقنا جامد خلال الخمس ست سنين الأوّلانيين. كنا بنحاول نزق في حتة معينة، مع إن الخوف دايمًا إنك تكون في قالب؛ ودا أكتر حاجة كانت وما زلت بتخوفني. فاكر لحظة وضوح شيء زي دا ليّا، إني كنت بلعب في حفلة، السماعات مكنتش عالية كفاية، فاللي هو أنا بقول وتلاقي الناس بتقول قبل ما أنا أقول.
كانت حاجة بضان بيّنت لي إن فيه إعادة استهلاك للشيء، فاهم ازاي؟ اللي هو خلاص أنا عرفتك. دايمًا فيه خوف من القالب، مع إنه أحيانًا بيكون مريح لبعض الفنانين. لكني حسيت إن المكان مش مريح لإني أعمل حاجة، كان مهم آخد خطوة ورا. اللي هو تمام، المشروع دا خلص، واضح جدًا إنه خلص. واضح كمان إن طاقتي كمان خلصت.
أُرهقتُ من أننا عايزين نقول بس الدنيا مش مساعدة. اعتبرته فصام في الشخصية، لإني طالع على المسرح بقول حاجات معينة، وفي حياتي برّا المسرح، حياة تانية ملهاش علاقة بالمسرح. فيه كذا جانب، الحياة كمان. أنا محتاج أريّح، أنا بعمل إيه في حياتي؟ عشان أفهم اللي دار في الخمس ست سنين دول.
قعدت بعدها سنتين تلاتة بحاول أفهم، هو إيه اللي حصل. قط أسود طلع من الفترة دي، في أواخرها. طلع بشكل عفوي. قط أسود ككاركتير موجود دايمًا بشكل كوميدي في التراكات. قلتلك، زي جوكر. فأوكيه، قط أسود هو الموجود دلوقتي. زي النكتة، صعب تقولبها. هو جوّا دماغي على الأقل كاركتير مش معلب، لا في صوت ولا في كلام. هو هروب من اللي فات بصوت تاني جديد.
بطلت عشان أرهقت بكل بساطة. مكنتش شايف أي خط غير القالب. إرهاق من إن مفيش حاجة هتعملها تاني غير أنك تكون كاركتير لشخصية طالباب بس. قلت للكلام دا شكرًا، تمام. قلت اللي عايزه بالكاركتير دا. حسيت إن مفيش حاجة ممكن أقولها تاني هنا. كنت عايز أسيبه، وحرفيًا سبته. سبت القاهرة، روحت مكان تاني. غيرت كل حاجة، غيرت المكان اللي هعيش فيه. اشتغلت شغلانة تانية. فأكيد حياتي هتديني حاجة تانية.
اللي هعبر عنه هيبقى حقيقة مختلفة، اللي عايشها، بالتأكيد مش نفس الحقيقة اللي حد سمع مشروع طالباب فهمها. ممكن الناس فاهميني أنا ككاركتر، اللي هو عمل دا وبعدها عمل دا. بس قط أسود معندوش ناس تشاركه اللي بيعمله. عكس طالباب في المنظومة أو ملفّات، كان عنده ناس تشاركه نفس الحقيقة. إنما قط أسود هو حاجة عني أنا. بحاول أتعاطى مع مشاكلي عشان أفهم أنا بفكر إزاي. بحاول أفهم أنا بحب دا ليه أو العكس ليه.
يمكن لسه موصلتش للتعبير الكافي عن قط أسود، بالنسبة لي دا محمّس. مخليني قادر لسه وعندي طاقة أجرب والعب مزيكا واكتب. دا اللي بحس إني مبسوط لما بعمله وإن حياتي كويسة. إني أكتب عن حياتي الملخبطة بسبب سحلة شغل أسبوعين ووقوعي في مكان وحش، اللي هيخرجني منه إني أشغّل الميكروفون وأسجل. كدا تمام. حتى الآن بتعامل مع قط أسود إنه مشروع بطلّع فيه الحتة دي من جوّايا. حاسس إن لسه عنده حاجات تانية يقدر يعملها، يمكن لسه مش باينة دلوقتي، لكنها بتظهر واحدة واحدة.
أوتوماتيك قط أسود خلاني أتعامل مع حاجات مستخبية جوّا دماغي من زمان. مش دايمًا بتبقى فاهم اللي بتعمله غير لما بيخلص. يعني مش بقول: هعمل حاجة عن السلام المش عارف إيه. إنت بتعمل الحاجة وبعدها تسأل نفسك: أنا كنت بعمل إيه هنا؟ فتبدأ تفهم.
