.
تابعت باستمتاع المعركة التي دارت في الأوساط اللبنانيّة حول تصريح زياد الرحباني في مقابلة مع موقع “العهد” أن “فيروز تحبّ السيّد نصر الله“. وما أن تحركت شفتا زياد بهذه الجملة إلا وانطلقت طاقات مكبوتة بالصحافة اللبنانيّة وعلى مواقع فيسبوك وتويتر، ليظهر منظرو حركات 8 و14 آذار ويناوش بعضهم البعض، ولتصيب لبنان حالة من الاحتقان الآيديولوجي والطائفي بفضل هذه الاتهامات والمزايدات. وإذا كانت “السياسة امتداد للحرب بوسائل أخرى” كما يقول كلاوزفيتز، ففي الحالة اللبنانيّة تحديداً، بكل حملها التاريخيّ، تكون فيروز امتداداً للسياسة والحرب والهويّة اللبنانيّة معاً.
جاء اسم فيروز على لسان زياد ليطلق الشرارة، بشكل شخصي. ومن ثم، تابعت التلاسن بين أسعد أبو خليل من ناحية وحازم صاغية من ناحية أخرى كفقرة كوميديّة طويلة ممتدة من اللاشيء، بينما غابت فيروز وابنها عن السجالات اليوميّة، وحل محلّها الإرث اللبناني، الذي يكاد أن يتحوّل فولكلوراً من المشكلات السياسيّة الثقيلة. بدا لي هذا تنفيساً عن التوتر الناجم عن عودة التفجيرات التي فخّخت الهدوء المتوتّر هناك.
على الرغم من التسلية العظيمة في المعارك الجانبيّة بين اسمين كبيرين، سمحت لنفسي أن يكون لي مجموعة من الملاحظات على شأن يبدو داخليّاً، وقد يبدو بعيداً عن الشأن الموسيقي، لكنّه في صلبه تماماً.
يمشي التاريخ الموسيقي العربي مثقلاً بالكثير من الأيقونات التي يحملها على كتفيه، ليس أوّلها سيّد درويش ولا آخرها فيروز. وبقليل من التأمل، نجد بأن هذه الأيقونات ترزح تحت ثقل سياقات اجتماعيّة وسياسيّة وهوياتيّة. فسيّد درويش، على سبيل المثال، نموذج هوياتي مثالي للدولة القوميّة الناصريّة يوافق طموحها التأسيسي للموسيقى المصريّة. وما كتب رتيبة الحفني وكمال النجمي وسطوة محمد عبد الوهاب إلّا عوامل تضافرت إلى جانب النشاط الوطني لسيّد درويش، لا في مجال الأغنية السياسيّة فحسب، بل في الشارع. من خلال ارتباطه بأول تحرّك ثوري وطني إبان ثورة 1919 في مصر، وبإهمال كامل لكل الظروف السياسيّة والاقتصاديّة الفاعلة في تنامي ظاهرة سيّد درويش، وخرافة التأسيس التي حملناها لعقود طويلة.
الحاجة اللبنانيّة لرمز هوياتي حولت فيروز إلى صنم بضلعين هما الأخوان رحباني. وكثيراً ما تساءلت:لماذا ليس وديع الصافي مثلاً أو حتى صباح؟ كرّست الذهنية اللبنانيّة لأيقنة فيروز كمقابل لأيقونة “أم كلثوم“، خاصّاً أنّها لم تكن من الذين توجّهوا إلى الإقامة في مصر وتبنّي الغناء باللهجة المصريّة (باستثناءات قليلة لأغاني سيّد درويش ومحمد عبد الوهاب). كان ترسيخ فيروز هو ترسيخ لنموذج الهويّة الفنيّة اللبنانيّة الأصيل، لتطوف أغانيها البلاد العربية بالتزامن مع حالة التثوير الموسيقيّة التي تبناها الرحبانيان في ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي. وعلى الرغم من التعتيم –المقصود وغير المقصود– على تجارب موسيقيين معها كفيلمون وهبي ومحمد محسن، لا تكتمل الأيقونة بغير الضلعين واللذان يعبّران في تجربتها عن لبنان ببعد المتوسطي الأوروبي العربي، وهذا ما يظهر في “الاقتباسات” الرحبانيّة الفجة من الموسيقى الأوروبيّة كإعلان عن بنية موسيقيّة لبنانيّة خالصة، غير تلك التي قامت في مصر وسوريا.
