عن الوطن والبتنجان ورقصات ليلى

كتابةوائل عشري - November 22, 2013

بلّشت الفرقة هيك إنه بس تسليه بالبار، وانفجرت” – أميّة ملاعب

كنا نعرف أننا ننجز هذا الألبوم ليُسمع ويباع ويُبث في الاذاعة. هذا الأمر غيّر الكثير في طريقة تفكيرنا في الكتابة والتسجيل. وأعتقد أنّ جميع المقطوعات أقصر وأكثر رزانة، كما باتت تملك خطاً واضحاً من أولها الى آخرها. حاولنا أن نعمل على الوضوح في المقطوعات، وخصوصاً في ما يتعلّق بالمعنى وبالموسيقى. وهذا لم يكن موجوداً سابقاً” – فراس أبو فخر (1)

مقدمة شخصيّة

تعرّفت على أسطوانة فرقة مشروع ليلىالأولى بعد إصدارها بفترة عبر أصدقاء في شبكات التواصل الاجتماعي، ووقعت في هوى أغانيهم على الفور. لم يكن الأمر أنهّم يعبرونعني، أو أنّني وجدت صوتيفي أعمالهم: ربما العكس، فقد رأيت دائماً بذاءة لا يمكن احتمالها في تصوّر أنّه يمكن لفنانٍ، أو كاتب، أن يعبّر عن صوتأي أحدٍ آخر، فرداً كان أو تيّاراً أو فصيلاً اجتماعيّاً. نفرت ممن يظن في نفسه، أو يُظن به، أنّه يفعل هذا: الثنائي إمام ونجم، ومحمد منير (بعد أن مررت بمراهقة الإعجاب بأغانيه)، مرسيل خليفة، وغيرهم. ما أعجبني في مشروع ليلىكان إسهامهم الشخصي، صوتهم الخاص الذي قدّموه، سواءً تناولت أغانيهم السياسة اللبنانيّة (ع الحاجز) أو المشاعر المثليّة (شم الياسمين)، أو الرغبة في الضياع التام في سياق مختلف (خليها ذكرى). ما ميّزهم، بالنسبة لي، إحساس ما بالهواية، بالمعنى الجّيد للكلمة. كانوا نفي الاحتراف، والاحترافيّة، والرّسوخ. كانوا فرقة المشروع اللّيلي الذي لا يريد أن يتحقّق في قيّم النهار، وضوءه القاهر.

لكل هذا، لم أتقبّل أبداً تلك المبالغات التي تحيط بالفرقة، والتي تصوّرها كما لو كانت تقدّم فناً غير مسبوق في عالم الغناء العربي. إذ تتضمّن هوامش الغناء العربي، بل ومتونه المتعدّدة، الكثير. وببساطة شديدة، لا يسمح تنوّع سياقات الموسيقى العربيّة بتبسيطها. فمن المغرب والجزائر، إلى مصر ولبنان والأردن، وغيرهم، كانت هناك دائماً تجارب فنيّة مختلفة عن السائد، ومقلقة له. ولو أن هذا الاختلاف ليس نقطة جاذبيّة في حد ذاته، وليس ضامناً للتحقّق الفني. فالاختلاف عن السائد ليس جواز مرور تلقائي إلى الفن. لم أتشارك مع الكثيرين ممن حوّلوا الولع بالـأندغراوندإلى فيتش يقترب من صنع هويّة، وغيتو صغير مختلف (كوول بطبيعة الحال) يواجه المجتمع الأكبر المهيمن.

مشروع ليلى،بالنسبة لي، فرقة جيّدة أحب موسيقاها، وأقدّرها، لكنّني لا أبالغ في تصوير مدى اختلاف ما تقدّمه. هكذا ترقّبت تحضيرهم لعملهم الثاني الحل رومانسي، وتابعت تطوّر نسخ أغانيه، وسحرتني فكرة العمل الذي يظل فترة في طور التكوين. تسمع أغنية قول إنّي منيحفي حفلات، وبرامج تليفزيونيّة، ثم تجد نسخة أخرى، تختلف كثيراً عن نسخة العمل، في الطرح النهائي. مثّلت لي متعة الهواية، والنسخ المتعدّدة، والتجريب المستمر، متعة تطوير العمل في لقاءات متعدّدة مع الجمهور، متعة الجانب الأدائي، غير المستقر، في فن لا يطمح بالضرورة إلى الاستقرار، ولا يثمّن القيم المرتبطة به.

عن احتلال الصوت

مؤخّراً، ومع التحضير لإصدار الأسطوانة الثالثة رقصوك، كان الأمر مخيّباً للأمل. إذ تكوّن خطاب حول الفرقة (أسهم فيه أعضاءها والمعجبون بهم) تحوّلت من خلاله إلى صوت ما للشباب العربي الثائر، إلى معبّر عنهم، أو معادل موسيقيّ للربيع العربي. في عرض لـرقصوكنُشر بجريدة الغارديان، نجد التالي: في تسجيلات مشروع ليلىالسابقة، يمكننا سماع صوت ]حامد[ سنّو آتياً من خلال ما يبدو أنه مايكرفون، كما لو كانت الفرقة، حرفيّاً، في مظاهرة احتجاجيّة، ربما حتى في ميدان التحرير.” (2)

نستطيع أن نرى هذا الخطاب بوضوح في الحملة التي أطلقتها الفرقة لتمويل إصدار العمل: نراه، بداية، في عنوانها احتلّوا موسيقى البوب العربيّة“. لم يكن الوعد فقط أكبر ممّا تستطيع فرقة أن تفي به: وعد ثورة موسيقيّة مصاحبة لثورة الشباب العربي، بل كمنت الإشكاليّة الرئيسيّة في غياب التواضع الذي يسمح للمرء برؤية إنجازات أخرى حقّقت بالفعل ثوراتصغيرة، واحتلالاتلمناطق مختلفة تماماً عن عالم الموسيقى العربيّة الأكثر حضوراً وهيمنة، سواءً كان هذا الحضور في أشكاله الكلاسيكيّة (أم كلثوم، فيروز، وغيرهما)، أو في أشكاله التجاريّة التي تسيطر عليها شركات إنتاج، وقنوات تليفزيونيّة، وفضائيّات.

