عن التماهي والتوق إلى الحريّة | حوار مع ضرار كلش

كتابةمعازف - November 13, 2013

 تعالوا واسعي الأفاق، هذا لا يحدث كل يوم“. استهل أحدهم دعوته الفيسبوكية لعرض ضرار كلش الموسيقي قبل بضعة أشهر في حانة البير في القدس.

نجح كلش ليلتها بإخماد الأصوات الصاخبة الاعتياديّة لطبيعة الحانة، لتتحول موسيقاه لمصدر الصّوت الوحيد، مجتذبةً مرتادي الحانة إلى صمت تام لأكثر من ساعة. حيث استبدل الضجّة بـضجّةمن نوع آخر. استعان كلش في عرضه بآلات الساكسوفون سوبرانو والفيولا، حيث قام بمعالجتهما باستخدام الحاسوب خلال العرض الحي لإنتاج موسيقى بأساليب عزف يعرفها كلش بالحرة والارتجاليّة.

نشأ ضرار كلش في قرية كفر قرع في منطقة المثلث في فلسطين المحتلة، وهو موسيقي وفنان متعدّد المجالات، يعمل بين الأقطاب المتعدّدة للصوت والموسيقى، من التأليف الموسيقي إلى الإرتجال الحر والضجّة، كما يعزف على العديد من الآلات، وغالباً ما يجمع ما بين المرئي والمسموع في الأداء الحي والأعمال التركيبيّة للصوت والفيديو، ويعرّف المشترَك في مجمل إنتاجاته على أنه مرتبط بالواقع اليومي والمعاش كمجموعة ظواهر ومواد خام خاضعة للتفكيك والتركيب والمعالجة، لتتحوّل إلى طقس متجسّد في الأداء الحي أو في العمل الفني.

التقينا كلش بعد عرض قدمه في الورشة مساحة فنيّة في حيفا، جاء بعد عودته من جولة عروض مكثّفة في أوروبا استغرقت شهران، وحاولنا الاستفسار عن معنى وماهية الموسيقى الحرّة التي يقدمها.

معازف: ما هي الموسيقى التي تعزفها؟

ض. ك: أعمل في مساحات موسيقيّة وصوتية مختلفة، تتراوح سمعيّاً من الصّمت إلى الضّجة الصاخبة، أعمل في عدة سياقات وباستخدام آلات وتقنيات مختلفة، ما يجعل المساحة التي أعمل من خلالها واسعة جداً. لدي أعمال للبيانو المنفرد، وأعمال إلكترونيّة بحتة، وأعمال جاز حر، وأعمال تعتمد أكثر على التأليف الصوتي، وأعمال لآلات مجهزة – أي آلات تقليديّة مجهزة ومعدّلة بطريقة تتيح إنتاج أصوات غير تقليديّة. كما وأقوم ببناء وتعديل أجهزة إلكترونيّة أستخدمها في الإنتاج الموسيقي.

لا أميل إلى تسمية الإنتاج الموسيقي وتصنيفه، ولكن المشترك بين كل ما ذكرته أعلاه هو التعامل المباشر مع المادة الصوتيّة والموسيقيّة من دون أي وسائط أنتجتها الهيمنة الثقافيّة، والتي أصبحت المفاهيم التي نعرف الموسيقى بها أو من خلالها، كموسيقى شرقيّة أو غربيّة. ما يعرّف الموسيقى التي أصنعها هو الأدوات والمواد التي أستخدمها وطريقة العمل التي أختارها، وبذلك يتماهى التعريف والمنتج الموسيقي أو الصوتي، أي ليست هناك حاجة لشيء خارج عالم الموسيقى والصوت لتعريف هذه النتاج الموسيقي أو الصوتي.

طبعا هذا لا ينفي وجود علاقة بين الموسيقى والصوت وما هو خارج هذا العالم: بالعكس، العلاقة وطيدة، ولكنها من خلال المادة، وليس من خلال المفاهيم المتعارف عليها كالموسيقى أو الأغنية السياسيّة على سبيل المثال. نحن نعرّف الأغنية السياسيّة من خلال الكلمة المغنّاة، ولكن في حالتي السياسي موجود ليس من خلال كلمة أو تعريف، بل من خلال طريقة وعملية الإنتاج.

