.
للنظر في تطور الغناء والموسيقى في البلدان العربيّة، لا بد من تفكيك عدد كبير من الأساطير التي باتت راسخة ومقدسة في أذهان الناس. ولئلا يتحوّل تفكيك الأساطير مقدّساً في ذاته، لا بد من طرحه كل مرة على أنّه احتمال أو فرضيّة تقبل النقد والنقض والنقاش والتعديل والتجريح.
ليس في هذه العجالة المختصرة متّسع لذكر كثير من الأساطير (في شأن دور عثمان الموصلي واسهام سيد درويش، وعلاقة مصر وغنائها في وصفه موسيقى “العرب” في مواجهة دخول الثقافة الأوروبيّة والإعراض عن الموسيقى العثمانيّة أو الموسيقات المغربيّة والعراقيّة والخليجيّة وغيرها). لذلك ستركّز على نقاط قليلة: هل كانت هناك حلقة وصل عند انتقال الغناء المصري من أسلوب المدرسة النهضويّة (عبد الحي حلمي، يوسف المنيلاوي، زكي مراد، سيد الصفتي وسواهم كثيرون) إلى الأسلوب الكلثومي والوهابي (وهو الذي أسّس لكل ما تبقّى من تطريب بعدهما)؟ وما علاقة ذلك بفني الإنشاد والتلاوة؟
لم تكن أم كلثوم، بخلاف الأسطورة الشائعة، المرأة الأولى التي تؤدي القوالب الموسيقيّة العالمة التي يفترض أنّها كانت قبلها حكراً على الرجال. فمنيرة المهديّة مثلاً قدمت إلى جانب طقاطيقها المشهورة ومسرحها أدواراً وقصائد موقعة، وذلك أرقى وأعقد فنون الموسيقى المصريّة العالمة. غير أن تميّز أم كلثوم تأتّى من أنّها، في تقديري، أول امرأة تؤدّي الغناء الدنيوي بعد أن تدرّب موسيقيّاً على الفنون الدينيّة، وبالتحديد: التواشيح والمدائح (لا يبدو أنها كانت مقرئة رغم إلمامها بالتلاوة). ويعني ذلك أنّها كانت قادرة على استدخال تقنيات وجماليات فن الإنشاد كما عرفته الدلتا المصرية (وهو مختلف عن الإنشاد الديني الصعيدي أو الشامي مثلاً كي لا نبعد كثيراً عن مصر) إلى فنون الغناء الدنيوي، في حين أن العوالم الأخريات أتين من عالم الغناء الخفيف حتى وإن قمن أحياناً بتأدية غناء أكثر تعقيداً، بكفاءة.
أما محمد عبد الوهاب، وهو ابن لمؤذن ومقرئ، فقد تتلمذ على أيدي الشيخ درويش الحريري في الموشحات، والعلم الأبرز في الإنشاد والتلاوة الشيخ علي محمود. ويمكن للمستمع المدقق أن يلاحظ احتمال صدق القصة التي تقول انه لجأ إلى الشيخ علي محمود بعد أن استعصى عليه تلحين “أنا هيمان” من أغنية الكرنك (في الدقيقة 15)، إذ يعثر فيها المرء على خروج تام على مناخ الأغنية إلى أداء مشايخي مخصوص قبل العودة إلى رومنتيكيّة اللحن الوهابي. والحق أن الأداء المشايخي ولعبه بالإيقاع لم يكن غائباً عن عبد الوهاب، كما في تسجيله شاباً لموشح “ملا الكاسات“ لمحمد عثمان.
ولئن استمرت أم كلثوم فترة أطول من عبد الوهاب، أي حتى 1939 في تأدية قالب الدور من ألحان داود حسني وزكريا أحمد (وهي، غير ذلك من القوالب العالمة، لم تغن الموشحات أو القصائد المرتجلة بل سجلت بعض ألحان شيخها أبي العلا محمد بأسلوبه)، فإن عبد الوهاب وهي، مع ملحنيها، قاما بتغيير كبير لأنماط الموسيقى الشائعة، مبتعدين عن القوالب العالمة وعن الغناء المسرحي، مركزين بالمقابل على المونولوج والطقطوقة والقصيدة الملحنة (وغنى عبد الوهاب أيضاً المواويل الملحنة). كما تمت التضحية بالغناء المتنوّع اجتماعيّاً، كما في مسرح سيّد درويش، لصالح الغناء العاطفي الرومنتيكي حصراً.
