.
أجرى المقابلة: شارل عقل وأحمد الزعتري
استهلكنا أكثر من ساعة في التاكسي من ميدان التحرير إلى الدقّي: وهي مسافة يمكن إنجازها مشياً في أقل من نصف ساعة. يمزح سائق التاكسي قائلاً إن “مصر كلّها نزلت الشّارع اليوم“، مذكّراً بالنّكتة التي تم تداولها أثناء حظر التجوّل في الفترة المبكّرة بعد ثورة ٢٥: “كل النّاس نزلت تتفرّج على حظر التجوّل“. قبل أن يأتينا الخبر في الرّاديو: إصابة ١٦ بالاختناق من التكدّس في محطّة السّادات جرّاء تعطّل المترو.
نصل إلى المنزل، حيث اتّفقنا مع علي طالباب لإجراء الحوار حول إعلان اعتزاله بشكل أساسيّ، منهكين من الحرّ والضجّة التي تستمر في الخلفيّة طيلة الوقت. تستهلك الضجّة في القاهرة جزءاً كبيراً من الأعصاب، لدرجة تشعر معها أنّك متورّط في صنعها لمجرّد أنّك بدّلت من موضع قدميك على الأرض، أو: تشعرك بالتغريب لأنّك تترقّب انفجاراً سيصدر عن هذه الهمهمة القلقة الدائمة– ولا يحدث. يتسلّل علي طالباب من هذه المعضلة بالضّبط: بمثاليّته التي تكاد أن تكون تطهيريّة، وادّعائه لتمثيل الشّارع بلغة لا يتكلّمها الشّارع، غاضباً من كل شيء وعلى كل شيء: الفقر، الحب، الفساد، الاستهلاك. مصمّماً على التنكيل باللغة الشعريّة التي لا مكان لها في هذا الضجيج الذي يساهم فيه، ويغرّبه في نفس الوقت.
إذ بدأ مشروع طالباب وانتهى (؟) في نفس الموقع. فحتّى الآن، لا يعتبر أنّه موسيقيّ بالمعنى التقليدي على الأقل. فهو، كما يقول: “يتكلّم على خلفيّة موسيقيّة” عن كل شيء في نفس الوقت من دون أيّ أدنى إحساس بالتخلّي عن الجديّة التي توحي بهذه المثاليّة. وهذا ما يفسّر كلام أغنية مثل العفن: “إيه هي السّعادة؟ تشرب فودافون، تكلّم كوكا كولا، وتصاحب بنت حلوة، دماغها فاهمة في الكورة“
يصل علي متأخّراً عن الموعد بأكثر من ساعتين، معتذراً بأدب هائل، مخبراً إيّانا عن الصّديق الذي ساعده في مشروع تخرّجه من الجامعة، والذي أقلّه من مدينة ٦ أكتوبر ٣٨ كيلو متر غرب القاهرة، لتتعطّل سيّارته، ويضطّر، أدباً، للبقاء معه حتى إصلاحها. وعندما يبدأ الحوار، يتكلّم، بمزيج من المرارة والحنق، بصراحة نادرة وجدنا بعدها أنفسنا أمام معضلة مهنيّة كبيرة في بعض أجزاء الحوار: هل ننشرها؟ لا يترك علي المجال لهذا التساؤل، منهياً الجلسة فجأة بعد انتهاء الحوار، خارجاً من الباب بنفس الأدب، لنكتشف أنّنا أمام شخص يتملّكه وعي شديد لدوره ومكانه يتركه قلقاً أمام كل ذلك التشويش اليومي. وما الاعتزال إلا وجه من أوجه هذا القلق الذي يظهر تارةً على شكل التزام سياسيّ، وأخرى بشكل رفض منظومة التسليع الموسيقيّ، والشّكل الحقيقيّ الذي ينسف الطابع الإغريقيّ للاعتزال من خلال اصطفافه مع جميع الباحثين عن فرص أفضل.