يمكن رؤية اقتراب مشروع ليلىمؤخّراً من تصوّر قديم للعلاقة بين الفن والسياسة بمعناها التقليدي في أغنية ونعيد” – في الأغنية ذاتها كما في طريقة إصدارها المفاجئ لمواكبة حدث سياسي. (صدرت بعد تفجير ضرب الضاحية الجنوبيّة في بيروت، وراح ضحيّته ما يزيد على العشرين قتيلاً). الأغنية، كما في دقّة إيحاء عنوانها، هي إعادة لفكرة قديمة: الفن المواكب للأحداث السياسيّة، الفن المعبر عن مجموعة ما من البشر، الفن الهادف بشكل ما، والإيجابي، والباعث على الأمل. كان الأمر، مرّة أخرى بالنسبة لي، مقابلة غير متوقّعة مع كل ما يمثله موسيقيّ مثل مرسيل خليفة.

في الأغنية، وعلى إيقاع حماسي، يأتي صوت سنّو في صيغة الجمع فيناكأنّه فرد من جوقة، كأنّه فقد صوته، ويغني بحماس الجوقة. أمّا عن صور الصمود والأمل التي تقدمّها الأغنية، فلا جديد فيها. هي مجرد صور قديمة يُعاد تدويرها في سياق المنحى السياسي القاتم الذي أخذته الثورات العربيّة. تأمّل مثلاً المقطع الأول من ونعيد“: “فينا ننظر الفجر لنخلص عد النجوم/ ونعيد ونعيد ونعيد/ فينا نحمل الصّخر فوق الجبل ونرميه/ ونعيد ونعيد ونعيد/ فينا نفتح عينينا لما يرموا فيها تراب/ قلهم لسا شايفين/ فينا نرفض نأكل بعض ولو الناس شافت عظامنا/ قلهم مش جيعانين“. قارن هذه الصور المستهلكة، والصوت الجماعي الذي تصدر عنه بالصوت المفرد اللعبيّ، وبالمجازات والصور غير المألوفة في أغنية غداً يومٌ أفضلالتي طُرحت مستقلة، وبطريقة شبيهة لمواكبة حدث سياسي. ففي الأغنية الأخيرة، يحدث تدخّل في شأن عام، لكن على نحوٍ إبداعي شخصي. لا يتحول الفن إلى مانفسيتو لجيل، ولا يتلاشى صوت المغنّي ليحل محله حماس الجموع. أن يجد آخرون أن الحالة الشعوريّة تلك، وذلك الصوت المفرد المتخفّف من الثقل في غداً …يقترب من شعورهم، أو يعبر عنهم في لحظة معينة هو أمر يختلف جذريّاً عن أغنية تنطلق من حلم الصوت الجماعي.

بهذه الصورة تبدأ غداً …”: “مبسوط، ما بني شي/ مخبّى الشّمس بكرشي/ مالي عازه، بس مش مطوّل/ غداً يومٌ أفضل“. مرّة أخرى، قارن هذا الصوت الفردي، المتفائل ربما، الآتي إلينا بمجاز ساحر، لكن غامض، يحتمل الكثير من التأويلات مخبي الشمس بكرشي، قارنه بالصورة التالية المقبضة: “فينا نحلّق فينا نطير لما نرضى بالزحف“. ما الذي يمكن أن نفهمه هنا سوى أن خفّة صوت المغني في غداً يومٌ أفضل،ومجاز إخفاء كل ما هو واضح، وقاهر، ومهيمن، ومضيئ كالشمس، قد تحوّلت إلى ثقل الدعوة إلى زحفما مقدّس، عظيم، لا يمكن فيه تصور إمكانية التحليقوالطيرانسوى كأفعال جماعيّة، سوى كجزء من مسيرة كبرى يتوحّد فيها الفرد، ويغيب فيما هو أكبر، وأهم منه.

بقية هذه المقالة تناقش هذا الاقتراب المقلق من كلٍ من السائد، ومن صوت جماعي يمثل الشباب العربي الثائركما يظهر في الأسطوانة الثالثة من خلال مناقشة أغنية للوطن“.

عن النسيم والطيران: الخفّة المرفوضة

ونحن من نسيم منطير،ترد هذه الصورة في بدايات أغنية للوطنإحدى الأغاني الأبرز في الأسطوانة. الصورة، منفصلة عن الأغنية، هي مجاز الخفة المطلقة، رمز التخفّف من الأثقال: يخفّ أحدنا حتى يمكن أن يحمله النسيم، فيطير. الصورة ليست رومانسيّة بالضرورة، رغم معرفتنا، من مشروع ليلىبأن الحل الرومانسيأحياناً مش غلط“. بل ربما هي ]الصورة[ رمز الخفّة التي لا يشد من يستمتع بها أي شيء لأسفل. الطيران هو قرين التخفّف من الجاذبية، من الأرض، من المجتمع وقيوده. هو قبول الّلعب من الطبيعة، ومعها.

على عكس هذا الاحتمال اللعبيّ التحرري، تستبعد الأغنية الخفّة لصالح خطاب قديم. الأغنية ثقيلة قبل أن نستمع إليها: ثقيلة بعنوانها، بإشارتها إلى الوطن، إلى أن الغناء سيتّجه إلى فضاء توجد به أفكار وخطابات عديدة عن ذلك الذي يُسمَّى بـ الوطن“. لن يتّجه الكلام نحو الدولة، ولا السياسة، ولا موقع فرد ما من حدث ما. يخبرنا العنوان أنّنا في طريقنا إلى ذلك الكيان الميثولوجي الذي يُقهر باسمه أفراد وجماعات، الذي من أجل مصلحته العلياالمُتخيّلة لا يُسمح بأي اختلاف، عرقي أو نوعي أو جنسي. توقّعاتنا عن هذه المسيرة نحو الوطنثقيلة بالفعل، محمّلة بميراث طويل من الأغاني، أفضل من فيه ثقيل، أقرب من فيه إلى تعاطفنا قد تجاوزته الأحداث. توقّعات المتابع لأسطوانتي مشروع ليلىالسابقتين، أو تمنياته، أن تأتي أغنيتهم التي تحمل اسم الوطنعلى عكس السّائد.

