.
في رحلة بحث عن أهازيج الزار على الإنترنت ظهرت لي صالحة يا صلوح على أحد روابط جوجل، لأتبين بعد ثوان قليلة أنها لفريق الطنبورة البورسعيدي. لم أكن قد سمعتها من قبل على الرغم من معرفتي بالفريق عن قرب. بعد وقت ليس بالطويل، اكتشفت أن للأغنية جمهور غفير على مواقع التواصل، يتشاركونها ويتبادلونها في رواج، كصرعة أعيد اكتشافها في مخزن منسي للمفقودات الفنية.
أعرف أيضًا أن لمركز المصطبة للفنون، الذي يدير فرقة الطنبورة وفرق أخرى فولكلورية، اهتمام بأشكال الموسيقى الإفريقية التي تمصرّت كالزار والرانجو، في محاولة لتوثيق تلك الفنون وإنقاذها لأطول وقت ممكن من الاندثار، وإن انتُزعت من سياقاتها الثقافية والاستعمالية. فالزار في هذه الحالة مثلًا لم يعد ممارسةً لشكل من أشكل الطب السحري وطرد الجان الذي يتلبّس أجساد البشر فتعتل نفوسهم وأرواحهم، واختُزل في جانبه الفني الفولكلوري ليُقَدم لجمهور الطبقة الوسطى المدينية المتعلم.
استمعت للأغنية مرارًا، ووجدت لها نُسخًا أخرى تؤديها فرق مختلفة من فرق السمسمية المنتشرة في مدن القناة وبلدات ساحل البحر الأحمر. كانت نسخة فريق الطنبورة هي الأجود تنفيذًا وتسجيلًا.
بدت لي الأغنية تعاني من انقسام بنيوي واضح في اللحن والكلام، كأنها دمج لنصين في جسد أغنية واحدة. تبدأ بإنشاد لذات معتلة تُناجي العالم لينقذها من سقم غامض لا نعرف له سببًا، وهو على الأرجح ما جعل ذكاء جوجل الاصطناعي يربطها بالزار. فالذات الجريحة هنا علّتها غير مفهومةً؛ وكأن ألمها قادم من عالم سفلي.
ودي صالحة يا صلوح / يا شمعة القلب والروح / ومنين آجي واروح / وأنا على الفرش مطروح
لا نعرف من تكون صالحة، لكن صلوح تُحيل إلى كلمة بدوح التي ترد كثيرًا في العزائم السحرية والأحجبة، ويعرفها بالتأكيد من سبق له وطالع مثل تلك النصوص. هي أيضًا ذات صلة بـ علم الحرف وحساب العناصر الأربعة. كما قيل إنها مركب من اختلاط حروف لفظَي حب وود بما لها ككلمة من عظيم القوة في جلب المحبوب الغائب، وقيل هي اسم مليك عظيم من ملوك الجن، بل وقيل إنها اسم الله الودود باللغة السريانية، وذلك ادعاء ورجم بالغيب. فكلها مصادر خزعبلية لا يمكن الإحالة إليها. لكن المتكلم يشير إلى صالحة مخاطبًا صلوح-بدوح، شمعة القلب والروح المشتعلة من طرفيها. القلب والروح فانوس، أو مشكاة داخلها مصباح وصالحة المجهولة في قلب القلب تكاد تضيء وحدها دون نور أو نار. لكن أين يذهب وهو طريح الفراش.
يا بنات الهنود / يا راخيين العمايم / وما ترحموا العليل / اللي على فرشه نايم
بافتراض أن ذلك النائح يُطلق عويله من بورسعيد مصدر الأغنية المعروف لنا حتى وقتها، والميناء المصري الشهير. فما بورسعيد؟ قديمًا قال الكاتب البريطاني رُديارد كيبلينج في زمن الكولونيالية السعيد لأمثاله: “لو أنك تتوق حقًا للعثور على شخص تعرفه وقد سافر، فثمة مكانين على وجه الكوكب لن يكون عليك سوى الجلوس والانتظار عندهما، وآجلًا أم عاجلًا سيظهر شخصك المقصود هناك: مرفأي لندن وبورسعيد.” هي مكان هام إذًا بورسعيد تلك. ميناء مصري على البحر المتوسط. لكنها بين مرافئ مصر المتوسطية أكثرها أفريقيةً. فهي ليست ماريا، كالإسكندرية باسمها العائد لفاتح من الضفة الأخرى، أوروبا اللعوب المغوية التي يتطلع لها كل من هم على الضفة الجنوبية لهذا البحر الأشقر؛ وهي ليست كالعريش الآسيوية بامتياز، بتوغلات بدو بير السبع في حيزها المصري، والتحامها برَفَح وغزة الفلسطينيتين، وبنخيلها السامق ووقفة الفاتح القرشي عمرو ابن العاص على حدودها ليسأل أدلّته العسكريين: أبلغنا مصر أم لا زلنا في سوريا؟! فقالوا له: بلغنا مصرًا. فقال “المسا عيد” وصار اسم المساعيد ذلك علمًا على تلك البقعة غرب العريش.