غير أن هذا التغيير يظل شكلانيّاً وأضأل شأناً إذا ما قورن بالتغيير الأهم الذي فرضه هذان الصوتان، وهو التغيير في تقنية الغناء المصري (ولاحقاً العربي)، فيبدو في النتيجة كما لو أن الغناء المتقن اليوم هو الذي يتابع تقنيات أدائهما في إنتاج الصوت ووضوح العُرَب والابتعاد عن ترجيف الصوت وحدّته (الأداء المشايخي الذي حفظته لنا تسجيلات محمد عبد الوهاب وأم كلثوم الأولى). ومن ثم، بعد ذلك، تقليل عدد المقامات المستخدمة والتخلي عن “الومضات” المقاميّة السريعة التي تحضّر لانتقال مقامي تام، وذلك لصالح مقامات أشهر وأقل تعقيداً، أو أسهل استعمالاً مع الفرقة (كالكرد والنهاوند)، وكذلك لصالح انتقالات مقاميّة متعددة لكن من دون التمهيد (الذي أسماه البعض “ومضة“) الذي كان أساطين الغناء العالم قبلهم يستخدمونه للتحضير للانتقال إلى مناخ مقامي مختلف.
الفرضيّة التي تقترحها هذه المقالة أثارها اكتشاف صوت الشيخة منيرة عبده، في تسجيل نقي أذاعته البي بي سي مؤخراً على حسابها في “ساوند كلاود“ يرجّح أنّه من مطلع الأربعينيّات. والمعروف أن الشيخة منيرة عبده غنت في الإذاعات الأهلية ما بين 1920 إلى 1934، ويزيد البعض أنّها غنّت في الإذاعة الرسميّة إلى قبيل الحرب العالميّة حين أفتى المشايخ بحرمة التلاوة النسائيّة ألحان السماء، محمود السعدني. ص 61 ما طمس ذكر وتسجيلات المقرئات طويلاً.
والمتوافر لهذه الشيخة إضافة إلى ابتهال ليلة المعراج، ابتهال “يا رسول الله“ الذي تؤديه مع البطانة، فضلاً على جزء يقل عن الدقيقة من التلاوة القرآنية. غير أن المتداول عنها أنّها كانت عظيمة الشهرة، حتى وصلت شهرتها آنذاك تونس. والابتهالان يختلفان تمام الاختلاف عن تلاوتها، إذ تقترب تلاوتها من التلاوات النسائيّة التي أتيحت لنا من تلك الفترة، أي قبل إنشاء الإذاعة المصرية واقفال الإذاعات الأهلية والافتاء بحرم تلاوة النساء للقرآن في الإذاعة، كمثل تسجيلات الشيخة سكينة حسن والشيخة مبروكة. ففي حين تبدو التلاوات أقرب، في أسلوب الأداء وإنتاج الصوت وترجيفه، إلى أسلوب عالمات المدرسة النهضويّة مثل منيرة المهديّة أو نعيمة المصريّة، فإن ابتهال الشيخة وإنشادها، سواء منفردة أو مع البطانة، يبدو عظيم الشبه بأسلوب أم كلثوم كما سيتبلور في مرحلة ما بعد “إن كنت أسامح” التي كانت لا تزال تظهر ملامح من أسلوبها الأول وصولاً إلى الأربعينيّات، لجهة التخلص من ترجيف الصوت وإيضاح العرب، كما لو أن المرء ينظر إليها عبر مكبر، والاقتصاد فيها وادخارها للقفلات في مقابل تطوير أوفى للجملة الموسيقيّة نفسها وزيادة الارتباط بينها وبين عدد النبرات في الكلام المكتوب.
فمنيرة عبده في تسجيلاتها المختلفة، حيث تلوح، منشدة، كأنّها سابقة لأم كلثوم، في حين أنها تبدو، مقرئة، كمثل سكينة حسن والشيخة مبروكة، أقرب إلى منيرة المهديّة وبالاستماع إلى منيرة عبده، يراود المرء ظن في أنّها في واقع الأمر الحلقة الضروريّة بين أداء المطربات والعالمات في الغناء النهضوي، وبين الغناء الكلثومي. فلعل الغناء الكلثومي وحتى الوهابي في مطالعه نقل تقنيات الإنشاد، مع تحديد مواضعها وتشذيب جموحها، إلى مجال الغناء الدنيوي، في حين كان غناء المطربين السابقين، وكثير منهم مشايخ أيضاً كالشيخ يوسف المنيلاوي، مرتبطاً أكثر بالتلاوة عوض الإنشاد (إذا ما استثنينا التفاعل مع البطانة الذي تحول إلى الهنك والرنك في قالب الدور).
ومختصر الفرضيّة هذه أن الاستماع إلى إنشاد المشايخ (الإنشاد القاهري والدلتاوي لا الإنشاد الصعيدي أو الشامي طبعاً) كعلي محمود وطه الفشني، أو المنشدة منيرة عبده، يبرز فرقاً واضحاً في إصدار الصوت وبناء الجمل والإيقاع واختيار العرب عن تلاوات المشايخ مثل محمد رفعت وغيره. ويبدو كأن الفرق يتوازى مع الفرق بين الغناء النهضوي والغناء الكلثومي ومبدأ تميّز عبد الوهاب. فمن جهة، هناك في الإنشاد تمهّل في الإلقاء وتلذّذ بالكلام لكن مع المحافظة على إيقاع داخلي، وعناية بإبراز العُرَب الصوتيّة، وابتعاد عن الترجيف كما عن الطبقات الحادة وأصوات الزير (الرأس) التي كثيراً ما يلجأ لها المقرئون، مثلما يلجؤون إلى السير حثيثاً في تلاوة القرآن باحترام يمنع تقطيع الكلام والنبر، وحرص على مخارج الأحرف يقطع النغم، وباعتماد على ايقاع الجملة القرآنية لا الجملة الموسيقية (وإن خرج احدهم على ذلك، عوقب باللوم كما هي حال مصطفى اسماعيل أحياناً).