علي: لم أكن أتعامل مع الموسيقى التي أنتجها على أساس أنّني فقط أقوم بتسجيل أغانٍ وأنشرها على الانترنت وفقط. الموضوع كان قالب معايا بأفورة نفسه. ووجدت أن الموضوع أصبح ثقيلاً جدّاً علي، حتّى أنّني كنت أتثاقل من فكرة أن يكون لديّ عرض. هذا جزء …
علي: ليس من البداية، بل بدأ يزيد مع الوقت، إذ بدأت أرى الجانب الثاني من الصناعة: فأنت لست مجرّد شخص يكتب الأغاني ويسجّلها وينشرها على الانترنت ويتفاعل مع الناس، بل أصبح الأمر أوسع من ذلك بكثير. كالعمل على الألبوم، وفكرة الترويج لنفسك، والتكلّم مع فلان، وإرسال لعلان، ثم مقابلة آخر، وهكذا أصبح الموضوع يتّخذ شكلاً آخر ويتحوّل إلى سلعة. كنت أحاول الابتعاد عن الموضوع وأحاربه. بينما لولا ما حدث في 2011 الثورة لم يكن لأحد أن يستمع إلي بهذا الشكل رغم أنّني كنت ألعب من ٢٠٠٧. لذلك أشعر إنّه عيب لو ظهرت في إعلان هيد آند شولدرز مثلاً.
علي: لأنّه جاءني عرض لإعلان من فورد. لم أفهم وقتها ليه فورد في السعودية تجيبلي أنا إعلان. مثال آخر: تواصل معي شخص ادّعى أنّه لديه عرض عمل في شركة من شركات التوظيف. لأكتشف أنّه يريد أن أغنّي له كلاماً كتبه هو لخطيبته لأنّها تحبّني، عارضاً عليّ “اللي إنت عايز تطلبه“. الموضوع تحوّل إلى بضان، خاصّة عندما يدخل عنصر المادة في الموضوع وهنا يصرح طالباب بسبب آخر للاعتزال يسرده كنتيجة حتميّة للسبب الأول- ولكنّه سبب آخر. فلو عرفت أن توازن بين ما تلعبه وبين معرفتك لأي حد تريد أن تلعبه، وطالما اتّخذت جانباً موسيقيّاً معيّناً، فمن الصعب أن تتخلّى عنه. فهتعيش منين يا معلّم؟ إحنا بالعافية يا دوبك بنعمل فلوس الحفلة اللي بتقعّدنا بعد الحفلة أسبوعين مبسوطين، بعد كدا؟ إيه تاني؟ وبعدين؟ طبعاً إلى جانب الأحوال من حولك.
رغم ذلك، أنا لا أعتبر نفسي موسيقيّاً بالمفهوم التقليديّ، إذ الآن فقط أحاول فهم المقامات الموسيقيّة. الموسيقى كانت بالنسبة لي في البداية احتكاك، ثم أكتب بالورقة والقلم وأسجّل وفقط. لاحقاً بدأ الموضوع يأخذ زخماً مأفور عند الناس. وتلك الطاقة التي تخرج من عبارة “علي هيقول إيه في الأغنية الجاية“؟ يعني إيه البضان دا؟ وبعدين الكلام بتاعك بقى يتاخد يتعمل منه تيشيرتات. يعني جو بضان.
علي: لا أعرف. شعرت أنّه كذلك. تعرف عندما تقوم بإنتاج منتج يخصّك، ثم تنشرها للناس فتكرهها. يعني مثلاً أغنية زي الكمال مستحيل أن أسمعها الآن لأنّها أصبحت مستهلكة جدّاً. في وقتها كنت أشعر بأن هذا الكلام حقيقيّ جدّاً. لكن الآن عندما أسمعها بقول: إيه الخرا دا اللي بيتقال؟
علي: (مقاطعاً) ما هو الخوف من كدا، أنت تريد أن تحتوي حاجتك كدا للآخر. بعد ذلك ستفقد السيطرة على إنتاجك، وبدأ الموضوع يؤثّر على أدائي كآخر عرض لي مثلاً عندما لعبت في افتتاحيّة لعرض شواكيش لـ رامي أبادير. فأثناء العرض، جلس أمامي أحد الحضور عاملّي كدا ينظر بتجهّم واضعاً ذقنه على يده مقلّداً من كان ينظر له من الجمهور ومبضون جدّاً، إلى درجة أنّه أثّر بأدائي وبدأت بالتساؤل لأن حتّى الإيغو اللي عندك بتزيد مع الوقت. أنّك تدخل على الانترنت ولا تعمل شيئاً إلّا أن ترد على الناس وتفتح أمامك نوافذ بحث عن اسمك لتقرأ ماذا تقول الناس عنك. فتخيّل أن تكتب كلام أغنية وببالك كل هذا. في البداية كان الشّخص يكتب ما يريده هو بالضبط، أمّا الآن أكتب وأفكر: “هو الـline دا هيقولوا عليّا صايع لو أنا كتبته ولا لأ“؟ معرفش هو الأفورة من عندي أنا عارف، بس كنت بحس أن الموضوع حقيقي فشخ في الأوّل.