غير أنّنا نجد، في سياق الأغنية، أن عدم الثبات، أن الطيران مع النسيم هو تقريباً معادل للتخلّف الحضاري. ذلك أن الصورة ترد مباشرة بعد صورة لإنجاز حداثي، يُفترض أنّه نهاية الأمل، يتم إسناده إلى غيرنا“: وهو إنجاز حضاري ليس أقل من السيطرة على الطبيعة ذاتها. “غيرنا روّض أعاصير، تقول الأغنية، تيتحكم بالمصير“. المقارنة هنا بين نجاح حداثي حقّقه أشخاص آخرون، ثقافة أخرى بالضرورة، وبين عدم ثباتنا على الأرض. صيغة الجمع هنا قوميّة وثقافيّة. هم، بأقدامهم الرّاسخة، الثابتة على الأرض، تحكّموا بالطبيعة، وسيطروا على المصير، بألف لام التعريف، لا مصيرهم فقط. مصيرنا في أيديهم إذن، وإنجازهم ليس أقل من تحقيق الحلم الأثير للحداثة في أقسى حالاتها تفاؤلاً.

لكن كيف فعلوا ذلك؟ لا تخبرنا الأغنية. هل الصورة مجرد مجاز يخلو من المعنى؟ ربما هذا هو المعروف من العالم بالضرورة؟ هذا هو المشترك، المتفق عليه مسبقاً، ضمناً، بين ليلى ومعجبيها الأوفياء؟ ربما هذا هو الصوت العام الذي يلتقطه مشروع ليلىفيطغى على صوتهم؟ يطغى على ذلك الصوت الفردي الذي قال في أغنية سابقة: “جاي عبالي أسافر/ …/ غيّر لون شعري/ زبّط مكياجي/ خبّي باسبوري/ …/ أتعلم صيني أو أرجنتيني..”

لقد تقدّموا، وتأخّرنا إذن؟ نحن والغرب؟ العرب واليابان؟ مثلاً؟ وكيف يؤثّر فيهم النسيم؟ فلنفترض أنهم (هم مروّضو الأعاصير) مر بهم النسيم؟ لنتخيّلهم تعاطوا الحشيش مثلاً فتخيّلوا النسيم يمر بهم؟ هل يطيرون؟ هل يفقدون ثباتهم الذي نتمناه نحن؟

كيف تتحوّل صورة الخفّة المطلقة، الصورة الأقرب إلى متعاطي مخدّرٍ ما، (أي الشخص الذي يتحدى القانون السائد بامتياز، يتحدى احساس السائد بالزمن والواجب)، إلى صورة لما يُرفض على إطلاقه؟ لما يُرفض بالضرورة، بداهة؟ بل كيف يحدث هذا على أنغام فرقة موسيقى بديلة؟ كيف تتحوّل الخفّة، بينما الحديث عن ثقل التكنولوجيا والسيطرة على الطبيعة وخطابات الوطن، إلى أمرٍ هكذا مرفوض ممن طلبوا قبلاً: “غنّيلي عن البتنجان، كل شي ماعدا كيف تعبان؟

والأهم هو: كيف تقدّم فرقة الموسيقى البديلةخطاب السّائد، خطاب الدولة والمثقّفين الرسميين عن تقسيم تبسيطي للعالم إلى نحن وهم؟ نعرف أن هناك تاريخ طويل من رثاء فشل الذات في مواجهة العالم الذي تقدم وتركنا وراءه، تاريخ يمتد لأكثر من قرن. أليس في هذا، ربما، نجد أحد مشاكل ذلك الشباب العربي الذي يُفترض أن يقدّم مشروع ليلىصوته: رفض السائد والتفكير بنفس مجازاته وأساليبه؟ مثلاً: رفض مرسيل خليفة وما يمثّله، والترحيب بتحوّل مشروع ليلىمن صوت مفرد، غريب وخاص، إلى معبّر عن جيل، وكأن مشكلة فنان مثل مرسيل خليفة كانت أنّه يعبّر عن شلةٍ أخرى، كأن الرفض لم يكن أبداً لذلك النوع من الفن في حد ذاته، ولمجموعة الأفكار التي تجعل وجوده ممكناً.

البديل والسائد

تلعب أغاني الفرقة منذ بداية مسيرتها على الحدود التي تفصل السّائد والبديل، التي تمزج بينهما أحياناً. تقترب بعض أغانيها على مستوى الأفكار والتصوّرات التي تقدمها من تراث فيروز وميراث الأغنية السياسيّة العربيّة. أنظر مثلاً كيف يتم استدعاء الثورة، والحب، والفشل في أغنية فساتين“. إذ أن ربط الثلاثي السابق شائع، خصوصاً إذا ارتبط بفشل الحب جسديّاً، وبعجز المثقّف الجنسي. مجاز العجز الجنسي كمعادل لغياب الفاعليّة السياسيّة هو أحد الصور الأثيرة في خطابات الذكورة الثقافيّة العربيّة. في فساتين، لا ترتبط الثورة بالفكرة الشائعة عنها، بل هي ثورة صغيرة، في علاقة بين شخصين، في وعد زواج، ارتباط عابر للأديان يحدث خارج سياق تصوّرات المجتمع التقليدي عن الحب، والزواج، ومستلزماته، وربطة العنق، والفساتين، وسيطرة الطائفة الدينيّة على السياسة والمجتمع اللبنانيين. الثورة تحدث في مكان صغير، محلي، وقد لا تراها العين التي تطمح إلى صورة كليّة، أو ثورة شاملة تقلب المجتمع رأساً على عقب. هي ثورة علاقة شخصيّة قد لا يستطيع أي أحد، غير من يتعلق بهما الأمر، والدائرة الصغيرة حولهما، رؤيتها. أما السياسة فليست السياسة العليا، سياسة من يحكم، ومن يفوز بمقاعد البرلمان. بل هي سياسة الحياة اليوميّة، سياسة ما هو شخصي وجسدي.