ككتابة أكيد أسلوبي اتغير كتير. زمان، كنت بكتب عشان عايز أقول حاجة، فاقعد أكتب. دلوقتي بقعد مع كام حاجة، بشغل الميكروفون واسجل اللي عايز اقوله، بحطه على الساوندكلاود، بعدها بقفل. دا ممكن ياخد حوالي أربع ساعات، قبلها بكون عايش حالة بقالها أسبوعين مثلًا. المختلف إني بطلت أبني حاجة من الأول للآخر. ممكن أسمع حاجات كتيرة فتدخل جوّا دماغي وهكذا. بس في الآخر بتيجي اللحظة: بفتح الأجهزة، بسجل، ساوندكلاود، بقفل. دا قط أسود عندي، مشروع عفوي وحُر أكتر من طالباب.
أنا مش ضد طالباب أو قط أسود، ولا هما ضد بعض. قط أسود لما ظهر كان محاولة للهروب من إن طالباب يتحول إلى ميم. إن خلاص الموضوع دا اتقولب تمامًا، لدرجة بقى صعب تنتج منه تاني. حسيت إن خلاص، الخط دا لو فضلت ماشي فيه مش هعرف أنتج بحرية. فـ قط أسود مش ضده، بالعكس هو إعادة إحياء لإني أقدر أنتج تاني بحرية. أقدر أتعامل مع مواضيع أكتر. يمكن أعيد المواضيع القديمة لإن رأيي اتغير فيها. بقى عندي الحرية دي معاه دلوقتي. طالباب ساعتها بدأ يكون دوجما؛ اللي هو عارفين هيقول إيه وهيعبّر عنه إزاي ونظرته للحاجات إيه.
إنما قط أسود ملوش معنى، بالنسبة للمنطق دا. بتخيّل اللي سامع قط أسود بيقول: آه، إنت بتعبّط شوية، تمام، أتمنى تفوّق. أنا بني آدم، لو قلت حاجة من عشر سنين، فهل أنا مضطر أفضل متمسك بيها لحد النهاردة؟ مشروع طالباب – خلاص – بقى له منطق. قط أسود، لأ، يمكن عشان متعرفش بشكل كافي، بالتالي فهو حُر.
لما مشيت من مصر كان في راسي ألاقي جلد جديد لنفسي يفهمني اللي فات بشكل أحسن. الحاجات لما بدأت كنت حوالي عشرين أو واحد وعشرين سنة. فجأة بقى عندي خمسة ستة وعشرين سنة. جزء كبير من عشريناتي قضيته وأنا بتحرك من غير ما اكون بفكر في اللي بيحصل حواليا.
كنت محتاج مساحة السفر واشوف حقيقة جديدة تساعدني على فهم الماضي، واحتك مع مشاكلي الجديدة اللي بتواجهني في المجر مثلًا. كمان السيستم اللي كان موجود كان سهل إنك تنطحه. بس أول ما الحاجات دي كلها اختفت وانت في مكان جديد تمامًا، مفيش حد حواليك، بيظهرلك أصل المشاكل كلها، إن مفيش حاجة اتغيرت. فتقول: يمكن مكنش مية في المية دا، يمكن كنت محتاج مساحة أشوف حاجات أكتر.
دا اللي عملته لما سافرت، درست واشتغلت وكذا وكذا من الناحية الحياتية، ومن الناحية التانية قعدت مع نفسي دون دوشة، عشان أشوف مشاكلي معاها عاملة إزاي، عشان اقدر اعبر عنها. اللي بقيت بسمعه كمزيكا وكأصوات حواليا مختلف عن ما كنت عايش في فيصل، حتى نوع المشاكل مختلف. بالتالي اللي قط أسود بيتعامل معاه مختلف عن اللي طالباب اتعامل معاه أيام المنظومة وملفات. دا ممكن يكون مش كل الناس فهمّاه، مش عشان دا شيء معقد، لأ، دا لأنها مشاكل تانية، مشاركتهاش مع الكل. فيه خصوصية في تجربة قط أسود.
في بداية التجربة كانت المزيكا هي الحركة الأولى وفضلت اشتغلها شوية. قلت خليني أعمل دا، ما كدا كدا أنا بحب المزيكا. عملت ساعتها كام تراك، سمتهم تمارين، وحسيت إني عايز أقول. دا بدأ يظهرلي شوية شوية، في يس وملايكة واوتسا، لحد ما هم جريو عشان جبن يا يس. بقيت عايز اتعامل مع الجزء دا من حياتي، الماضي.