مثلاً المقطوعة التي أنتجناها في المنظومة تحت اسم حركة، في الوقت الذي كنّا نواجه فيه مشاكل بيننا، وبدأ كل عضو يريد أن يتأمّل في خياراته، لذلك توقّفنا قليلاً. بعد ذلك أنجزت ألبوم عشان ناكل، وعدت وكان الجميع يريد أن يعود إلى المنظومة. فرجعت عملت إيه؟ عملت تراك اسمه حركة: تراك سياسي سطحي بطريقة سيئة، عشان إنت لازم يا علي تكتب دلوقتي حالاً أغنية تقول فيها المنظومة هترجع، وهترجع بأنهي شكل، اللي هو الشكل اللي الناس حطتهم فيها. أنا عمري ما حطيت نفسي في قالب سياسي.
علي: كنت أعرف ذلك، لكنّني ألعب في أماكن أخرى كثيرة. لذلك أنجزت أغنية أو اثنتان خارج القالب السياسي، أو على الأقل من دون تبنّي فكرة سياسيّة معيّنة، وهو كلام شارع في النهاية. إذ كل ما أكتبه في المقاهي: بلقط كلمة من هنا حد بيقولها، بتتحط. لذلك بدت حركة وكأنّها تتّخذ خطاً سياسيّاً بضان، حتّى أنّها تلقّت نفس التعليقات. ففي الوقت هذا تشعر بأنّه لا يوجد جديد، ولا ما تقدّمه جديد لإنّه لا من جديد يمكنك تقديمه في هذه العلبة. لذلك كان يجب التوقّف عن كل ذلك للخروج بالجديد.
علي: في هذه المرحلة أكرهه جدّاً. عندما أستمع إلى عشان ناكل أسأل نفسي كيف أتتنا الجرأة لإنجاز ألبوم مثل هذا وننشره أصلاً بهذا الاستهتار على مستوى التقنيّة والمحتوى. كتبنا وأنتجنا الموسيقى وسجّلنا هذا الألبوم في أسبوع فقط: مين بيعمل كدا؟ قعدنا يوم مع هاشم: “الـ beat دا إيه رأيك فيه“؟ “تمام“. “الـ beat ده إيه“؟ “تمام“. “يالله هاتهم“. ممكن أن أرضى عن أغنيتين أو ثلاث، لكن كان من الممكن أن يكون الباقي أفضل بكثير. المشكلة أنّنا قدّمنا على منحة من المورد الثقافي، وللمفاجأة حصلنا عليها. وكنّا قد طلبنا المنحة أيضاً لتغطّي مصاريف سفر وأدرجنا مواعيد للسفر، فاكتشفنا أنّنا يجب أن ننتج ألبوماً. الناس بتعمل ألبوم فتسافر، إحنا جبنا السّفر فلازم نعمل ألبوم. فقد إيه الموضوع بقى معاق، بقى شيء مشوّه.
علي: أفكّر بالموضوع بطريقة ماديّة جدّاً. أنت الآن بحاجة لأن تقف على قدميك. وبدأت أفكّر بأنّني درست هندسة بترول ولا أريد أن أضيّع ذلك. لذلك سأذهب في أيلول/ سبتمبر القادم للعمل في مدينة السّادات. مش عارف، هو الخوف بتاع إنت بتعمل إيه وهتعيش إزاي؟ وهتفضل طول حياتك بتطنطت عالمايكروفون. وهناك أمر آخر في الناس التي تسمعك ثم يكبروا عنك ويتركوك ويصبحون في مكان آخر. الموضوع مرعب جدّاً.
علي: الفكرة أنّه عندما تقال لك كلمة معيّنة لا تصدّقها، لكنّك تصدّق قائلها مع الوقت والتكرار. بينما تبدأ بمشاهدة أصحابك الذين منهم من يشتري سيّارات ومنهم من يخطب ومنهم يعمل في الخليج وآخر يقوم بتشطيب شقّته، وإنت، أحّا، مستني ٢٠٠ جنيه بعد الحفلة.
علي: كان إعلاناً يائساً، وكنت غاضباً جدّاً. حصلت في تلك الفترة صراعات داخل الفرقة، وصراعات مع أصدقاء المجال. وأردت أن أبقي على التعامل معهم كأصدقاء لا كفرص. لكن يأتيك من يتعامل معك كذلك ليتعامل معك كسلعة. مثل عرض الـ Greek Campus الذي وافقت عليه لأن منظّميه أصدقاء، بينما لم يوفوا بوعودهم، وهذا ما أثّر على الفرقة.