وبشكل عام يتم، في الأسطوانة الأولى، استدعاء تعبيرات من أغانٍ شائعة، فقط كي يتم إزاحتها عن سياقاتها المستقرّة، والتلاعب بها. “بتونّس بيك وانت معايا/ بتونّس بيك وبلاقي في قربك دنياياتظهر على غير توقع في سياق مقابلة مع مسلّح في أغنية ع الحاجز“. تظهر كأنها آتية من سياق آخر، كأنّها تقدم إيماءة لعالم آخر، كأنه يمكن مقاومة بذاءة حواجز الطرق، وحروب الطوائف بالحب، بتلك الرّقة التي لا يمكن قتلها. أما تك تك يا أم سليمانفتفتتح أغنية عبوةفقط كي يتبعها تك تك بوووم“. كأنّنا نقابل أم سليمان في فضاء مختلف عما اعتادته، واعتدناه منها. تأخذ ليلى أم سليمان في وقار اسمها، بصحبة دفء صوت فيروز، وما تمثله لأساطير الهوية اللبنانيّة، وتماسك شعب الدولة، إلى سياق متفجر، ليس بالضرورة سياق الحرب الأهليّة، وعنف السلم الأهلي، بل إلى أزمتها الكامنة فيها منذ البداية، إلى أسطورتها الذاتيّة. كأنهم قد أخذوا ما هو مستقر إلى ذلك الفضاء الليلي الذي تقابلوا فيه ذات ليلة، وخرج منه مشروعهم.

يمكن قياس الفارق بين هذا التلاعب من ناحية، وبين أجواء رقصوك” (بما فيها حملة احتلوا موسيقى البوب العربية“) من ناحية أخرى بجملة ترد في الفيديو الذي أعدّته الفرقة للترويج للحملة. تقول أميرة صلح، بالإنجليزيّة، ما ترجمته: “يالها من فرقة. كان من اللطيف رؤيتهم يكبرون من شيء بدا خارجاً من كراج إلى شيء يشبه معبد الشمس الروماني“. باختصار، الشمس، رمز السلطة والأب، تلك التي تعشي العين، تعميها، تلك التي تنظر ولا يُنظر إليها، لم تعد مخبأة في كرشالمغني في أغنية غداً يومٌ أفضل“. الشمس أصبحت في مواجهة عيوننا، والأسطوانة الثالثة، المكتملة تقنيّاً، المتخلّية عن أيّ إشارة لبنانيّة محليّة قد لا يفهمها الشباب العربي من خارج لبنان، سوف يحكينا عن كل قضايا العالم“. لقد خرجت ليلى على ليليتها إلى شمس النهار. أثقلت مشروعها بما يتطلّبه النهار، ويتخفّف منه الليل.

هكذا، يفرض سؤال الاستقلال عن السائد نفسه بقوة على ألبوم رقصوك“. ما هو معنى الاستقلال؟ ما معنى أن يمثل إنتاج فني ما بديلاً لما هو معروف، وسائد؟ هل يعني الأمر التفكير في طرق بديلة، مختلفة عن، ومفارقة لـ، وسائل السائد؟ عن الطريقة التي يتم بها التفكير في، تطوير، وإنتاج، واستهلاك مشروع فنّي ما؟ أم أن الأمر لا يتعدّى استبدال تمويل شركات الإنتاج، وربما الحكومات ودعمها الثقافي غير المتوفر، بتمويل بديل، بتبرّعات المعجبين، ودعمهم المادي؟ هل يعني الأمر أنّه قد يتم استخدام هذا التمويل البديل لسلك نفس الطرق السائدة؟ ماذا عن الأفكار، والمجازات، والحالات الشعوريّة التي يقدّمها ذلك البديل؟ هل يمكن للـأندرغراوند، ما هو مجازاً تحت الأرض، أن يثمّن الأرض، أن يعطينا صورة يصبح فيها التخفّف من تلك الأرض، ومن قيود جاذبيّتها، هو المعادل المطلق للفشل؟

ما الذي يتبقّى إذن من فكرة البديل؟ من فكرة استبدال السائد بما هو هامشي، مُهدَّد ومُهدِّد، وربما ينقصه الكمال التقني؟

تطرح هذه الأسئلة نفسها على مستوى المضمون الذي تقدّمه الأسطوانة، لكنّها موجودة منذ البداية أيضاً، في الحملة التي أطلقتها الفرقة لتغطية نفقات إصدارها. في البيان (3) الذي يتوجّه لمحبيها، تخبرهم الفرقة أنهم قضوا السنتين الماضيتينفي كتابة عملنا الثالث. لقد حبكنا أغانيه بعناية. اشتغلنا حروفه ونقاطه وسطوره“. تنقّلت الفرقة بين القارّات في محاولة لجمع المال الكافي لتسجيل الأسطوانة. أخيراً، حين بلغنا ما نحتاجه من ميزانيّة، سافرنا إلى مونتريال لنسجّلها في أحد أفضل استديوهات العالم“. تعدهم أيضاً أنها تتناول كل شيء، أي شيء. الحب، الشهوة، الحداد، الرقابة الاجتماعيّة، السياسة اللبنانيّة، الربيع العربي، والأهم من ذلك، الرقص“. واجهت الفرقة صعوبة الإصدار، بسبب الوضع السياسي في الشرق الأوسط، لكن، تعلن الفرقة: “نريد أن يكون عملنا أضخم إصدار موسيقي مستقل يشهده العالم العربي“.

هكذا تتحرّك الدعوة في نطاق أفكار سائدة مألوفة: فكرة النجاح والكمال التقني. النجاح الذي يعني التسجيل في أفضل استديوهات العالم، الذي يعني أضخم إصدار موسيقى مستقل يشهده العالم العربي“. قيّم النجاح، المرتكزة على الأفضل، على جمع ما يكفيمن المال، على السفر إلى الغرب حيث، ربما، مروّضو الأعاصير، تنتقل بسلاسة مدهشة من نطاق السّائد في نفس اللحظة التي يتم فيها رفضه. تنتقل من مجموعة الأفكار، وقيم الإنتاج التي يُفترض أن يخرج عليها الـأندرغراوند، ويطرح بدائله.

