.
لم يولد فريق “مشروع ليلى” في خضم الثورات. سبقت ولادته الأحداث بعام وأكثر. لكنّ تفاصيل كثيرة في أغنيات الفريق جعلته على تماس فعلي مع مزاجات بانت مع بدايات الحراكات الشعبية.
تنطلق معظم أغاني الفريق من مآسٍ فردية وتُرمَى على وضع عام. إنها تتجه من الشخصي الداخلي إلى الخارجي العام، ولا تخجل من أن تقول ضمنياً أو علانيةً إن العام لا يجب أن يطغَ على الشخص. على العكس، من الطبيعي جداً –بحسب الأغنيات– أن يوظَّف العام في الخاص اللحظوي، فيُمسي العالم كله خادماً لمزاج الفرد. وعلى النمط نفسه، يؤثر مزاج الفرد في العالم المحيط به، فيمسي الصواب (آتياً من خلفيات سياسية واجتماعية) تحت وطأة المزاج، مشكوكاً في صوابيته في أسوأ الأحوال، أو من عرضة للا مبالاة المطلقة في أحسنها. يبدو هذا جلياً في أغنيتين للفريق: “غداً يومٌ أفضل” (إعادة صناعة لأغنية كلينت إيستوود لفريق غوريلاز)، و“قول إني منيح” (من الأسطوانة الأخيرة: “الحل رومنسي“).
كعادة أغاني الفريق، يمكن إسقاط بعض مصطلحات هاتين الأغنيتين على أوضاع اجتماعية أو سياسية عامة. يبدو هذا أكثر وضوحاً في أغنية “قول إني منيح“، التي تفتتح بـِ:”قوم نحرق هالمدينة/ ونعمّر وحدة أشرف/ قوم ننسى هالزمان/ ونحلم زمن ألطف“. لفظ “أشرف” المستخدم، بعنف، في السياسة اللبنانية يُطوَّع هنا في الأغنية، فيُحضِر لنا معنييْن محتمليْن: أولاً: المغني يريد أن يعمّر مدينة أشرف من الحالية (يبدو الطرح أقرب للتهكم منه إلى الجدية)، أو ثانياً: إن فعل إعادة البناء بعد الهدم هو فعل “شريف“، بغض النظر عن المصير الذي ستؤول إليه المدينة. ثم لا يلبث أن يتم نعي كل ما له علاقة بالزمن الحالي في المقطع الثاني لصالح زمن “ألطف“.
إنه تغيير سببه اللا شيء؛ فالمخاطَب في الأغنية “بلا شي“، ولا يستطيع أن “يخسر شي“، وبدافع من الملل والستاتيكو (وأنا مليت من عشرة نفسي)، لا من أجل المواجهة الصدامية في المقدمة. إنه باختصار، تغيير يأتي من الرمل المتحرك الذي يسحب الفرد إلى الأسفل.
على أنّ هذه الدعوة للتغيير لا تلبث أن “تتقزم” لتعود طلباً ذا أسباب شخصية. فالمغني مهشَّم الأحلام، فشل في أكثر من شيء، كان يعتبر أن العالم يدور من حوله (كان بدي غير العالم/ مش عارف كيف العالم غيرني/ كان بدي إحمل السماء/ وهلأ أنجأ حامل نفسي). أكثر إذاً، هذه دعوة للتغيير آتية من فرد منهزم، أكثر منه فرد ثوري، من فرد أُقنِعَ بالتربية أنه ما إن يخُض مغمار الحياة حتى سيغيِّر جمْعياً في ما حوله بأفعاله فوصل سريعاً إلى ما يحسبه “نهاية“. الأغنية إذاً قصة انهزام الوصول وفشل الترقي لدى الفرد، قبل أن تكون انهزاماً للمجتمع والمدينة، منتهية ببساطة طفوليّة: “قول إني منيح“.
على النقيض من “قول إني منيح“، تأتي أغنية “غداً يومٌ أفضل” أكثر ثباتاً في المزاج من البداية حتى النهاية. لكنه ثبات يشير تماماً إلى عكسه. الأغنية أيضاً أوضح، إذ إنها تبدأ تواً من الفرد من دون التوريات المتعلقة بالمحيط والمدينة والعالم. هنا لا يتوانى الفرد عن التصريح بلا كمال شكله أو حتى بقلة أهميته أو تأثيره (مبسوط ما بني شي/ مخبّى الشمس بكرشي/ ماني عازة، بس مش مطوّل)، مستتبعاً إعلاناته هذه بخلاصة جازمة: “غداً يوم أفضل“.