آخر إي بي عملته قبل ما امشي كان وحوش بدون أسامي، رفعته في مطار القاهرة. هو باين من اسمه إيه مشكلتي مع الحوارات دي كلها، القالب. إنه وحوش بدون أسامي، فاهم؟ بيطاردوك وملهمش اسم، مع إن الاسم هو القالب. المشروع كان بيعبر عن اللي بحكيلك عنه دلوقتي. كان في يونيفورم ١و٢ ومتوسخين وضيق ومش هتمدوا إيدكم على فلوسنا.
لو ركزت، هتلاقيني بستخدم ضمير المتكلم، فلوسنا، باعتبارها مجاز لروحنا، كأن الروح والفلوس بقوا حاجة واحدة، فمش هتاخدوا روحنا. وضمير الغائب، إيدكم، عشان هم بيفهموا الفلوس بس، عشان كدا مش هتمدوا إيدكم على فلوسنا، لأنها اللغة السهلة.
كنت مهتم ساعتها أني أطلّعه قبل ما اسافر، عشان الفكرة مستويّة جوّا دماغي. لما أرفعه في المطار، بالنسبة لي، كأني بقول شكرًا لهذا الفصل من الحياة، عشان أشوف حياتي هتجيب إيه تاني. لكن القعدة مع نفسك والنظر جواها عشان تعرفها بشكل أفضل متعب. وانت لوحدك بتعرف نفسك بعين تانية. آه، بتحس إنك بتعمل الحاجة بشكل معين عشان تقول بيها حاجة ما مع الماضي دا، ودا صعب ومزعج في مكان جديد، قصدي إنه أخد معايا وقت.
أنا قعدت سنتين تلاتة مبعملش حاجة، بعدها على استحياء شوية مزيكا تاني. طب إيه دا، ما ممكن. فجأة، أنا عايز أقول، في ملايكة التسجيل الأول. الحاجات لوحدها بدأت تطلع تاني. بس كان في الأساس إني عايز آخد شوية وقت. كان عندي إحساس إني مش عايز أعمل دا تاني، اللي هو خلاص، كدا تمام من اللعب، هشوف حاجة تانية. لكن لقيت الدنيا اللي عايشها بتقولي: “لأ يا معلم. كسم اللي فات. قول تاني. إنت مش محتاج تفضل مسجون هناك.”
اللحظة الحالية في مصر ما اعرفش عنها حاجة، عشان مش عايشها. في لحظة قبلها، كنت عايشها، فقدرت أعبّر عنها. لغتي كانت عاملة ازاي؟ حاسسها عادية. لما حد بيقولي إنت قلت ليه بالفصحى، بيكون ردّي: لأ، متفرقش بين الفصحى والعامية ما هُمَّ امتداد لبعض. استخدامي للغة بالشكل دا جاي من القراءة.
فيه كلمة هنا علّقت معايا فلما جيت أكتب لقيتني بعبّر بيها. المصطلحات أو غيرها جاي من اللحظة اللي عشناها. دي الطريقة اللي بتكلم وبفكر بيها، مش شايف إني حاولت أعبّر عن اللي بقوله بطريقة محددة، هي حصلت كدا. بالعكس، شايف إني لازم أكون بعمل الحاجات باللغة اللي الناس بتستخدمها. دي حاجة بحسها مهمة جدًا.
طبعًا لو انت بعيد عن دا هيبقى صعب توصل للناس. مفتكرش في أيام طالباب إن اللغة كنت بدّيلها مساحة معينة. القصة كلها إن الكلمة كذا الفصحى هي أفضل كلمة تعبّر عن اللي عايزه – عشان كدا اتقالت – بعدها جبت كلمة عامية لنفس السبب.
إيه المشكلة إني أتكلم في الاقتصادي؟ لو بتسألني نقدر نعبّر عن أفكار شبيهة للأفكار دي ازاي دلوقتي؟ كدا عايزين نتكلم عن المجال العام والحريات في مصر. قصدي إن إيه المساحة اللي كانت عندي في الوقت دا، بعدها نسأل: هل هي موجودة دلوقتي ولا لأ؟ إحنا وقتها كنا لسه بنكتشف الحاجات كلها، اللي هي خرجت من حياتنا. موضوع الطبقات اللي بتعيشه مصر، دي حاجة واضحة جدًا قدامك وقدامي وقدام كل الناس، بنعيشها كل يوم. اللحظة ساعدتنا إننا نقدر نشاور عليها، مع إنها موجودة من بدري وتقريبًا لسه مكملة، دا مجاش من اللا-شيء.