علي: كنت أحاول الهرب من انطباع “إنت بتاع الثورة“، متذكّراً كيف كان الجميع يحاول قولبتي في هذا الاتّجاه. لذلك أنجزت أغنية “مضاجعة الواقع” بـ ١٣ دقيقة حتّى أهرب من ذلك، ويشعر من كان يقول ذلك بثقل الأغنية لينساك. لن أقول بأن الأوضاع السياسيّة لا تعني لي شيئاً: فالوضع محبط جدّاً، خاصّة أنّك لا تملك شيئاً، الأغاني بقت مجرّد أغانٍ، وحتّى الرموز الثوريّة في الموسيقى قبلوا الظهور في البرنامج لمدّة ٥ دقائق: هيتسقفلك في برنامج ونملا بيك شويّة فراغ. بدأ الأمر يأخذ جانباً تافهاً جدّاً. طب إنت بتعمل إيه يا معلم، مزيكة إيه اللي بتعملها؟ طب المزيكا بتاعتك دي هتعمل إيه أصلاً بعد كدا؟ هو الخوف من الحتة بتاع إنت فنان ثوري وبتاع.
علي: لكن الثوري ليس سياسيّاً فقط. لست سعيداً مثلاً وأنا أقول أنّني بحاجة لأن أعمل في مصنع لأحصل على راتب ١٥٠٠ جنيه وأبقى هناك. لكنّني مضطّر لعمل ذلك لأسباب أخرى كثيرة: البيت والعائلة. النّقود أدخلتني في أزمة، إذ كنت أتديّن من المنزل حتّى أتدرّب أو للتسجيل. إضافة إلى أنّك تعيش في مشهد موسيقي قاهري يحتّم عليك نوعيّة حياة معيّنة. في آخر شهرين قبل الاعتزال كنت أعطي دروساً خصوصيّة، وهذا ما أريد أن أعمله: معايا فلوسي قادر أتحرّك وبقولك اتّاخد بمفهوم ثوري، أقصد إنه أنا شايف إن موضوع الشغل دا حاجة هتموّتني. أنا عندي خوف إن حياتي تنتهي تماماً. أنا دايما لما باجي أفكر في حوار أنا بطلت ده، بقول أحا يا علي إنت انتحرت. إنت موّت نفسك. دائماً ما أراها كذلك، أشعر أنّه ليس لدي خيار إلّا هذا.
علي: هذه هي النقطة بالضبط. عندما أكون مع أصدقائي من الجامعة أو المدرسة، يمكن لهم المزاح بشأن أي شي، لكن لو جم اتريقوا على حتة المزّيكا دا بيسيكبني من psychopath، اعتلال نفسي فشخ. أنا بحس الحتّة دي بيور جداً. معرفش ليه. أشعر أنّ الموسيقى هي أطهر شيء عملته في وقت ما من حياتي. فدائماً ما أفكّر في نتيجة عرض معيّن إذا قبلته، هل لمجرّد العرض فقط؟ هل بذلك أقوم بتلويث ما قمت به أو لا؟ ذلك الخوف من أنّك تريد المحافظة على ذلك الجزء نظيفاً دائماً.
علي: هذا ما حاولت إنجازه في عشان ناكل من خلال التطرّف الموسيقيّ مثلاً، وذلك بهدف كسر الصورة النمطيّة المتوقّعة منّي. أغنية “قتلت راجل النهاردة” مثلاً أنجزتها لهذا الغرض تحديداً. لكن في حفلة من الحفلات وأنا أقول “قتلت راجل النهاردة والإحساس كان جميل“، ظهر أحد الحضور ليقول “قتلت ضابط النهاردة والإحساس كان جميل“، ولعبته بعد ذلك كما قال.