يتعلّق الأمر أيضاً بطبيعة العلاقة بين الإرتجال والتأليف الموسيقي، هناك فرق بينهما: فالإرتجال يفكّك القوانين ويخلق قوانين خاصة به. أما في التأليف الموسيقي، فهناك دراسة وتأمل وملاحظة قوانين أو علاقات قائمة أو خلق جديدة تخلق مساحة خاصة لنوع آخر من الأداء مختلف عن الإرتجال.

معازف: بماذا تتميّز مساحات الموسيقى الحرّة، عن المساحات الموسيقيّة الكلاسيكيّة أو التقليدية والتراثية؟

ض. ك: الاختلاف الجوهري يكمن في كيفية التعامل مع الأدوات والمادة الموسيقيّة، بدءاً من الآلة الموسيقيّة وحتى العناصر الموسيقيّة كالمبنى والشكل والمقاميّة والتناغم (هارموني)، وأيضاً في التعامل مع إعتبارات أخرى كعلاقة الموسيقى بالزمن والعلاقة بين المؤلف الموسيقي والمؤدين وبالتوازي: التأليف الموسيقي والأداء. ما يبرز هذه الاختلافات أكثر هو الجانب التاريخي، أو النظرة التاريخيّة إلى الموسيقى، فنحن نعرف تأريخ للموسيقى الكلاسيكيّةكما تأريخ للموسيقى العربيّةأيضاً، إذ جاء هذا التحقيب التأريخي بفعل محطّات تغيّرت بها مفاهيم الموسيقى وطريقة التعامل مع المقاميّة والتناغم ضمن العناصر الموسيقيّة الأخرى.

ليس بمقدورنا الآن الخوض في تاريخ الموسيقى الكلاسيكيّة، غربيّة أو شرقيّة. ولكن لأوضح المسألة أكثر، فمجرد الحديث عن مسألة تأريخ الموسيقى يوضّح وجود تراكم معيّن للمفاهيم والقوانين الموسيقيّة بغض النظر عن ماهيته، بينما في الموسيقى الحرة لا وجود لهذا التراكم بشكل واضح. الإنتاج الموسيقي في مجالات الموسيقى الحرّة هو مباشر من خلال التعامل مع المادة أو العناصر الموسيقيّة، حتى ولو حملت هذه المواد أو العناصر تراكماً تاريخيّاً معيّناً.

إختلاف آخر أساسي هو الإرتجال، وللارتجال تاريخ، وهو أيضا يحمل تراكمات. ولكن في معظم ممارسات الموسيقى الحرّة يكون الإرتجال هو العنصر الأساسي، ويكون بأعلى المستويات. الموسيقى الارتجاليّة الحرّة على سبيل المثال، حيث ليس هناك ما يسمى باللحن الواضح، يتمثّل الارتجال في كيفيّة إصدار الأصوات من آلة معيّنة، ومن ثم كيفية موضعة وترتيب هذه الأصوات في الزمن وبتنويعات مختلفة. هذا يجعل الارتجال أقرب إلى التأليف الصوتي في الزمن الحي منه إلى مجرّد تنويعات لحنيّة في مبنى أو قالب واضح.

إضافة إلى أن النظر إلى الموسيقى الكلاسيكيّة أو التقليديّة هو نظر إلى الوراء، الماضي، أمّا في حال الموسيقى الحرّة فالنظر هو الأمام، المستقبل. وفي الحاضر هناك خيار التقاء أو افتراق أحدهما عن الآخر. فمعظم الكلاسيكيون يقفون عند فترة معيّنة في الماضي ولا يعترفون بكل ما يأتي بعدها. بالنسبة إلي المفاهيم الموسيقية هي أمر وتأريخ الموسيقى هو أمر آخر، ولكن غالباً ما يتم الخلط بينهما.

حين أقدّر عملاً للملا عثمان الموصلي أو لباخ أنا لا أقدّره لتأريخه، وإنما لقيمته الموسيقيّة الصرفة، والإبداع في التعامل مع المادة الموسيقيّة كمادة.

معازف: هل تقوم بتحضير توجّهات وخطوط عريضة للعرض قبل ظهورك على المنصّة؟

ض. ك: يعود ذلك لطبيعة العرض. معظم العروض التي أقدمها هي موسيقى إرتجاليّة بحتة، ولكن هناك عروض أعمل بها على أداء مؤلّفات مكتوبة غالباً ما أترك بها مساحات للارتجال. كذلك الأمر في بعض العروض للبيانو المنفرد حيث يكون هناك إرتجال ولكن ضمن مبنى وشكل أحسبهوأبنيه بشكل مدروس لأدق التفاصيل. كذلك الأمر في الموسيقى الإلكترونيّة التي أؤدّيها، فالبرمجة والعمل على العينات يستغرق أياماً طويلة. بغض النظر عن ذلك، فأنا أقضي ساعات كثيرة من العمل يوميّاً، إن كان في التمرين أم في الكتابة والتأليف أم في تجهيز الآلات والبرمجة.