على نفس النمط تأتي الدعوة للتبرع فيما يشبه مانفيستو يحمل عنواناً يعكس التموضع ضد القطيعالذي يهيمن على أجواء الأسطوانة ذاتها:

لِتَسقُط خراف الفن

هنا يأتي دوركم أنتم. سنحتاج الى ما لا يقلّ عن 66000 دولار لتحقيق ذلك. علماً بأنه كلّما جمعنا المزيد من المال، كلّما زرنا مدناً أكثر وطوّرنا كليباتنا ونشرنا المزيد والمزيد من الموسيقى. ولكن بما أنه ما من مال ولا من دعم في الشرق الأوسط للفنانيين الضالّين الشاردين عن القطيعأو الموسيقيين الذين لم يخوضوا غمار التنفيخ والتكبير والسيليكون والبوتوكس، نطلب منكم أنتم المساعدة في تمويل ألبومنا الثالث.

ساعدونا على اثبات أن صناعة الموسيقى في عالمنا العربي ليست تعكس صورة شعبنا ولا ذوقه

ساعدونا لتتوقّف صناعة الموسيقى عن إعادة تدوير نفس النجوملكن بأسماء مختلفة

ساعدونا على المطالبة بفن أفضل

ساعدونا على المطالبة بالتنوّع في بيئتنا الثقافية

ساعدونا على إجبار هذه الصناعة للإصغاء الى الناس

ساعدونا كي لا يرقّصونا على أنغامهم وحركاتهم وتشتك طَمْ طَمَاتِهِم

ساعدونا على استرجاع البوب العربي

يتوجّه الخطاب، في التحليل الأخير، نحو الصناعة، نحو قانونها. لا ينفيها، ولا يتجاوزها: “ساعدونا على إجبار هذه الصناعة للإصغاء إلى الناس“. يتوجّه خطاب الفرقة إلى الصناعة باسم الناس، باسم الشعبوذوقه“. أي أن الأمر يحدث باسم أشد الكيانات القوميّة غموضاً. هكذا نفاجأ بأن الفرقة التي أحب الكثيرون هامشيّتها، وفرادتها، ترى نفسها في إطار أكثر أفكار الضبط الاجتماعي والسياسي قهراً: فكرة الشعب، وذوقه. الفرقة التي هي ضدالشعب، ضدأغاني الشعب وذوقه (كما يحدّده عدد لا حصر له من دراسات أكاديميين، وهواة فن شعبي، وجامعي فلكلور، وديماغوجيين، وبيروقراطيين، ومثقفين شعبويين يظنون بأنفسهم معرفة الشعب“) لا يبدو أنها تدرك موقعها من الخطابات التي تنفيها بالضرورة: ليس من المتخيل أن تروق جموع الناس (ولندع جانباً كلمة الشعبالإشكاليّة، خصوصاً حين يُطرح سؤال ذوقه“) لا أغانيها، ولا صوت مغنيها. التناقض الأساسي هنا هو كون الفرقة لا ترى طبيعتها، ولا طبيعة جمهورها الذي لا يمكن، بأي حال، وصفه بأنه الشعب“.

هكذا حين يضع البيان الفرقة ضمن الموسيقيين الذين لم يخوضوا غمار التنفيخ والتكبير والسيليكون والبوتوكس، لا يجب أن يفاجئنا أن يأتي خطاب النقاءوالطبيعيّةمن الهامش، من تحت الأرض. لقد وضعت الفرقة ذاتها بالفعل في سياق هو ضدالهامش. ما يجب أن يفاجئنا هو الجانب الذكوري النخبوي من الخطاب الذي يؤسّس لوصاية أخلاقيّة: الخصم هن نساء بالضرورة، مغنيات، ممن يتلاعبن بطبيعة أجسادهن، وهو أمر يبدو هنا وكأنه مرفوض أخلاقيّاً في حد ذاته. (4) لكن من يحدد هذا؟ من يملك هذه السلطة كي يطالب إحداهن أن تحتفظ بجسدها كما هو، كما يحدده هو؟ من يمكنه أن يحاكم صوت المغني في خليها ذكرى، إذن، حين يُعلن أنه يريد تزبيط مكياجهوتغيير لون شعره؟

يحمل الفيديو المصاحب نفس الارتباك. بينما يبالغ ضيوفه في الإعلاء من شأن مشروع ليلى،يظهر خطاب آخر ثقيل في كلام الفرقة عن نفسها: النضج. هكذا يصف حامد سنّو الأسطوانة الثالثة الذي يدعو الجمهور إلى التبرع من أجل إصدارها: “هادا السي دي كتير أنضج، وكتير أكبر، وكتير عنده بوتينشال [إمكانيات كامنة]”. هكذا نبتعد عن الهواية، عن الكراج الذي كانوا كأنهم خرجوا منه للتو. نقابل نضج الفرقة، نجاحها التقني، حديثها باسم ذوق الشعب، تحديداً في فيديو ترويجي، في إعلان، بالضبط كما قد تفعل الصناعة“.

من أجل أي شيء تكون التبرعات، إذن؟ هل ثمة تصور بديل يُطرح كي يحل محل فكرة الإصدارالتقليديّة؟ لا. التبرعات من أجل تصميم جميل، طباعة الأقراص المدمجة والملصقات، صناعة فيديو كليبات ذات قيمة فنيّة، حفلات موسيقيّة مع هندسة صوتيّة جيّدة“. باختصار، سوف يتم السير في نفس مسارات الصناعة لكن بدون أموالها، بتبرعات. سوف يأخذ الجمهور مكان الصناعة. يفسر حامد سنّو ضرورة تجنب الصناعة في الفيديو الترويجي كما يلي: “قوة هادا نوع العمل [الحملة] هو إنه مبنطر ناخد السي دي، عند شركة إنتاج مثلاً متزمته أو متعجرفه بطريقة معينة يقولون إنه ليقدروا يسون السي دي لازم يزيدونا عليه دربكه ورقاصة“. هكذا نقابل الرقص مذموماً، نقابل الراقصة كمعادل لإنحطاط ما، لتجاريّة تعتمد الجسد، وتُلهى عما هو أكثر قيمة.

على أي حال، يحتل جمهور ما متحمس لـمشروع ليلىمكان الصناعة. لكن هل يدفع تبرعاته فقط من أجل فن فردي قد يدخل عالم السياسة، وقضاياها، لكن من منظور مفرد؟ أم أن التبرع يفرض شروطه؟ أليست الهبة، الهديّة، ديناً على أي حال؟ ألا يُتوقع ردها؟ للجمهور إملاءاته أيضاً. له توقّعاته. له صوته الذي يمنحه لـ مشروع ليلى، صوته الذي يعود إليه في مقابل النقود. الأمر محض تبادل: المال مقابل الصوت. والرّقص الفردي في أغنية رقصة ليلى” (في الأسطوانة الأولى) يتحوّل إلى طيران، وتحليق زاحففي أغنية ونعيد، تحليق يشبه الزحف المقدس، طيران نضالي جماعي.