هذا طبعاً لا ينفي أن بداخل الإنشاد مدراس عديدة كما هي حال التلاوات، غير أن هناك، ربما، ما يفرد الإنشاد على حدة عن التلاوة. ربّما أضافت البطانة أيضاً تمييزاً في ذلك، إذ تجعل الإنشاد حواراً موسيقياً يعني فيه المنشد بتسليم البطانة القول واستعادته منها، ويعنى بالعودة إلى مستقرات مشتركة معها، بخلاف التلاوة التي تبدو سيراً فردياً على هدي رغبة المقرئ وفهمه للسور.
هناك، في ما يبدو لي، احتمال آخر أيضا، هو ان يكون التقاطع الأساس هنا ليس ما بين الإنشاد والتلاوة، بل ما بين اختيارات وأسلوب الشيخ علي محمود تحديداً وبين سابقيه والمشايخ ممن لم يتتلمذوا عليه مثل الشيخ اسماعيل سكر. ذلك أن الشيخ طه الفشني والشيخة منيرة عبده (كما يتبدى) وعبد الوهاب تلامذته مباشرة، كما أن كثيراً مما أتت به أم كلثوم خرج من عباءته، حتى يكاد تسجيل مثل “يا نسيم الصبا” يختصر الغناء المصري بأجمعه.
وقد يكون من الممكن مزج هذه الفرضيات في ثالثة تقول الآتي: بدأ الغناء النهضوي في لحظة انتقال المشايخ الذين كانوا يجمعون التلاوة والإنشاد إلى الغناء الدنيوي، فتطوّر قالب الدور باستيعاب تقنيات هذين الفنين. غير أن بوادر تخصص ظهرت في مجال الغناء الديني، فبدأ أسلوب التلاوة يتمايز عن أسلوب الإنشاد، وكان الشيخ علي محمود آخر من اشتهروا بالفنين، في حين غلب على الآخرين العمل بأحد الفنين. ولئن كان الشيخ علي محمود من أوائل من وصلونا من المنشدين فإن تقنية وذائقة مشايخ آخرين مثل علي الحارث ومحرز سليمان، في الإنشاد، تقترب كثيراً منه وتبتعد عن الأداء النهضوي وعن أساليب التلاوة. أي أن الشيخ علي محمود ربما كان الجزء الأبرز والذي رأينا أثره المباشر في عبد الوهاب وأم كلثوم وطه الفشني ومحمد الفيومي، غير أنّه كان أيضاً بعضاً من كل مدرسة الإنشاد الدلتاوي المصرية التي تطوّرت في هذا الإتجاه مفترقة، ربما، عن مدرسة التلاوة.
كانت هناك دوماً احتمالات للتخصيب المتبادل بين أنواع الفنون الموسيقيّة على تنوّعها، فمثلما كان للإنشاد والتلاوة آثار بينة على الغناء المصري في مرحلة النهضة ومرحلته الكلثوميّة/ الوهابيّة، فقد عادت موسيقى محمد عبد الوهاب والقصبجي ورياض السنباطي أداء المنشدين والمبتهلين كما يبدو في أسلوب أحد ابرز المتأخرين منهم الشيخ محمد عمران.
قد تكون هذه الفرضيات والاحتمالات خاطئة، وقد يكون فيها بعض الصحّة، غير أن التدقيق في هذه الشؤون، كمقارنة أداء أوائل المنشدين بعضهم ببعض، كما أوائل المقرئين ممن وصلت إلينا تسجيلاتهم، وكذلك التدقيق في مسألة الفرق بين القاهرة والدلتا وبين الموسيقى خارجها، كما تحرّي أثر الشيخ علي محمود شخصيّاً على من ذكرنا قد تلقي بعض الضوء على هذه المسألة الغامضة قليلاً: كيف انتقت أم كلثوم وعبد الوهاب أسلوب الأداء المختلف، المتأني والأبطأ والأكثر سيطرة على الصوت والعرب، وتطوروا إليه، بعيداً عن أسطورة أن القصبجي هذّب صوت السيدة أو أن صوت عبد الوهاب تردّى فاختار سبيلاً آخر. وقد تسمح ببناء شجرة أنساب جديدة لا تبدأ من سيد درويش بطبيعة الحال (رغم أنّه لحّن عملاً اسكندراني الطابع، بحسب وصف عبد الوهاب، للشيخ علي محمود مثل “إن ميلاد الرسول“)، بل تضرب جذورها إلى قرن أسبق، أو يزيد.