لم ينتج تصنيم فيروز عن محاولات خلق بُعد هويّاتي فني للبنان فقط، بل كان لسيرتها الشخصيّة، وشكل صورتها البعيدة عن حيويّة وديع الصافي أو الحياة العابثة لصباح بُعداً مقدّساً حيث شببها البعض بالعذراء في الأيقونات المسيحيّة. حتى أذكر أنني قرأت عن إحدى حفلاتها في البرازيل في الثمانينيّات، عندما غنت “شتي يادنيا” فانصاعت السماء وأمطرت. وجود قصة كهذه في حد ذاته تكريس للبطريركيّة الفنيّة في الحالة الفيروزيّة. وحالة أخرى رواها مصوّرها الشخصي فاروجان سيتيان حول انقشاع الغيم الذي كان يهدّد حفل فيروز في بعلبك عندما غنّت “يا قمر“.
لذلك، كان من المتوقع أن تخرج مقالات من نوعيّة “فدى صرماية الست” للدفاع، لا عن فيروز، ولكن عن أيقنة فيروز بكل حمولتها. إلا أن التناقض القيمي التي وقعت فيه مثل هذه المقالات تجلّى في الاستماتة في الدفاع الذي يقوّض، بدوره، صورة الأيقونة. إذ أن الإعلان عن اتجاه سياسي واضح خارج الحياد المطلق التي كرسته صورة “السيّدة“، وهذا الفزع اللاواعي من تصريح زياد الذي كسر هذا الحياد، تبدو محاولات إعادة النظر إلى تاريخها الفني بعد هذا الكشف، والمحاولات النقديّة الجادة لتقييم هذا المشروع كاستماتات لخرق الحصار حول هالتها المقدسة.
أما زياد، فهو كل شيء لا تمثّله والدته. باقتحامه السّاخر المتبني لآيديولوجيا واضحة، ليس فقط في حياته ولكن في بنية موسيقاه، كان زياد ابناً مدلّلاً، وهذا ليس ذمّاً بتجربة زياد بقدر ماهو محاولة لتوصيفه. ويحضرني هنا مقال الراحل هاني درويش في معازف تعليقاً على حفلة زياد بالقاهرة في آذار/ مارس 2013.
اختلفت مع هاني درويش في استنتاجاته حول تجربة زياد، وإصراره على عدم الفصل بين السياسي والفنّي، وحول نفس المثال الذي ذكره حول “عادل إمام” والذي أظهر في التسعينيّات ضحالة سياسية وموقفاً منحازا للدولة. كنت أقول له “نعم، يمكن الفصل بين السياسي والفني بمنطق بسيط: لو تتبعنا المواقف السياسية لمعظم مبدعي الإنسانية لاستغنينا تماما عن إبداعهم. فكيف يمكن أن نتقبّلفاشيّة إزرا باوند أو نازيّة جونتر جراس؟ وبقلب المنطق نفسه: هل يمكن أن نتغاضى عن رداءة منتج فنّي بمجرد موقف صاحبه السياسي المشرّف؟
ما يزال التأريخ الموسيقي العربي واقعاً في أَسر الأساطير، ويبدو أن تفكيكها يحتاج إلى شجاعة هائلة. وحتى ذلك الحين، لا تعنيني محبة السيدة لنصر الله أو هتلر حتى، ولا يعنيني الموقف الرجعي لزياد تجاه الثورات العربيّة. لن يمنعني كل هذا من الاستمتاع بتجربته الموسيقيّة التي لن أضعها في سياق موقف “أخلاقي” منه. ما أحاول أن أدرّب نفسي عليه هو التخلّص من ثنائيّات ساذجة مثل أم كلثوم/ فيروز. أقول هذا من موقع المحب لأم كلثوم، غير المفضّل لمعظم الإنتاج الفيروزي من موقع جمالي ذاتي تماماً، بعيداً عن سخف الثنائيّات.