رقصات ليلى

ما الذي يحدث بعد أن تبدأ أغنية للوطنبخطاب السّلطة الذي يقوم بتقسيم سطحي للعالم يتضمن، بالضرورة، رثاءً للذات، لفشلها في مواجهة عالم مختلّف تقدّم؟

كلما استمعنا أكثر كلما اتّضح لنا أنه لا يوجد أي رفض مبدئي لميثولوجيا الوطن“. الإشكاليّة التي تقدّمها الأغنية ليست في هيمنة خيال الوطن وقوة اسمه القامعة، الهادفة لنفي الاختلاف. الموقف المأساوي النبيل، المعتاد في خطابات الثقافة والفن التي يُفترض أن تكون الفرقة قد تجاوزتها، وأنها لا تتفق مع ذوق معجبيها، هو أنّنالم يُسمَّح لنا بتغيير الوطن، الوطن تحديداً. الأمر هنا لا يقدم أي طرح مختلف، بديل لفكرة الوطن.



تتوجه الأغنية بصيغة الُمخاطب. الخطاب للذات، أو لآخرين يشتركون مع الذّات في نفس الحالة. تضع الأغنية هؤلاء في مواجهة القطيع“: “وبس تتجرّأ بسؤال عن تدهور الأحوال/ بسكتوك بشعارات عن كل المؤامرات/ خوّنوك القطيع كل ما طالبت بتغيير الوطن/ يأّسوك حتى تبيع حريّاتك لما يضيع الوطن“. لقد تم تشييد العلو الأخلاقي التقليدي في الخطابات الشبيهة. الذات التي أصابها الفشل، وبالتالي اليأس، في مواجهة قطيع بلا عقل، ولا منطق. لكن، ألا يُنتج هذا التوحد قطيعاً آخر؟ بالتحديد: قطيع الثورة؟ ما هو القطيععلى أيّ حال سوى مجموعة من بشرٍ تتوحّد حول تصوّر ما، ترى صحّته المطلقة، وتجد ذاتها عبر تلاشيها في نشوة التوحّد مع آخرين، في تعريف الذات في انتمائها إلى كلٍّ أكبر، وأهم من أفراده، في الطيران الجماعي، وفي زحفٍ مقدّسٍ ما؟ أليس للثورة قطيع، وميثولوجيا، وقوة قهر أيضاً؟ غير أن قطيع الثورة الُمفترض هذا أشدّ شراسة من القطيع الآخر، لأنّه مسلح، في يأسه النبيل، بعلوٍ أخلاقي، بإيمان شبه ديني يضعه في مرتبة أعلى من أي قطيع آخر، ويُمكنَّه من إصدار أحكام مطلقة، وترهيب أي فكر نقدي، أو غير نقدي، تقليدي حتى، إن اختلف معه، أو أخذ أي مسافة منه. فكّر، مثلاً، في الخطاب عن الشهداء في السياق المصري. كيف يصبح أحدهم صوتاً لهؤلاء الغائبين؟ كيف يمكن لأحدهم أن يحكم على أي أمر، وأي شخص آخر، من وجهة نظر الشهيد الغائب الذي يتم تقمّصه. أيّ يتحول، إذا استعرنا كلمات من أغنية عبوة، إلى سلطة معنويّة قاهرة تتمثل شهيد خلف الستارة بدّه يهيمن على السوق“.

في استدعاء هذا الفشل النبيل، وما يتبعه من علوٍ أخلاقي له قلب جريح، تتبدّد أي إمكانيّة لتحرّر الفرد بدون إعادة إنتاج شخصيّة المثقف/ الفنان/ اليساري النبيل، المثقل بالفشل، ليس لعيبٍ فيه، بل لأنّه يواجه مجتمعاً متخلّفاً من قطعانلا تريد سوى ما هو مستقر، وسائد، ومألوف.

غير أن الصّادم أكثر هنا هو استخدام نفس مجازات السّلطة التي تُحرك هذا القطيع. يبدأ هذا من خطاب الوطن نفسه، في طرح الأمر كتغيير للوطن، لا الدولة مثلاً، ولا المجتمع. ثم يأتي الرّقص متخذاً صورته التقليديّة في خطابات المثقفين: الرقص كإلهاء عمّا هو أهم، عن الوطن، والمجتمع، وقضاياه: “قالولك:/ حاج تبشر، تع رقصني شوي/ ليش مكشر، تع رقصني شوي“. القطيع هو من يقول، هو من يبشّر، ويدعو للرقص. الرقص، ذلك المعادل لكل لعب جسدي أو عقلي يتحرّر من القيود، يتم رفضه، مثله مثل الطيران مع النسيم. كل مجازات الخفّة مرفوضة هنا.

يؤكد فيديو الأغنية على ذلك. المسرح الذي يشبه مسارح الدرجة الثالثة، ترقص فوق خشبته العارية راقصة تتمايل. الرقصة شرقيّة: هزّ بطن. وحامد سنّو يغني، ولا يرقص، فقط يهز كتفيه مرة أو مرتين هزّات سريعة تناسب الدور الذي يلعبه المغنّي الذي يبيع صوته كخلفية لجسد أنثوي مغري، ومُغيِّب، بينما الجمهور يتصرّف مثل قطيع ألهاه الرقص بالفعل، ألهته ملذّات الجسد، واشتهاء الراقصة.