تتطلع بورسعيد بعين لأوروبا، لتلك الـ الفاتنة في الضفاف البعيدة، فيما تتشبثُ إفريقيا بظهرها. تربطها بجسدها الفاحم عبر وريد قناة السويس الذي يصل صدرها المتوسطي بالبحر الأحمر. يصل بحر الروم ببحر القلزم، وبالتالي يصل الشرفة التي تطلّ على أوروبا بالقرن الأفريقي، وبشرق القارة المطل على ذلك الأخدود المنسي والمصطلي تحت شمس حارقة تصبغ جباله البركانية بالحمرة التي أكسبت ذلك اليم صفته الدالّة؛ وعلى الضفة الأخرى في الشرق، فثمّ وجه الله، والجزيرة العربية. بإمكاننا إذًا أن نتكلم عن ثقافة لحوض البحر الأحمر أسوة بما أَسطرهُ الروم والأفرنج حول بحرهم وحوضه الذي لا تضيع فيه الرسائل ولو استمرت في الطريق ألف عام، بحسب جورج بن صادق حنين المصري. فإذا كان ذاك البحر الأحمر برمته مجرد بحيرة عربية، إذ على شواطئه من الجهتين تطلُّ تسع دول أعضاء في تلك الجامعة المأفونة التي تطل بوجهها المكفي على ميدان التحرير، فإلى أي ضفاف أخرى يتطلّع من هم على سواحله الموسومة بالفقر والقحط على الرغم من مرجانها ونفطها؟ لا بد أنها الشواطئ النائية هناك في بلاد تركب الأفيال عبر خليج عدن وبحر العرب، الهند أم العجائب! إذا كان المثال الجمالي لأهل الشمال العربي هو النمط التركي – الرومي، فالنمط الهندي بالتأكيد هو مثال أهل العالم العربي الجنوبي في عدن وسواكن ومصوع – بنات الهنود راخيات العمائم، بشعورهن الطليقة التي تُشع زيوتًا عطرية لها كل القدرات الزلقة على الشفاء والإبراء.
وافرشوا له سرير / مابين القمر والثُريا / وارموني في بيركم / وماورد رشوا عليا
مدوا سريرًا سماويًا لذلك المريض الكوني، فالثريا عنقود نجمي ميَّز العرب ست من نجومه بالعين المجردة يٌجملونها كنجم واحد وحيد كبير، في موقعه بالمنزل الثالث من منازل القمر الثماني والعشرين، أي يفصله عن بدر التمام إحدى عشر منزلا. إحدى عشر كوكبًا يتأرجح في فلكهم السرير بعليله. وتصوّر أسطورة قديمة نجم الثريا كمحبوبة غادرة يتبعها عاشق ولهان، أو نجم الدبران الذي يردفها في مواقيت السماء كراع مخلص يتبعه كلباه الوفيّان وخرافه العشرون. تلك العصابة من الأجرام هي عنقود نجمي أدنى يعرف بالقلائص. المحبوبة ترحل والراعي عليل.
يقول رولان بارت *الاقتباسات من كيبلنج وبارت وجاكيه من ترجمة كاتب المقال.: “لا يوجد غياب سوى غياب الآخر: إنه الآخر من يغادر، وأنا من يبقى. الآخر في حالة رحيل دائم. إنه مهاجر بطبعه ومراوغ. أما أنا، من يعشق، وبطبعي المقلوب فأنا قارٌ وثابت ومتاح في الانتظار، مكوّم في موقعي كطرد منسيّ في ركن في إحدى محطات القطار.”