معازف: كيف يتعامل المستمع، الذي عادة يتوقّع المبنى الموسيقيّ والمعادلات الموسيقيّة، سواءً في الموسيقى الكلاسيكيّة أو الشعبيّة أو التجاريّة، مع هذا النوع من العروض؟

ض. ك: ليس هناك نوع واحد من المستمعين، كما وليس هناك ردّ فعل واحد في العروض. بل تتراوح ردود الفعل ما بين الشجب والاستنكار (ضاحكاً) والفضول ونوع من الانسجام الحسّي والخيالي مع الموسيقى. غالباً ما يتعامل المستمع مع هذه الموسيقى من خلال خياله أو عاطفته، باحثاً عن وسيط أو معنى يفهم من خلاله هذا الموسيقى، فيربط الزخم الموجود في الموسيقى مثلاً بقصف غزة، أو مجزرة جنين، أو اجتياح رام الله.
لا تكمن مشكلة تذوّق وتقبّل هذه الموسيقى في صعوبةوغرابةأو فوضويّةهذه الموسيقى أكثر من كونها مترسّخة في نمطيّات كرّستها الهيمنة الثقافيّة على مر السنين. ونحن نعي تماماً أنّنا في عصر نواجه به أزمة إنسانيّة بكل ما في الكلمة من معنى، فكيف يمكن للثقافة، وضمنها الموسيقى، أن تستثنى من ذلك؟ لا أريد الخوض في تفاصيل هذه الأزمة الآن، ولكن ما يعنينا في الموضوع هو أن الطريقة التي يستمع بها الإنسان العربي تحديداً إلى الموسيقى لم تسلم من تلك الأزمة، ولا أقول أن هناك نمط واحد للإنسان العربي.

ولكن فلنستعرض الواقع الموجود: سيّدة برجوازيّة توقّفت الموسيقى بنظرها عند موزارت غرباً وأم كلثوم شرقاً، شاب ناشط سياسيّاً لا معنى بالنسبة له لأي موسيقى غير أغاني الثنائي نجم وإمام، شاب آخر يقول لك بأنه لا يعرف في هذا ولا ذاك ولا تحرّكه غير الأغاني الشعبيّة، مجموعة شباب أخرى ترى الملاذ في ما يسمّونه بالموسيقى العربيّة البديلة. هذا من دون ذكر ظاهرة فيروز والصّباح، والمتعصّبين للشرق والغرب، والأغاني التجاريّة الرديئة، وطبعاً أنصار تحريم الموسيقى.

إن دل ذلك كله على شيء، فإنّما يدل على حالة اغتراب وصل عمقها للأذن الداخليّة والسمع. الاغتراب هنا يتجسّد في عدم امتلاك وعدم السيطرة على مادة ووسائل الإنتاج – المادة الموسيقيّة في هذه الحالة، فالمستمع يتلقى فقط، والموسيقيّ من جهة أخرى يكرّس ما هو قائم وكأنه منزّل. والمشترك بين كل تلك الحالات المذكورة واضح، عملية الاستماع لا تتم بشكل مباشر، والعلاقة بين الأذن وما تسمعه تمر عبر وسيط ما خارج عالم السّمع والموسيقى.

في الأغنية السياسيّة مثلاً، الوسيط هو الشعار السياسي أو الكلمة. هناك مشكلة أخرى مشتركة، وهي لا تخص الجانب الموسيقيّ فقط، هي أن المتلقي يبحث عن شيء كامل ومتكامل ليتلقّاه، فهو لا يطيق فقرة موسيقيّة طويلة وبطيئة مثلاً، يعتبرها مملة، كالقارئ الذي يريد أن يعرف نهاية رواية ما من أول صفحة. إن ذلك كمن يريد أن يهتف بشعارات النصر قبل أن يتحرّك. وهكذا يتحوّل المستمع إلى مجرّد مستهلك، حتى وأن تفاعل حسيّاً مع ما يسمعه.

