.
في ظلال في الليل الصادر في ٢٠١٥، بدأ بوب ديلان حقبةً أساسها استعادة أغانٍ أمريكية أيقونية من العشرينيات إلى الستينيات، أديت جميعها من قِبَل سيناترا، سواءً أكتبت له أو أداها في إحدى الحفلات. تَبِع ظلال في الليل بـ ملائكة متساقطة الصادر العام الماضي، ثم تريپليكِت الصادر هذا العام، والذي أثار تساؤلات حول سبب حفاظ ديلان على الصوت ذاته عبر ثلاثة ألبومات، هو الذي لم يلتزم بنفس الصوت لأكثر من ألبوم واحد (أو اثنين في بعض الاستثناءات) منذ أواخر الستينات. يبرز تريپليكِت، أطول ألبومات الحقبة وأكثرها احتفاءً نقديًا، الإمكانيات التي عثر عليها ديلان في هذه الألبومات، ومكانها في مشروعه ككل.
أشير إلى ديلان مؤخرًا على أنه الفائز الوحيد (حتى الآن) بجائرة نوبل الذي ظهر في إعلان لـ ڨيكتورياس سيكرِت. يتسق الإعلان الشوفيني مع كتاب بوب ديلان في أمريكا، والذي كان عنوانه الأصلي أمريكا في بوب ديلان، لكاتبه شون وايلتز المؤرخ الحاصل على إقامة في موقع بوب ديلان الذي يطرح سؤال: “ما الذي تخبرنا إياه أمريكا عن بوب ديلان، ومالذي تخبرنا إياه أعمال بوب ديلان عن أمريكا؟”
إذا نظرنا إلى مشروع ديلان دفعةً واحدة بكل حقبه الرئيسية والفرعية المتباينة، لوجدنا توجهًا نحو تأريخ أحد جوانب الهوية الأمريكية القومية وتحويله إلى تراث. استمد ديلان بنهم من شخصية الرجل الأبيض ابن المجتمعات الزراعية أو المدن الصناعية الكبيرة، خاصةً خلال حقبة الحلم الأمريكي المضطرب ما بين عشرينات وستينات القرن الماضي، بكل ما حملته هذه الحقبة من ازدحام ودراما آتيين من الحربين العالميتين وعصر الجاز بينهما، ومن العصر الذهبي الأول لهوليوود. بالمثل، حاول ديلان عبر استعادات واقتباسات جادة وغزيرة للبلوز المساهمة في تشكيل تراث شخصية الرجل الأمريكي الأسود من ذات الحقبة، لكن هذه الأعمال – رغم نجاحها جماليًا – تبقى دخيلةً وغير ذات ثقل عندما توضع في سياق التتريث، إذ تعجز عن تسلق جدران عرقية لا تكفي أي كميات من التعاطف والتقارب والاحترام لتسلقها.
حوَّل ديلان الروح والجماليات التي استخلصها من الشخصية الأمريكية إلى نجاح غير مسبوق، ليصبح أحد أكثر الموسيقيين المعاصرين استعادةً (أكثر موسيقي فردي، والثاني بعد البيتلز وفق إحدى القوائم الإحصائية). بفضل سعة الأثر التراكمية هذه، كان لديلان دور رئيسي في تشكيل الموسيقى والفن الرائج المعاصرين في الولايات المتحدة، وبالتالي كان لأعماله دور في تقرير أي جزء من شخصية الرجل الأمريكي الأبيض من تلك الحقبة سيغدو تراثًا، وأي جزء من هذه الشخصية سيبقى مجرَّد تاريخ.
بعد تفرغه خلال مطلع الألفينيات لعدة أعمال حاولت (مجددًا) الولوج إلى تراث أمريكا السوداء، عاد ديلان في الألبومات الثلاثة الأخيرة إلى شخصية كان لها تأثير عميق عليه. في مقابلة سبقت صدور الألبوم بأيام، قال ديلان أن سيناترا أخبره ذات مرة: “أنت وأنا يا صاح، نحن من أعلى” وأشار إلى النجوم، بينما عقَّب ديلان: “أتذكر أنني فكرت حينها بأنه على حق.”