علي: هو فعلاً يعجبني لجرأته، لكن كان من الممكن أن يكون أفضل من ذلك بكثير ويتطوّر عن ذلك. حتّى فكرة أنّك أصبحت متوقّعاً تخيفني قليلاً. حتى العروض أصبحت متوقّعة ومكرّرة. فعندنا يقال لي: الأمر يعود إليك في محاولة تغيير ذلك، أجيب بأن ذلك لم يحصل لأن الموسيقيين من حولك بدؤوا بالحكم على إنتاجك، وبدأ تأثيرهم يشبه تأثير ذلك الشّخص في الحفلة الأخيرة ولم أعد أعرف ألعب. مع أنّني لعبت الكثير من العروض، حتّى في عرض TEDxCairo أمام جمهور بعيد عنّي جداً وورائي شاشة تعرض تغريدات تشتمني، مع ذلك كنت سعيداً. فلماذا أثّر علي ذلك الشخص في الحفلة؟ وقتها شعرت أنّني خربت كليّاً. ومع أنّني وقتها كنت أشعر باليأس، إلّا أنّه كان يجب علي أخذ هذه الاستراحة والابتعاد كليّاً عن كل هذا.
علي: لم أكن أنظر إليها بهذا الشّكل. لكن أعتقد أنّه جزء من ثقافة الهيب هوب: تحتاج لأن تبقى موجوداً مع الشّارع طيلة الوقت. الهيب هوب البعيد عن الشّارع لا أشعر به، اللي هو راب “أنا جامد فشخ” وبتاع.
علي: الكلام بالمقام الأوّل، والموسيقى ثانياً. أتت علي أوقات أردت أن أنتج إيقاعاً بدائيّاً فقط من دون لحن. لكن في نفس الوقت الموسيقى بالنسبة لي هي أرض مشتركة بيني وبين الناس، لأنّ لو شخصاً تكلّم لمدّة ٥ دقائق الناس حتتضبن، بينما لو في لحن خفيف جميل يدلعّه الناس تتحمّله. ستروماي في هذه المجال عبقري جدّاً مثلاً. هو في النهاية يتحدّث في الأغنيّة، لكن على ثيمة ممتازة تبقى في أذنك. هذه هي الفكرة، وهذ ما حاولت عمله في ملفّات مع هاشم الكلش الذي كنت أريد أن يجرّب مع الموتيفات الموسيقيّة أكثر. لكنّني لا أعرف إذا أنجزنا ذلك أم لا. على العموم كنت أريد التجريب هنا حتّى يبدأ الكلام يقل قليلاً.
أمّا بالنسبة لتوقيت الأغاني مثل المنظومة ١٧٧٢ في زمن الإخوان، فجميع الناس بدأت بالتكّلم على الأخلاق وقرايبك بدؤوا يستشيخوا.
علي: أوكي، لكن الكلام كنت تقوله بكل عفوي أصلاً. إيه بعد البؤس دا مثلاً من الأغاني التي أنجزت بسهولة لدرجة أنّني لم أستهلك أكثر من نصف ساعة لكتابتها في المقهى وتسجيلها هناك: أرسلتها ليوسف ]أبو زيد[ وقلت له: “العب معاها غيتار“، ولاسماعيل سليط وقلت له: “العب عليها بيانو” وأنجزت في ساعتين أو ثلاثة. بينما “مضاجعة الواقع” استهلكت عدّة أسابيع. في النهاية لا أحب أن أصدّر نفسي على أنّني موسيقيّ، أنا واحد بيتكلم مش أكتر من كدا، بينما أنا “موسيقي” وأتحط في قوالب وكدا مش جوّي. ولا أعرف هل أنا خائف لأنّني لا أستطيع عمله، أو لا أريد عمله أصلاً؟ أو تكون لديك فرقة وتلعب أغنية “إنترو وفيرس وكورس“.
علي: عشان الناس تتقبّلك.
علي: ممكن، لكن القالب بالنسبة لي هو الأمر الذي يجلب لك النقود. في النهاية سيحترم من يتبنّى هذا الشّكل، لكن أنا ضد التعريف الموسيقي وأنا مش محترف. أنا بس لو متضايق عطلع حاجة لإني مبضون جداً. ومعنديش أزمة مع الموضوع أو تجاوزته. أنا بس كنت أحاول أفكس من تأثير الناس بالفترة الأخيرة. الموضوع معقّد.
علي: الهدف من هذه العيّنات استعادتها لإيقاظ أمور أخرى عند الناس. الشباب مثلاً لم يعرفوا نينا سيمون إلّا من إشارات رماها موسيقيّون آخرون، كما فعل كانيي ويست مثلاً. مرّت علي فترة كنت أجمّع فيها موسيقى الفرق المصريّة في الثمانينيّات، مثل Les Petites Chats، المصريين، طيبة، وأجواء مودي وإحسان الإمام وThe Black Coats لأنّني شعرت أن هذا الرّبط مهم، إذ كان هناك أشخاص يلعبون في ذات الناحية. فعندما يتلقّى الناس ما أعمله على أساس أنّه جديد: فلا يا معلّم جديدة بالنسبة لك بس.