هناك جانب آخر للمشكلة، وهي عدم وجود تنوّع في العروض الموسيقيّة الحيّة محليّاً، والطريقة التي تنتج وتتداول بها الموسيقى والأغاني. أغلب الناس اليوم يستمعون إلى الموسيقى من خلال موقع اليوتيوب خلال ممارستهم لعمل آخر ومن خلال سماعات الرأس أو سماعات الحاسوب. فتكون الموسيقى مجرّد صوت آخر في الخلفيّة.

أما المشكلة في العروض الحيّة لها عدّة وجوه، فأماكن العرض مقيّدة بعض الشيء، فتقريباً من شبه المستحيل أن يحضر شخص من جنين لحضور عرض موسيقي في رام الله، إلا إذا كان استثنائيّاً بمعايير معيّنة، ومن جهة أخرى، فتنظيم العروض أيضاً محكوم باعتبارات معيّنة. على سبيل المثال: هم مهتمون بما يمكن أن يجلب الجماهير فقط، وإن كان العرض في حانة، فأكثر من نصف المجتمع لا يستطيع حضوره. ومن جهة أخرى، الكثير من الموسيقيين لا يريدون المجازفة، فهم معنيون بتقديم ما يطلبه الجمهور لضمان لقمة العيش، ما يعيق من اهتمامهم وتركيزهم بالموسيقى كموسيقى. في هذه الحالة الاعتبارات أيضاً تجاريّة أكثر من كونها فنية، ولو لبست تلك الصفة.

ما يطلبه الجمهور هو فعليّاً ما كرّس وعوّد عليه الجمهور من خلال وسائل الإعلام والتواصل المرئي والمسموع، فبعض الناس يسألونني لماذا لا أدمج إيقاعاً أو لحناً معيّناً مع الموسيقى التي أقدّمها، أو لماذا لا أقدّم موسيقى مألوفة أكثر. غالبا ما تكون إجابتي بأنه: ما الفائدة ممّا أقدّمه إذا كان نسخة عن شيء موجود وقائم ويمكنك الرجوع إليه إذا أردت سماعه؟

معازف: هل هناك اختلاف، في مجال الموسيقى الحرّة العربيّة، منذ أن بدأت بالعزف وبين الآن؟

ض. ك: بالتأكيد. فالوقت يصنع التغيير، إنتاجاتي خارج مساحة العروض أيضاً متنوعة وكثيرة. عدد المستمعين المهتمين بالموسيقى الحرة على أشكالها في تزايد، وأيضاً هناك تاثير على موسيقيين آخرين. من الجدير بالذكر أن تطور هذه الموسيقى في العالم العربي أيضا في تصاعد، من شرقه إلى غربه. هناك على سبيل المثال مهرجان إرتجال للموسيقى الحرة والارتجاليّة والذي يقام سنويّاً في بيروت لأكثر من عشر سنوات على التوالي. وهناك مهرجان اخر يقام في مصر، إسمه 100Live، مع أن التركيز فيه أكثر على الموسيقى الإلكترونية والشعبية المصرية، ولكن بالرغم من ذلك فهو يبقى متخطياً لكل الحواجز بين تلك العوالم الموسيقيّة.

معازف: معظم الآلات الموسيقيّة التي ذكرتها غربيّة، هل هناك سبب خاص؟

ض. ك: السبب ليس لأنها آلات غربيّة بقدر ما هي آلات صنعت بإتقان وبتخطيط بارع، وطبيعتها تتيح عدة إمكانيات للتعامل مع الالة، إن كانت بيانو أو ساكسوفون، رغم أنّني عملت مع القانون والعود أيضاً.

لا أتّفق كثيراً مع تصنيف غرب وشرق في الموسيقى، فالـ٤٤٠ هرتز هي ٤٤٠ هرتز، والـ ششكاه – التسمية الفارسيّة، هي الـلابالتسمية اللاتينيّة، وهي الحسيني بالتسمية العربيّة. ما يهمني شخصيّاً هو المادة نفسها وليس اسمها، ولكن هذا لا يقول أن ليس هناك اختلاف في التعامل مع الموسيقى ما بين ما يسمى بالشرق والغرب، لكنّني أنظر إلى هذا الاختلاف كتنوّع وليس كفصل.