الفرد هنا لا يخجل من “الديوفرمات” الشكليّة أو المعنوية، بل يعترف بها، ويعلنها. وهذا الاعتراف يعبّد الطريق للهجوم على الآخرين وتقريعهم في المقاطع الباقية، تحديداً هؤلاء الذين يملكون آراء جازمة من أوضاع عامة وينصّبون أنفسهم أولياء قضايا وحاكمين على نوايا وأفعال آخرين: (بقى جايي يحكيني ابن الكلب عن كل قضايا العالم/ يا إما تتصفف بجنبو/ يا إما إنك ظالم). لتصل بعدها الأغنية إلى سلسة من النصائح: تفادَ أحاديث معروفة الاتجاه. فأنت إن لم تفعل، لن تنقذ أهلك، ولن تغير العالم. تذكّر أن الناس تنتقم ولا تحب. كن لا مبالياً وإلا انفصمت. تفاد الآراء الصائبة الآتية من أبراج عاجية. قبل أن ينتهي المقطع النصحوي محذراً: أنت فيما لو تكلمت معهم، ستكون تستأهل كل هذا اللغط الذي وضعْت نفسك فيه بكلامك.
اللا مبالاة هنا هي نوع من النكاية. القفز بين الأحكام المتناقضة والخلاصات الجازمة يبدو أقرب إلى ردات فعل لحظية على جزم النضاليين الذين يأخذون القضايا العامة فعل مقاولات. تركّز الأغنية تحديداً على التأثير السلبي لهؤلاء على أناس يتخذون مواقف عامة جازمة إنطلاقاً لكرههم الخاص من هكذا نماذج، أو على الأقل يمتهنون اللا مبالاة نكاية أو رغبة بالابتعاد عن الساحة التي يملأها هؤلاء حصرياً. أما الأحكام في الأغنية المهداة “إلى جيل الثورة” (بحسب الفيديو كليب) والتي ظهرت قبل أغنية “قول إني منيح” (تحديداً في 8 فبراير 2011 في عز الثورة المصريّة)، فتبدو قصيرة الأمد منتهية الصلاحية عند العودة الأثيرة إلى الكوبليه (مبسوط ما بني شي)، مصحوباً بالقهقهات في الخلفية. الأغنية باختصار تدّعي اللا مبالاة تجاه العام، فيما هي لا مبالاة تجاه الخاص أو النموذج النضالي المقرّع فقط.
يسهل وضع هاتين الأغنيتين – كما أغنيات أخرى للفريق – في تضاد تام مع الأغاني الوطنية كما اعتادها المستمع العربي، وبخاصةً تلك العسكريتاريّة الصلبة منها التي لا تتورّع عن الطلب من المستمع بوصفه حاكماً أو محكوماً فعل الصواب. هما غريمتان فعليتان لهذه الأغاني الفخرية (المرحلية منها أو حتى المكرّس) التي تلعب على وتر الوطانويّة الرديئة، وتسبغ صفات متفوقة على شعب أو بلد أو مجموعة. نحن إزاء صخب أحكام متناقضة منذ بداية الأغنيتين إلى نهايتيهما، ومساءلات متعاكسة هي تماماً ما تظهر في رأس الفرد عندما يجد نفسه فجأة على عكس العادة جزءاً من حدث عام. الأغنيتان هاتان تبتعدان أيضاً عن التبشير الزاعق بوصفه حَنْجَرَة معتادة في المجتمعات العربية، تطمس الفرد لصالح العنوان العام، حتى نكاد “نجزم” أنهما تهمسان بخفوت لـ“جيل” الثورة: لا بأس أن تكونوا ضعفاء، ومهشّمين، وغير كاملين. بل ربما يحثكم كل ذلك على الابتعاد أكثر عن صلابة المعتقدات لصالح تقصي أمزجتكم المتناقضة بكل الحماس والملل الثوري الذي تحويه. الأهم أن تبقوا “مناح” بنظر أنفسكم أنتم.