علي: سأسافر إلى مدينة السّادات وأهدأ وأفكّر بماذا أريد عمله بالضبط. يمكن أن أبقى هناك، ولو أردتّ العودة للمشهد يجب أن تحمل عودتي أمراً مختلفاً تماماً.
علي: استطاع أبيوسف أن ينجح في ذلك، واستطاع المحافظة على حضوره، وفي نفس الوقت حماية نفسه من الاستهلاك. لا أعتقد أنّه يمكن استهلاك أبيوسف، يمكن عشان هو بيستهلك الإفيّات اللي ممكن تستهلكه أصلاً. وأي حاجة ليها باللي اسمه الحراك الثوري بالنسبة لي ماتت خلاص.
علي: أعتقد ذلك، لإنّه يمتلك عمله في وكالات الإعلانات. إضافة إلى أن إنتاجه لا يتأثّر بالسنوات، وهو ذاهب إلى مكان أفضل. لكن معظم تجارب الفرق المصريّة سقطت الآن كفرقة الريغي مشوار، لكنّهم تخرّجوا من الجامعة وكبروا وتوقّفوا. الموضوع صعب بدون ارتباطهم بالسوق، وقد إيه حتخلي السوق يأثر عليك.
علي: أيوا، عشان اللي كان بيحصل ساعدني يقصد الثّورة.
علي: كنت أشاهد الجمهور يكبر مع الوقت، وبدأت بالارتباط بهم والاعتماد عليهم بالترويج متفهّماً دورهم في ذلك. هناك مجموعة على الفيسبوك يسمّى شعب الأندرجراوند مهمّتهم دعم الموسيقيين وحضور حفلاتهم. أنظر إلى هذا الوعي. كنت أقول دائماً لديك رصيد عند الناس، والحفلة تستهلك هذا الرصيد، كأنّك تحشد لمظاهرة. نوعيّة عملي لا تستهلك أكثر من حفل في الشّهر لأنّني لست موسيقيّاً، بل أعتمد على هذا الرصيد. مثلاً في أول حفل لعبته في الجنينة تفاجأت جدّاً ولم أكن أتوقّع أن يحضر حفلي 400 شخص جاء كثير منهم بعد الانتهاء من الحفل للسلام عليّ والتصّور معي. بينما من كم شهر كنت بتحايل على أصحابي عشان يسمعوا الأغاني. معرفش ليه بس يمكن عشان كنت حقيقي معاهم.
علي: ممكن أقولك إني معرفتش كنت أكتب الكلام دا إزاي. لو قعدت دلوقتي مش حأعرف أكتب نفس الكلام.
علي: الموضوع معقّد. ومعرفتش أتحرّك جواتها. شيء مؤسف.
علي: مرّت علينا شهور ممتازة فعلاً صرفنا فيها بغباء، لكن ليس هناك مصدر ثابت، وموضوع التكسب من الموسيقى مرعب جداً لي. بصّ: الموضوع عملته عشان أمّي اللي تعبت معايا. جالها تلفون وأنا في بيروت. كنت قاعد عالبلكونة بقول حاجة وهاشم صوّره وحطه أونلاين. وقتها أختها بتقولها: “هو إبنك حيفضل يعمل كدا في حياته؟“، وبتقلّي وهي محرجة. أبويا مات وعمري ١٢ سنة ومكانش معانا فلوس وهي تعبت علشان تعلمك ودلوقتي تقللها: لا أنا حلعب مزيكا؟ لو المزيكا حتيّعشك إنت تمام، بس عمرها ما تجيب حاجة ليهم. يادوبك حتعيش إنت وحتعيشك مش تمام. بس إنت مبسوط وتسافر وتلعب مزيكا وبتاع والحياة حلوة مش حكذب عليك. أنا قعدت خمس سنين بدرس هندسة. فحتّى لنفسي– أقول لنفسي– إني مضيّعتش السنين دي عالفاضي. يعني هي كم سنة حتعيش؟ دي ست كبيرة عمرها ٧٠ سنة، خلاص بقى. مش حقعد أبضّن عليها لآخر حياتها. لما أروح هناك، السّادات، الدنيا حتكون هادية فشخ، الميدي كنترول والميكروفون واللابتوب موجود. حأبقى مبسوط تمام.