وما ورد رشوا عليا / ردوا عليا ثيابي / خبير دوايا انا عندكم / وما تحرموني شبابي
التضمخ والتعميد بماء الورد فعل أنثوي قد يثير استهجان حتى النبي يحيى – يوحنا المعمدان ابن أليصابات، خالة مريم، امرأة يوسف النجار ووالدة المسيح. يوحنا آكل الخروب في الصحراء، الصارخ في البرية ونبي الديانة المندائية، ابن الكاهن زكريا الذي أنجبه بعد أن اشتعل رأسه شيبًا، والذي كلما دخل المحراب على قريبته البتول وجد رزقًا لديها، دون أن يُدرك ما الذي أتى به. يتابع بارت: “تاريخيًا فخطاب الغياب تتبناه المرأة. المرأة مقيمة، والرجل رحالة صياد؛ والمرأة المخلصة (إنها تنتظر) أما الرجل فيبحر ويغوي. إنها المرأة من تعطي شكلًا لخطاب الغياب باستطرادها في سرديته، إذ لديها الوقت، فهي تغزل وتغنّي (…) ويترتب على ذلك أن داخل كل رجل يُنشِد غياب الآخر أنثى تُفصح عن نفسها: ذلك الرجل الذي ينتظر ويتعذب من الانتظار يتأنث على نحو إعجازي. لا يتأنث رجل ما لكونه مخنثًا، ولكن لأنه عاشق.”
يابو محمد سعيد / يابو المشاري تلاتة / كيف جرحك لم يطيب / والعطر تحت الوسادة
سنفترض أن أبا محمد سعيد هو العاشق العليل المتأنث نفسه، ولكننا لم نعرف ما هي المشاري، ولم نعرف لم هي ثلاثة تحديدًا؟ أما العطر الكامن تحت الوسادة فهو عطر المحبوب على الأرجح، لكنه غير كاف لاستحضاره كاملًا على الرغم من الطاقة السحرية للعطر أو الرائحة. تقول الفيلسوفة الفرنسية شانتال جاكيه المختصة في فلسفة الجسد: “الرائحة لا تملك فقط سحر المقدمات، ولكن لها قوة إيروتيكية ترعى الحب كما لو كان وثنًا. يعرف ذلك العاشقون، من يتشممون ملابس وأغراض المحبوب الغائب المفعمة برائحته لإطالة حضوره. إن قوة الرائحة تلك والتي تستحضر الآخر بشكل استحواذي في الذاكرة، تبعث لهيب العشق وتحافظ عليه مشتعلًا عبر إلحاح العطر.” تواصل جاكيه : “ولطابعه غير المرئي والنفّاذ، فإن العطر يتشابه مع القوى السحرية إذ يتغلغل في أنوفنا ويغزونا دون علمنا، وقبل حتى أن ندرك حضوره، فهو يعمل كقوى غامضة وطبيعته الملحة تظهره كسحر أو كعمل شيطاني.”
هيلا هيلا هيلا يالله / يا سلام / يا حبيبي باحبك تعال لي / يا سلام / اتمشى اتمشى وارجع تاني / يا سلام / إلى آخر الأغنية
يحدث الانقلاب، ويتغير اللحن من نواح العليل لمنطقة راقصة فنكون في قلب فنّ الضمة حسب كهنة منتدى سماعي، ونقلًا عن الباحث محمد شبانة المتخصص في الأدب الشعبي هو فن شعبي ارتبط بحفر قناة السويس وبالذين شاركوا في حفرها ومثلوا اللبنات الأولى في تكوين مجتمعات جديدة على ضفتي القناة البورسعيدي. ليس اللحن فقط، وإنما الغرض الشعري ذاته يتبدل في انحراف مفاجئ لأهزوجة احتفالية راقصة. احتضنت بورسعيد التي نشأت مع حفر القناة هذا الفن وجعلت منه فنًا خاصًا بها، وانتشر منها إلى باقي المدن الساحلية. جمع فن الضمة في طياته جماع ثقافات من روافد عدَّة. هو إذن شكل من السمر الشعبي يمارسه الذكور فقط بصحبة أنغام آلة السمسمية في تجمعاتهم الليلية على المقاهي وللترويح في أماكن العمل وقت الاستراحات.
بالرجوع إلى مركز المصطبة منتج الأغنية في طورها الأخير، أكد مسؤولوه أن الأغنية مركبة بالفعل من جماع أغنيتين، وهو أمر شائع في أدوار الضمة وأغاني السمسمية عمومًا، لكنهم نفوا أي علاقة لها لها بالزار، وأكدوا أن طقس الزار شهد رواجًا لفترة في إحدى ضواحي المدينة تعرف بقشلاق السواحل، كانت مقرًا لمجندي حرس الحدود وجّلهم من ذوي الأصول السودانية، وهم من جلب الطقس لسواحل المتوسط من شرق أفريقيا، وقد انقرض الآن تمامًا. لكنهم لم يشيروا إلى مصادر الأغنية الأصلية.