طوّر الأوروبيون آلات موسيقيّة، وذلك لا يجعلها حكراً لهم، إذا رضينا باحتكارهم لها فذلك وكأنما نرضى باستعمارهم لنا وبتقدّمهم المزعوم علينا. البعض ينظر اليوم إلى الترومبت وكأنه آلة غربيّة، مع إنّه عرفت في المنطقة عدة أنواع منه من أيام الفراعنة والفرس. كذلك الأمر مع القانون الذي يعود الفضل إليه في تطوّر البيانو. ما لا يروق لي في الموضوع هو أن التعامل مع الآلات هو كمثل النسب العشائري: فعشيرتنا هي الأفضل وليس لنا غيرها. والذي يزيد الأمر سلبية هو أن في الحقيقة أغلب الآلات التي نعرفها كعربيّة هي ليست عربيّة أصلاً، ولكن ما حصل هو أنه بعد ما تمت أسلمتها تم تعريبها.

يعود الفضل في بناء وتطور الآلات في الحضارة الإسلاميّة للاختلاف والانفتاح والتنوّع الذي التقى تحت مسمّى الحضارة الإسلاميّة وليس لنوع من التعصب إلى ما هو عربي، فالقانون على سبيل المثال عمره أكثر من ٥٠٠٠ عام، وهو موجود بأشكال مختلفة بكل حضارات الشرق من اليابان إلى إيران إلى أذربيجان إلى مصر اليوم، فلماذا نقبل النسخة المعرّبة قسراً صاحبها الفارابي ليس عربيّا أصلاً منه ولا نقبل البيانو أو الغايغيوم وهو النسخة الكوريّة منه؟ وكما هو الحال مع القانون كذلك هو الأمر أيضاً مع المقامات العربيّة التي يعود معظمها السّاحق إلى أصل فارسي قبل إسلامي.

معازف: إن تناولنا تاريخ الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة، وجدنا أن تطوّر الحقبات الموسيقيّة، خاصة بعد الفترة الرومانسيّة والتعبيريّة، كان باتجاه كسر المعادلات الموسيقيّة التناغميّة والمقامات الغربيّة نحو هذه المساحات الموسيقيّة.

ض. ك: صحيح، وهناك أسباب كثيرة لذلك خصّص لبحثها وتوثيقها أدبيّات كثيرة لا يسعنا الآن أن نتطرق إليها. ولكن ما يعنيني في هذا السياق هو أن ما جرى في الثقافة الأوروبيّة غير مفصول عن التطورات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة التي جرت بنفس الوقت. كذلك الأمر في ما يتعلق بثقافتنا نحن، والتي أصبحت بفعل الاستعمار تدور في دائرة مغلقة معزولة حتى عن ذاتها.

أريد أن أذكر في هذا السياق أن ما يحصل في المساحات الموسيقيّة المعاصرة والحديثة والتي تسمى بالحرّة ليس غريباً عن الثقافة الموسيقيّة وتأريخها في الشرق، الموضوع أعمق من أن نخوضه في حوار، ولكن سأوضح الآتي: أنا لا أقول بأنّني أكسر قوانين أكثر من أنّني أبني جسوراً. ليس هناك أي أمر جديد في ما أقدمه، فأنا أعود إلى المادة، وذلك يشبه القول بأن ليس هناك ماء معاصر وماء قديم، ولكن ربما تكون هناك اكتشافات جديدة بالنسبة للماء، أو طرق جديدة لشربها. كذلك الأمر في الموسيقى، إذا تكلمنا عن الضجة، فماذا نسمي كل الموسيقى البدائيّة الإيقاعيّة في الحضارات القديمة أو موسيقى الكناوة وطقوسها؟ أليست نويز؟

إذا تكلّمنا عما يسمى بـالجاز الحر هناك أمثلة كثيرة للطقوس الموسيقيّة في أفريقيا التي تعود جذور ما يسمى بالجاز إليها. إذا تكلمنا عما يسمى بالتأليف الخوارزمي (Algorithmic Composition) وربط علوم الرياضيات بالموسيقى، فهناك موروث يعود إلى أيّام الإغريق وحتى أيام العباسيين وما بعدها. وإذا تكلّمنا عن الموسيقى الإلكترونيّة، فقد قام بذلك عالم إسلامي يسمى بالجزري، وإن لم يستخدم الكهرباء فقد استخدم الهندسة بنفس المنطق. وإذا أردنا الكلام عن علوم الصوت كمادة فهناك الكثير من الأدبيّات التي كتبت في الموضوع لأخوان الصفا وإبن سينا مساهمات في المجال على سبيل المثال. هنا أنوّه أن غالبيّة المخطوطات في مجال الموسيقى محفوظة لدى الغرب، وهم الذين يحققون فيها ويستفيدون منها ليعلموننا كيف ننظر نحن إلى ثقافتنا، أليست هذه مأساة؟