دلوقتي معتقدش إن نفس المساحة موجودة، إنك تعبر عن الحاجات أو تفككها قصاد الناس. لكن بالتأكيد ممكن تعبر عنها، عشان هي حاجة حقيقية. ممكن تلاقي خطوطها في اللي موجود، لو دورت عليه. أكيد بيتقال، لكن بلغة تانية، في المهرجانات مثلًا. الخط دا باين، بيتقال وسط الكلام، ممكن مش راديكاليين زي ق، بس بيقولوا باللغة اللي بيقولوا بيها.
في رأيي، لغتي متنضفة شوية مقارنةً باللي قالوه في المهرجانات، بس في الأخير الحقيقة اتقالت. إحنا مؤمنين إن طالما الشيء حقيقي – سواء سلبي أو إيجابي – هتلاقي انعكاسه في الفنون بلغاتها. فاللي بيتعمل هو بالضرورة نتاج الموجود.
آه، بيقول من الحقيقة اللي موجودة قصاده، الرابرز بيتكلموا في حقيقة ما بيعيشوها. عشان الحاجة تبقى بتتسمع – فعلًا – لازم تقول الحقيقة، غير لو فيه منتج بكرش غني قاعد بيقول: إنت يلا إكتب حاجة بتقول كدا كدا. ممكن المشهد دا يحصل، بس الإنتاج دا مش هيعيش لأنه كليشيه، مش هيكون له صدى عند الناس لأنه غير منطقي.
طبعًا دا ما ينفيش إن المزيكا الشعبية الشايعة popular جزء كبير منها بقى معمول. هي مش شعبي، لكنها اتعملت واتزقت عشان تبقى شعبي. هي حواليك طول الوقت في كل حتة. تراب أو أيًا كان الإطار اللي هتاخده، بالنسبة للبعض بقى دا الحلو. بقى فيه آلة ما محتاجة تزق صوت معين، في الوقت نفسه، الصوت دا ممكن يكون ملمّس مع الناس مع شيء حقيقي. هو مش شرط دا أو دا، ممكن يبقى في الوسط؛ التوليفة. لكن جزء من الشيء الشعبي، تاني بمعنى شايعة، لازم يعكس شيء موجود في الشارع. شيء شعبي بجد.
ما بسمعوش، بالنسبة لي هو حاجة خلصت. هو موجود على النت. تاني، عشان فكرة القولبة، كان مهم إني مكنش موجود على أي منصة. أي صفحات أو تشانلز ليها علاقة بمشروع طالباب شيلت نفسي منها. هي حاجة عملتها في وقت ما ولمّست مع ناس وما لمّستش مع ناس تانية. الشباب يُشكروا، عشري وإبراهيم وإسلام عبد العظيم، أرشفوا اللعب القديم من حفلات لايف أو تسجيلات وحطوها على أرشيف طالباب على ساوندكلاود. غير كدا محاولتش أجمّع اللعب، عشان تجميعه وتقديمه كأني عايز أقول حاجة بترتيبه، وانا مش عايز كدا، على اللي فات على الأقل.
ممكن غيري يشوف فيه قيّمة ما فيحاول يحكي منه حاجة. لكنه خرج من عندي، فخلاص مبقاش بتاعي. ساعات حد يبعتلي يقولي عايز استخدم التراك دا في كذا، فأقوله: “تمام يا عم، براحتك. ليه بتسألني؟ متسألنيش.”
مسحول مع عيلتي لأني مديون لهم بحاجات مقدرش أحقّقها عن طريق المزيكا. المزيكا، اللي تخص الناس، بلعب مع قط أسود. دلوقتي، أول مرة أحسه مشروع بجد، لما اتكلمنا عنه. كنت بشوفه أقرب لـ فري فورم. في سنة ٢٠٢٢، بدأ يبان لي إن ممكن أقول فيه حاجة، لما بدأ هو يتفاعل معايا ويساعدني أخرّجه.
أتمنى أقدر أكتب إي بي أطفال، دا في بالي من كذا سنة، وحاسسني محتاجه. تقريبًا، أنا وهاشم [ديجيت] فكّرنا فيه زمان وضحكنا، لكني حاسس إن دا بدأ يوضح لي بشكل أفضل وممكن يكون حاجة كويسة لي، إني أكتب كلام يغنّيه الأطفال.
الحق أقول: قَدّم صديقي مصطفى سعيد دعمًا كبيرًا في بلورة الأسئلة جوّا نفوخي، فلولاه مكنتش حاورت وأنجزت تلك المقابلة، لهذا أشكره وأُحييه.