قد يكون هذا التقديم مسهبًا، لكنه ضروري لمتابعة أعمال ديلان المركزة على التفاصيل بشكلٍ متزايد. نجد في تريپليكِت على وجه الخصوص تأثرًا بالأدب الأمريكي الأبيض، لا كلماتيًا بل على مستوىً تأليفي وتوزيعي، متعاملًا مع الآلات والأسطر اللحنية والإيقاعية تعامل الكاتب مع الجُمَل. طالما تستطيع الأغنية الاستمرار دون هذه الآلة أو ذلك اللحن فستفعل. حتى هامش البهرجة الضئيل الذي طال توزيع ظلال في الليل وملائكة متساقطة لم يعد مقبولًا. أكسب هذا النحت أصوات الأغاني جزالةً ذات وقع، نسمعها في افتتاحية الأفضل ما زال قادمًا، وجيزة ومقنَّنة لكن مفعمة بالشخصية، بينما تنضم الآلات النفخية إلى الأغنية بالتقسيط البطيء كي لا يبدو دخولها فظًا. في كان بوسعي إخبارك، تجيب مقدمة الأغنية على سؤال: ما أقل عدد ممكن من النوطات يمكن عبره إرساء مزاج أغنية؟ في هذه المعادلة يبدو ديلان كقاضٍ يطبق القانون على نفسه كما على سواه، يغني بتركيز من يدخل خيطًا عبر رأس إبرة، وبأريحية من بات له يدخل الخيوط في رؤوس الإبر لأكثر من نصف قرن.
تتأثر هذه الاستعادات أيضَا بعصر هوليوود الذهبي الأول، والذي امتد كما الأغاني من العشرينات المتأخرة حتى الستينات المبكرة، وكان كما الأغاني أبيضاً بشكل شبه تام. يتضح هذا التأثر بشكل حرفي في الأغنية المصورة الوحيدة من الألبومات الثلاثة، ذ نايت وي كولد إت أ داي. لكن التأثر يطال أيضًا التوزيع الذي يُحرِّم قرع الطبول إلَّا باستخدام رِيَش، ويحافظ على كونترباس مستمر في الخلفية، معيدًا خلق جو الحانات المثقلة بالدخان ورائحة الويسكي، بينما يتقمص ديلان شخصية مغنٍ في كازينو فيجاسي، يلتهي بأغانيه عن الراقصين، ويلتهي الراقصون بحبيباتهم السريَّات عنه وعن أغانيه.
تخبرنا أغاني الانفصال التي تشكل حصةً سخية من أرشيف ديلان الكثير عنه، إذ تكشف عن ازدواجية مألوفة لدى الفنان أو المثقف الأبيض، قائمة على وعي مفرط وفلسفة مستمرة للحياة، مقابل الرغبة في التمسك / العودة إلى أصول بدائية أكثر رجولة ازدواجية تدور حولها مسرحية تاسو لجوتة، وبشكل ساخر فيلم رصاصات فوق برودواي لوودي آلن. منعت هذه الازدواجية ديلان من الاتسام بالاتزان والوقار في أغاني الانفصال؛ عند العودة إلى أغانيه الأقدم، نسمع في كل شيءٍ انتهى الآن حبيبتي الحزون مرارة غامرة توكِّدها محاولات التحايل عليها، في ستمضين في طريقكِ وأنا في طريقي مرحًا وعجرفة شديدي اللحظية والهشاشة، ربما اختلسهما من جرعة مسرفة من الكحول أو المخدرات. حتى أغنيته الأكثر إقناعًا ليس أنا يا حبيبتي، لا يمكن وصف مزاجه فيها بالإيجابية. في أعماله اللاحقة بدأ ديلان يسمح لنفسه بمساحات أوسع من الصراحة، مفضلًا عدم إهانة الحب (وما ينتج عنه من ألم) بادعاء الكبرياء، وكاشفًا مشهدًا مختلفًا، مشهد يصفه المثل السوري “الدم وصل للركب” بدقة. في أدفع بالدم يقول مزمجرًا بتوعد: “منقوعًا بضوء الشمس الهاوي من السماء / سأرجمك للموت، ستدفعين الجزاء / عاجلًا أم آجلًا، سأرصد لك زلَّة / سأكبلك بقيودٍ تذيقك المذلَّة / أرجلكِ وأيديكِ، الجلد والعظم / أرفض الاستدانة، فأدفع بالدم”. أما في بعد منتصف الليل بقليل يكتشف ديلان أن معشوقته بصحبة رجلٍ آخر، فينتقل من غزلٍ شاعريٍ مرهف إلى “تأخذهم السكرة / لكن ما الفكرة؟ / طالما سينتهي عشاؤهم بتحليةٍ من القتل / دون جوان النساء / نكرة ومليء بالهراء / سأجرجر جثته عبر الوحل”. إلَّا أن المبالغة في الغضب كما المبالغة في ادعاء الكبرياء تشوِّه الواقع.