يبدأ الفيديو بلقطة عن قرب لجسد الراقصة، في صمت يسبق صوت الموسيقى، يسبق الغناء. اللقطة تُقدّم جسد راقصة بلا وجه. وجهها لا أهميّة له هنا، والعدسة التلصصيّة تُقدّم لنا الجزء الأعلى من ظهرها. هي عارية سوى من الشريط الخلفي لحمالة صدر، وأول ما تفعله هو لمّ شعرها إلى الأمام. وعد الغواية حاضر. هكذا، حين تبدأ الموسيقى، تبدأ معها حركة جسدها. في سياق آخر، ربما يتمناه محبّو مشروع ليلى، كان يمكن فرض حضور هذا الجسد على خطاب الوطن الذي يمحو الأجساد، ويصنف الرّغبات، ويراقبها. هنا، هذا الجسد الذي لا وجه له يعادل الغياب، يعادل الانحطاط. هكذا تتراقص، وتبتعد الكاميرا كي نرى الجسد كاملاً، الجسد من الخلف، وراءه ستارة تلمع، لمعة رخيصة. الإغراء رخيص هو الآخر مثل المسرح. والجسد أيضاً رخيص لأنه يُقدم كمجرّد مخدر“.

حين تلتفت الراقصة، تعطينا ابتسامة سريعة تغيب على الفور. هي مستغرقة في جسدها. وحين يظهر سنّو، نراه في الخلفيّة، بالقرب من الستارة الرخيصة اللامعة. هذا هو الدور المرسوم في خيال الفيديو. بل أنه في لحظة معيّنة، ومن زاوية رؤية الكاميرا، التي تصبح زاوية رؤيتنا نحن أيضاً، يفرض جسد الراقصة وجوده على وجود سنّو، فيغيب جسده وراء جسدها. في لحظة أخرى، قرب النهاية، تقترب الكاميرا جداً من الراقصة. تقترب من صدرها الذي يهتزّ مع إيقاع الموسيقى. تدعونا يداها إلى الانضمام إلى رقصتها. هي دعوة القطيعفي خيال الأغنية، والفيديو. تظل الكاميرا تقترب من، ثم تبتعد عن، صدرها. يصبح صدر الراقصة هو مركز الفيديو، ولا نعرف إن كان علينا أن نشعر بالذنب إن اشتهيناه، إن رأينا جماله. نعرف أنه من المفترض أن نرى أي شهوة هنا كمعادل لغيابنا عن قضايا الوطن. أي اشتهاء هنا يعني أن القطيعقد انتصر علينا. هكذا، حين تدور الكاميرا حول جسد الراقصة، حين ترقص الراقصة دائرةً حول جسدها، نشعر بالدوار فعلاً. ما الذي تتوقع منا ليلى أن نفعل، أن نشعر، خصوصاً إن لم نتشارك معها في قبول أن جسد الرقصة يعني انحطاطاً ما؟

المشهد بأكمله مربك لمحبي مشروع ليلىالأوفياء، حتى أن كثيرين ودوا أن تكون الرّاقصة (راندا مخول) راقصاً ذكراً يرتدي ملابس الرقص النسائيّة. هذه الرغبة تنطوي، بكل تأكيد، على حيرة رؤية مشروع ليلىتساهم في خطاب قديم عن الرقص، والانحطاط، وجسد الراقصة، وربما جسد الوطن أيضاً في تمثيلاته البصريّة والمجازيّة الأشد ذكوريّة.

يتأكد الاعتماد على مجازات السلطة مع: “خدّروك بالوريد، قالوا خمولك مفيد، للوطن“. نقابل خطاب التخدير، والمخدّرات، وغياب الوعي، والخمول. خطاب المخدّرات هو بالأساس خطاب السلطة والقانون والضبط الاجتماعي. هو سؤال المقبول اجتماعيّاً، والسلوك القويم، وكل ما يتم نفيه خارج إطار المسموح به. هو خطاب الأب، والدولة. خطاب نجيب محفوظ في ثرثرة فوق النيل، وسعد الله ونّوس في الأيّام المخمورة.” تعاطي المخدرات هو معادل غياب الفرد، المواطن، الفاعل، المنتج، المشارك في بناء الدولة والمجتمع. جريمة المخدرات هي نفيها لسلطة المجتمع الذي يضبط أفراده، ويطالبهم بالكفاءة، بالإنتاج، بالحفاظ على الجسد من أجل الدولة، والوطن. المخدرات هي ضد الوطن، وزمنه. والغائب عنهما لابد أن يعاقب، في المجاز، وفي القانون.

لهذا يأتي اليأس التام في أغنية رقصوكالتي يمكن اعتبارها أنّها تتبع حالة ذلك الُمخاطب بعد أن دُعيَّ إلى الرقص واستجاب. بعد أن رقص مع القطيع“. يتأكّد هنا الاستخدام السلطوي لمجاز الرقص: “كان فيه خيار وإنت رقصت، كنّا أحرار وإنت رقصت/ بالانتحار وإنت رقصت“. نحن هنا في فضاء مألوف: نبل هزيمة المثقف، وانتحاره كحل. نحن هنا لم نبتعد كثيراً عن فضاء السلطة التي نرفضها.

المخيّب للأمل هو كيف ابتعدت ليلىتماماً عن رقصتها الفردية في الأسطوانة الأولى للفرقة. في فيديو رقصة ليلىيقف أفراد الفرقة في مطبخ، يغنّون من مطبخ، يمسكون بما هو نيّئ من الطعام. هم في مرحلة رفض النضج. يطلبون أن نغنّي عن البتنجان، لا المسقّعة“. نغنّي عن البتنجان نيئاً، قبل الطهي. هذه قيم الليل، طبيعة المشروع الليلي. خفّة ولعبيّة أفراد الفرقة لا يمكن أن تفوتنا. نراهم يرقصون تحت مطر، يرقصون ضد المطر، بينما تمرّ طيور على ما يبدو أنه نصب تذكاري لباذنجانة عملاقة. الخفّة تسيطر على الفضاء نفسه، على فضاء المدينة. في ذلك الفضاء، لن يتمكن أي أحد من تمشيط شعرنا، وإرسالنا إلى الدوام. هذا هو ما ابتعدت عنه ليلى“. ففي ونعيدتمشّط لنا، هي بالذات، شعرنا وترسلنا إلى دوام آخر، إلى نضال، رقص جماعي. تنسى الرقصة القديمة، رقصة البتنجانتلك التي تغيب تماماً، مثلها مثل كل ما يتّسم بالخفّة، عن أسطوانة النضج، والنّقاء، وضخامة الإنتاج، والكمال التقني.