عند لجوئي لصديق شاعر من بورسعيد خمّنت أنه قد يعرف المزيد عن فولكلور مدينته، دلني على عازف مميز للسمسمية من مدينة راس غارب على ساحل البحر الأحمر جنوبي السويس، هو أيضًا باحث في هذا الصنف من الموسيقى. قال عمرو الراوي صاحب كتاب أغاني البحر إن أحد الروافد الهامة للغناء على السمسمية في مدن القنال هو الفلكلور الحجازي نتيجة للرحلات والتجارة اللي كانت بين موانئ ينبع وجدة وأملج في الحجاز وبين ميناء السويس وانتقال كثير من العائلات ذات الأصول الحجازية للعيش في مصر واستقرار بعضها في السويس. يضيف الراوي أن دور صالحة يا صلوح يرجع إلى فن شعبي غنائي حركي من أرض الحجاز اسمه فن الخبيتي (اليماني) وهو فن منتشر في ينبع وجدة وأملج وأغلب مدن وبلدات المدينه المنورة مثل وادي الصفراء والطائف. انتقل فن الخبيتي من أهل البادية إلي أهل البحر وغنوه علي السمسمية ونشره البحارة في حوض البحر الأحمر فتجده في الساحل الحجازي واليمني والمصري، في القصير والغردقه وراس غارب وأيضًا في الطور بنفس الأداء والكلمات والأغاني، وانتقل جزء من أغانيه إلى السويس ومنها إلى باقي مدن القنال وتحديدًا بورسعيد، لكن بتغير ألحانه وبعض كلماته بما يناسب فن السمسميه المصري. من أشهر هذه الأغاني صالحة يا صلوح المأخوذة من دور خبيتي يعرف بـ شدَّت القافلة وشد خلي معاهم ولكنه في فن الخبيتي مختلف تمامًا عن أدائه المشهور على السمسمية في مدن القنال.
تقول كلمات دور الخبيتي الحجازي:
“شدّت القافلة وشدّ خلي معاهم وأصبحت فى الفريش يا ليت عيني تراهم / يا محمد سعيد يابو المشالي تلاته كيف جرحك يطيب والعطر تحت الوسادة / ما دريت ما دريت أن المحبة تبكي لا اترك أمي وأبوي وأبني عشيشة لحالي / يا عذيب اللمى ياللي جرح ساقك الماء وأختلط ماء بماء وأيش يعزل الماء عن الماء / بنت يام الزمام قلبي تقسم بالاقسام بحر جدة ظلام ما ينزله كل عوام / طحت فى بيركم نضو عليا ثيابي والدوا عندكم لا تحرموني شبابي / صالحة يا صلوح يا مهجة القلب والروح وين آجي وين أروح وأنا على الفرش مطروح / يا نجوم السما يا ساريه خبريني عن عذيب اللمي هو شد ولا نسيني / علقوا لي السرير بين القمر والثريا والمفارش حرير ماء ورد رُشوه عليا / روحوا روحوا يا رب سهل عليهم بعد ماروحوا قلبي تشوق إليهم / يا بنات الهنود يا لابسات العمام حنوا على المسكين اللي على الباب هايم.”
شدّت القافلة إذن أي رحلت ورحل معها المحبوب، وإذا عرف السبب بطل العجب. صار الغياب مُفسرًا ومشخّصًا، والجرح لا يبرأ إذ أن “أتر” المحبوب لا يزال تحت الوسادة فلا هو حاضر ولا هو غائب تمامًا. على عكس النسخة المصرية التي لا يطيب فيها الجرح على الرغم من وجود شبح الغائب في الرائحة. اكتسبت صالحة سمتَها الإنساني تحببًا باسم الدلال صلوح، وانصرفت العفاريت التي استحضرها أهل بورسعيد بتغييب بعض المعاني وتغميضها بإنزالها تحت الأرض. عندما يهاجر الشعر من سياق إلى سياق لا يبدّل رداءه الموسيقي فقط، لكنه يحذف أيضًا من جسده تفاصيل تفقده دلالته الصريحة والمباشرة، وتكسبه غموضًا يجعلنا ندور في الدوائر المدوّخة، ونكتب هذا الكلام.