خلال العقدين الأخيرين، بدأ ديلان في حالات قليلة ومتقطعة – مثل ميسيسيبي وثنجس هاف تشاينجد ودوكِنس ويسل – بالعثور على لغة للصراحة المعتدلة في قالب المرثية، مستخدمًا المرثية كوسيط للحديث أكثر منها غايته. تقوم الألبومات الاستعادية الأخيرة على المرثيات بشكلٍ شبه حصري. تعلل أولى أغاني تريپليكِت نهاية علاقة بوجود رجل آخر، بينما تحمل الثانية اسم سبتمبر (خريف) حياتي، الثالثة ترثي فترة مهدورة لتجنب الدموع، وصولًا إلى الأغنية الختامية لماذا خلقت؟، والتي يختصر عنوانها السؤال “لماذا خلقت لأحبك؟” على هذا النحو في إشارة إلى الجذور الوجودية للأزمة العاطفية، حيث تغدو العدمية والوحدة الخاصة وجهان لعملة واحدة.
تلبي هذه الأغاني تعطش ديلان للاتزان، فمن ناحية هي مكتوبة مسبقًا في فترة ما بين الحربين أو بعد الحرب العالمية الثانية، من قبل رجال أخمدت إحدى الحربين أو كلاهما افتقارهم للبدائية. من ناحية أخرى تمتلك مواضيع الأغاني مصونيةً إزاء اختلاف الزمن والبشر، فالتحسُّر هو التحسٌّر، الوحدة هي الوحدة، وكسر القلب هو هو، منذ مائة عام وحتى اليوم، عند نيتشه كما عند جوني كاش، بالإمكان فلسفته أو التعبير عنه بتشابيه ريفية دون مسِّه باختلاف جذري.
شجع ديلان على استعادة هذه الأغاني أيضًا كون معظمها قد كتب وانتشر على هيئة نوط موسيقية أو فولكلور، متاحة ومكتوبة للتداول العام لا لموسيقيين محددين، خصوصًا ما كتب منها قبل عصر التسجيل في منتصف الثلاثينات. بالتالي يمكن النظر إلى جميع النسخ التي سجِّلت من هذا النوع من الأغاني كاستعادات كون لا نسخةً أصل لها، ما يجعل معركة تملكها لا تزال مفتوحة ولو من زاوية ضيقة. يبحث ديلان عبر الألبومات الثلاثة، ويعثر في تريپليكِت على وجه الخصوص، على أفضلية حقيقية في المنافسة الممتدة لقرن لتملك هذه الأغاني أو بعضها.
“أنا شخصٌ عاطفي / أمشي تحت المطر الغزير / لدي بعض العادات / لا أجد لها تفسير / قد أغادر المنزل متوجهًأ إلى زاوية (الشارع) / أمشي وينتهي بي الأمر في إسبانيا / فلم تحاولين تغييري الآن؟ (…) ألا تذكرين / كيف كنت دائماً مهرجاً في بلاطك؟ / فلم تحاولين تغييري الآن؟” – لم تحاولين تغييري الآن / ظلال في الليل
لا يختلف مدى اجتهاد ديلان في ألبوماته الجديدة بقدر ما يختلف المقياس الذي يعمل وفقه. هو الآن أكثر استغراقًا بتفاصيل دقيقةً تتيح له إمكانيات واسعة. لا يزال منهمكًا بتشكيل التراث الموسيقي الأمريكي، جزء منه على الأقل، سواءً تم قبول مساهماته الجديدة أم لا. ولا يزال بعد أكثر من خمسة عقود من الشهرة، وأكثر من خمسة عقود من علاقة بالإعلام تلخص بالخفاء أو الظهورات الغامضة، يمتلك أسرارًا يعترف بها، كإنسان وكموسيقي، أسرار قد نكون خمَّنا الكثير منها على مدى السنوات، لكن لا يزال هناك حاجة غير مشبعة لسماعه يقولها بنفسه.