رقص نسخة عمل: مقارنة ختاميّة

في النّسخ المتداولة لأغنية للوطنمن حفلات سابقة على إصدار العمل، يبدو الاقتراب من السّائد أقل صرامة. يتواجد في هذه النسخ نفس الخطاب السّلطوي الذي يربط المخدرات/ التخدير، الحشيش تحديداً، بالضياع والفشل: “ما بيسمع بلا بخشيش، مشغول ببيع الحشيش/ للوطن“. الحشيش هنا يتعاطاه الوطن، لا القطيع المفترض، والسّلطة المتوقع منها حماية وعيه ويقظته هي التي تبيعه له، لا تمنحه حتى مجّاناً. لا تتبرّعله بذلك الحشيش. الأمر تبادل تجاري/ مالي بين الوطن والسلطة.

غير أنّه ثمة مسافة تأخذها كلمات الأغنية بعيداً عن خطاب الدولة، واصلاح الوطن، وتغييره. الخطاب أكثر فرديّة، والوطن يبدو كخطاب قاهر يتم استخدامه من أجل قهر الأفراد، ومحو اختلافهم: “بس لأني لابس ريش/ باكل كف باكل تلطيش،/ بالوطنمع هذه الصورة التي قد تكون مجازاً لمعاقبة الاختلاف، نقترب من الطيران، من إمكانيّة الطيران التي يتم عقابها من قبل السلطة، كما من مشروع ليلىباستبعادها من النسخة المعتمدة التي تضمنها الإصدار.

خطاب الوطن كما يظهر في نسخة العمل هذه هو خطاب ضبط اجتماعي: “علّموك النشيد/ قالوا عذابك مفيد، للوطن“. هنا، مع ذكر العذاب، يرقص سنّو. يرقص كثيراً. يغيب تقريباً عما حوله. عن كلمات الأغنية، عن الوطن. بل يبدو مخدّراً. يبدو وكأنه قد تقمّص روح شخص يرقص بعد تعاطي المخدّرات، بعد الخروج عن سائد، وميثولوجيا الوطن، وأوهامه.


الأكثر أهميّة أن الأغنية يغيب عنها الإحكام الشديد: تبدو بعض أبياتها كأن لا معنى محدد لها. أنظر مطلع الأغنية: “قوم فسّر لك كيف تعيش، بنزل لفرن مناقيش، بالوطن“. تصفّح النسخ المتداولة للأغنية على اليوتوب يعطينا صورة سريعة عن حيرة متابعي الفرقة في تفسير بعض كلمات الأغنية، ومتعة الكثيرين المستمدة من تبادل التفسيرات المحتملة.

الاقتراب من خطاب السلطة في النسخة النهائيّة التي تضمنها الألبوم يتأكد أيضاً من مقارنة المقطع الختامي في النسختين. في نسخة حفلة شاركت فيها الفرقة بسويسرا في تمّوز/ يوليو 2012، يغنّي سنّو، يغنّي بينما يرقص. وبعد أن يأخذ كفايته من الرقص، ومع غياب قالولك، مع غياب أي إشارة إلى القطيع“/ حين تأتينا كلمات حاجي تبشّرتكتسب العبارة نبرة تهكميّة، ساخرة من أوهام الوطن، من هؤلاء غير المعرّفين ممن يتحدثون عن لبنان كأنّها سويسرا الشرق“. نقابل هنا صورة من تلك الصور المميّزة لأعمالهم القديمة، صورة آتية من السياق اللبناني المحلي، محملة بالكثير من التهكّم والسخرية: “بيحكوك عن سويسرا الشرق/ كأن جنيف عاصمة لحرق/ الدواليب بالطرقات، وقطّاعين الطرقات“. قد لا يفهم غير اللبنانيين المعنى هنا. ما هي الدواليب؟ وماذا يعني حرقها؟ من يحرقها؟ لهذا ربما يتم حذفها من النسخة النهائيّة. التناقض هنا أن شعبيّة الفرقة تكوّنت من أغاني أسطوانتهم الأولى التي تحتوي على إشارات محليّة شبيهة.

هكذا، حين نسمع تع رقصني شوييكون النداء صادقاً. يكون الرقص خروجاً على ذلك العذاب الذي سببه استخدام اسم الوطن. وتصبح ليش مكشّردعوة للخروج من أي احتمالية للوقوع في يأس يدفع لاختيار الانتحار مثلاً. لهذا، تكون النهاية كأنها دعوة وأمر: “تع رقصني شوي“. بعدها يغيب صوت سنّو، ويكف هو عن الرقص، فقد أنهى ما هو على المسرح من أجله. لقد دعى من يستمع، من يرقص معه، لاستكمال الرقص. كأن الرقص، حرفيّاً وكمجاز لتحرّر الجسد والفكر من جاذبيّة الأرض، هو دعوة لـأندرغراوندحقيقي يمكن فيه تخيّل خطابات، ومجازات خارج ما رسمته لنا خطابات السلطة، دعوة خارج الجاذبيّة. هو اختيار آخر كان من الممكن أن يأخذ مكان ثنائيّة الانتحار، أو التحليق الجماعي المقدس، في الإصدار النهائي، الأضخم، الذي تم تسجيل أغانيه في أحد أفضل استديوهات الصوت في العالم.

الهوامش

(1) من مقال بجريدة الأخبار اللبنانيّة: http://www.al-akhbar.com/node/189745

(2) http://www.theguardian.com/music/musicblog/2013/sep/13/mashrou-leila-lebanese-arab-politics

(3) يعتمد هذا المقال على الترجمة العربية للبيان الموجودة في الموقع التالي: http://www.zoomaal.com/projects/mashrou-leila–raasuk/447

(4) يختلف هذا النوع من النقد الأخلاقي الذي يرى تغيير طبيعة جسد ما كمضاد لنقاء ما، يختلف عن، مثلاً، النقد النسوي أو النوعي لتغيير معالم جسد ما كي يتوافق مع النظرة الذكوريّةأو مع أفكار المجتمع عن الرجولة والأنوثة.

الصورة للمصوّر الفوتوغرافي الحسيني محمّد، من مدوّنته  (ملاحظة: الصورة حُذِفت من الموقع)

تُنشر هذه المادة بدعم من صندوق شباب المسرح العربي (YATF)