بنظري لو أتيح لنا أن ننهض بثقافتنا الموسيقيّة والصوتيّة كعلم وكممارسة فنيّة بالاعتماد على الموروث العلمي والفني، لخلقنا المعجزات. وبالمناسبة، يصح نفس القول على الممارسات في الفنون البصريّة، فغالبية الأشخاص ينظرون على سبيل المثال إلى الفن التجريدي كفن غربي لا يمت لحضارتنا بصلة، بينما لا يلاحظون أن الفنون والزخارف الإسلاميّة هي التجلي الأمثل للفن التجريدي.

في موسيقى الشرق هناك إيقاعات ونغمات مركبة، ناهيك عن الارتجال والطقوسيّة، وطرق التعامل مع الصوت والصمت. وللأسف، كما هو الحال مع الفن التجريدي، أصبح هذا الموروث يعتبر غريباً وغربيّاً. ألا يشعر المستمع المتوسّط برابط أقوى مع أغنية بوب تجاريّة عنه مع رديف فارسي الأصل حقيقة أنّه يعرف كلمة بوب ولا يعرف كلمة رديف تقول الكثير.

معازف: إذاً فهناك موقف فكري، سياسي، آيدولوجي فلسفي من وراء اختيارك لهذا النوع من الموسيقى، هل هذا صحيح؟

ض. ك: نعم، وهذا الموقف ناتج عن موقعي الطبيعي في هذا العالم وفي هذه الظروف. وليس نتاج شيء آخر. هو نوع من المواجهة في عالم الشرطة الذي نعيشه: خلق الصوت الخاص بي، ليس صوت شخص آخر، ومشاركته بحريّة مع الآخرين، وليس ما تمليه شركة إنتاج، أو أيقونات ومقدّسات موسيقيّة. أن أكون منتجاً وليس مستهلكاً خاملاً. وأن تنتج يعني بالضرورة أن تعود إلى المادة الأصليّة من دون وسائط. فعند الأداء تسقط كل الاعتبارات التاريخيّة والثقافيّة للصوت، بكلمات أخرى تسقط السلطة الموسيقيّة، حتى ولو قمت بالعزف بشكل تقليدي، فيكون هناك نوع من التماهي، وذلك التماهي يربط الإنسان بالمادة التي هي الصوت الصادر من الآلة. لا أريد أن أسمي ذلك حرية، ولكن أقول توق للحريّةوهي ليست الحريّة بالمفهوم الرومانسي والذي للأسف أصبحنا نستهلكه هو أيضاً، فإذا لم تستعيد القدرة على التماهي مع صولو ساكسوفون صاخب لمدة ساعة فلن تكون حراً لفقدانك التحمّل والإرادة. أو إذا رأيت أن مقطوعة مدتها ثلاث ساعات وثلاثة أرباعها صمت طويلة زيادة عن اللزوم فلن تكون حرّاً لفقدانك الصبر. أو إذا رأيت أن الأصوات غريبة وغير محتملة فلن تكون حرّاً لفقدانك القدرة على التأمل.

لا أعتقد أن الأذن لا تستطيع أن تحتمل كل ذلك، فهي تحتمل أكثر من ذلك بكثير في الحياة اليوميّة. وليس عبثاً إذا أمعنا النظر في ما قلته قبل قليل، عن التحمل، الإرادة، الصبر والتأمل. أو ليس ذلك ما يغذي صمود الأسير في السجن، ونحن في سجن ولو أنكرنا؟ طبعا لا أقول بأن على كل الناس ان يستمعوا إلى موسيقاي أو أن موسيقاي هي الموسيقى الحقيقيّة الوحيدة، فهذا هراء، وذلك هو بالضبط ما لا أريده.

ما أريده هو أن تنهض ثقافتنا الموسيقيّة، وأنا أبدأ بنفسي، توقاً للحرية من تبعيات الغرب والشرق، من الاستعمار ومن الاحتلال، ومن الرجعيّات السياسيّة والثقافيّة والدينيّة على حد سواء.