غبار نجوم | يوما

بطبعته الملونة وما فيه من رسوم، بالإضافة إلى عناوين الأغاني التي تحيل إلى عوالم تحتفي بالبساطة، يبدو صندوق ألبوم غبار نجوم كقصة غنائية قصيرة في أحد فصول الأمير الصغير للكاتب الفرنسي سانت إكزوبوري. على الغلاف الخلفي، اختار الثنائي تصديرًا لـ نيتشه: “يجب أن تملك فوضى بداخلك كي تستطيع أن تنجب نجمة راقصة.” تفترض في الألبوم جوًا محمسًا، وإن كان مألوفًا. لكن أول استماع يتركك مرتبكًا، إذ يدخلنا إلى ما يكاد يكون غرفة ضيقة تجمع شخصين يتكلمان عن الحب.

سبقت الألبوم مرحلة مهمة للثنائي على يوتيوب، إذ عودانا على استعادات لأغاني الهادي الجويني وفيروز واختيارات متعددة لتوم وايتس والفولك الأمريكي. يحمل الألبوم نفس ملامح الانطباع العام الذي رافق بدايات الثنائي عبر اليوتيوب، أو من خلال ألبومهم الأوَّل شورى، الذي يمكن اعتباره مشهدًا جديدًا قيد التأسيس في الفولك التونسي، يتوازى مع التجربة التي جمعت الإيرلندي غلين هانسارد والتشيكية ماركيتا إيرغلوفا، أو ثنائي الفولك الأسترالي آنجوس وجوليا ستون.

كلمات الأغاني بسيطة، صورها الشعرية أنيقة وواضحة، تستخدم لغة الحياة اليومية بشكل يقطع مع سياقات الكتابة التي أفرزتها الثورة في تونس. ففي الوقت الذي اشتركت فيه معظم التجارب البديلة في التحرك داخل مدارات متشابهة، تميزت يوما كتجربة مختلفة وسط معاجم جافة غصّت بمفردات الثورة التي أُعيد استهلاكها واجترارها إلى أن فقدت ألقها. من ذلك الضجيج حاولت يوما أن تستعيد سنتمنتالية مفقودة – ليس بدافع الاسترجاع النوستالجي بخطابه المُستهلك، رومانسية مقاومة، كأنه ضرب من الغناء العاطفي الذي اختنق بالمباشر والمجرّد الخالي من المعنى والإفراط الثقافوي، وواجه ذلك كله ببساطة مربكة تكاد تلامس السذاجة في أخيلتها، ولكنها ليست بتلك السهولة الظاهرة: “هات نفس، خوذ بشارة، ونغير عليك حتى من الشمس.”

يمكن القول بأن هذه الكتابة تنتمي إلى مدرسة تجريبية تونسية جديدة بدأت منذ أقل من عشر سنوات مع غسان عمامي في تعامله مع بنديرمان من خلال نصوص مؤثرة مثل عشيرتي والرديف، أو من خلال تأليفه لأغاني فيلم على حلة عيني الذي ألف موسيقاه خيام اللامي، والتي يمكن أن نجد لها جذورًا قديمة مع آدم فتحي الذي كتب لـ فرقة البحث الموسيقي ولطفي بوشناق. من خلال كلمات أغاني الألبوم، أصّلت يوما لنص غنائي تونسي جديد، ولكنها من بعيد تتقاطع مع التجربة الرحبانية في لبنان ومع الكتابة الشعرية الرومانسية لطلال حيدر. هذه المقاربات التي نلاحظها في الألبوم، تجعل منه ضربًا من الرحبانية المُتوْنسة على مستوى الكتابة، ففي كل من القمرة والذيب وحوّا، نجد صدى لـ نحنا والقمر جيران على سبيل المثال. نفس الأغنية، القمرة والذيب، تشترك مع اللبة في تقاطعات معجمية مع وحدُن التي كتبها طلال حيدر، من خلال حضور مفردات الذئب والشتاء والليل. الأماكن في نصوص الأغاني تنتقل من مجرد إطار إلى حضور بطولي، فالضيعة الحاضرة في أدبيات الرحابنة الغنائية، من تنورين وهدير البوسطة، تقابلها المدينة لدى يوما في صور بيت الحكمة والشارع وعسكر الحريقة.

فوضى الألبوم إذًا نصّية بامتياز، خلافًا للموسيقى التي لم تلتزم بالاقتباس النيتشوي. ما يعاب على موسيقى الألبوم هو التكرار، فنجد بنية الأغاني تتكرر أكثر من مرة وفي أكثر من موضع. عند الاستماع إلى القمرة والذيب على سبيل المثال، لا تخال أنك قد مررت إلى الأغنية الثانية في الألبوم نظرًا للتشابه اللحني والإيقاعي مع سابقتها، اللبة. حتى مستني الليل التي تأتي لاحقًا، نجدها تشترك مع اللبة والقمرة والذيب بنفس بنية التركيب النغمي وتوزيع الأداء بين الثنائي. الملفت في الأداء أن غناء رامي وصابرين لا يتم بشكل منفصل، فالاثنان يشتركان في تأدية نفس المقاطع. تستأثر صابرين بالمساحة الأكبر، فيما يكتفي رامي بالترديد وراءها في الخلفية. ينسحب الأمر ذاته على جميع أغاني الألبوم تقريبًا.

هلالي هي أكثر أغاني الألبوم نضجًا، مر الثنائي خلالها إلى مرحلة أكثر حماسة. في الأغنية خروج من الغرفة الضيقة التي انحصر صوت الألبوم بداخلها، بمزيج من الكنتري والغرانج وتوزيعة من مشارب الموسيقى التي تأثر بها الثنائي، وخروج واضح عن صوت الفولك المستورد الذي طغى على أولى الأغاني، لهذا يمكن اعتبارها محطة تجريب أولى. بجمل قوية على الجيتار الكهربائي وزخارف متعددة انشقَّت عن النسق العام للألبوم، يظهر الثنائي ديناميكية في الأداء مع إيقاع تصعيدي متسارع يصل ذروته عند مقطع “وإنت وين” التي تميزه صابرين بإشباع مطول.

في خليني شوي، تتألق صابرين بتقطيع النص وزخرفة الكلمات ومخارج الحروف، منطلقةً على سجيتها وكأنها غير عابئة بجمل الموسيقى وإيقاعها. هذا التراخي المتعمَّد أضاف بعدًا إضافيًا للأغنية، خاصة مع التلوينات الإلكترونية والتأثيرات الصوتية التي تظهر من حين إلى آخر مع نهاية كل مقطع تقريبًا. يغطي غناء صابرين أحيانًا على ضعف البنية اللحنية التي افتقرت إلى التنويع في معظم أغاني الألبوم، ففي دوم مثلًا، والتي شكّلت الذروة الثانية للألبوم بعد هلالي، طوّعت صابرين صوتها لتجعله كآلة ثالثة مرافقة للجيتار الرئيسي والبايس، واستأثرت بمساحات هامة في التلوينات والزخارف عند كلمة “إنت”. هذه الأغاني، دوم وهلالي و١٠٠ حاجة، أنقذت الألبوم من خطيئة كبرى، وهي أن يكون مملاً.

غبار نجوم، موسيقى وكلمات، رومانسي إلى حد بعيد، لكنها رومانسية صادقة، تبشر بموجة جديدة من الأغنية العاطفية، مع مرحلة مختلفة من الكتابة. لم تصنع يوما ذائقة جديدة، لكنها استعادت عالمًا قديمًا تم تناسيه وسط خطابات غنائية مستهلكة تفجرت بعد الثورة.