fbpx .
أجنبي جديد

غوتشي مين وأغاني تجارة المخدرات

نوا آينجل ۲۰۱۵/۰۳/۱۹

الكاتب الأمريكي نوح أنجيل يخصّ معازف بهذا المقال الحصريّ.

”أنا الواد أبو سنّة دهب، أنا ابن الجنوب

لا إربع ولا أنصاص، البيت دا مافيهوش غير قوالب إشارة إلى أغنية فرانك سكي: There’s some whores in this house” (هناك بعض المومسات في هذا البيت: يلعب غوتشي على الجناس الناقص ما بين كلمتي whores و wholes، حيث تشير كلمة whores في الأغنية المشار إليها إلى المومسات، بينما تشير كلمة wholes في أغنية غوتشي إلى قالب الكوكايين الذي يزن كيلوجراما. المترجمة) وهي إحدى أشهر أغاني موسيقى بالتيمور كلَب (Baltimore club)، صدرت عام 1993 وكانت لها شعبية كبيرة في مشهد موسيقى الباص في أتلانتا.

ولا فيه شرموطة ولا عيل ولا حتى هدمة

العيشة ضنك وسعري هيخليك تلف حوالين نفسك “

ترجمة: أميرة المصري

ولد غوتشي مين، واسمه الحقيقي رادريك ديفيس، في مدينة بيرمينغهام بولاية ألاباما العام 1980. وهو ثاني شخص يحمل هذا اللقب، إذ كان والده يعرف بين جماعات الشوارع باسم “غوتشي مين” أيضًا. تصدّر غوتشي مشهد الهيب هوب في أتلانتا لما يقرب من عشر سنوات، ولم ينقطع نفوذه حتى بعد دخوله السجن (حيث يقضي عقوبته حاليًا بتهمتي حيازة سلاح والاعتداء).

من سمات موسيقى الراب أن يكون لدى الفنان لازمة مرتجلة مكونة من عبارات مألوفة أو أصوات غنائيّة تميّز شكله الغنائي، أو تحدّد إيقاع أدائه، وهي بمثابة علامات صوتيّة ترشد المستمع داخل عالم الفنان السمعي والرمزي. ولقد زاد معدل تداول تلك اللازمات مع تطور أشكال الراب المهمّش على مدار السنوات. وتعدّ لازمات غوتشي مين اللازمات الأكثر حملاً للرمزيّات من الكثيرين غيره، إذ تتضمّن أصواتاً كصوت التقيّؤ (صوت استفراغ سريع وجاف من الثراء الفاحش لدرجة الشعور بالدوار؛ ما يجعل غوتشي وكل من يراه يشعر بالغثيان). كما يستخدم “بررر” كصيحة تعجّب من شدة “البرودة”، حيث تحيط به هالة ثلجية من الكوكايين والألماس. ويزجر المستمع قائلًا “حصّلني” وكأنّه يبتسم لنا من مقدمة السباق ساخرًا من قصورنا عن التقدم. ونسمعه يقول: “سكرر” في محاكاة صوتية لكشط جوانب القدر المستخدم في تحضير صخور الكوكايين (الكراك) لزيادة الربح بأقصى شكل ممكن. كما يصدر صوتًا مشابهًا أكثر حدة وطولًا وهو ”سكككرررتتت“ يحاكي صرير إطارات السيارة المسرعة عندما تنطلق بعيدًا.

عندما يبدأ غوتشي غناء الراب يبدو أسلوبه استعراضيًا ومكبوتًا في الوقت ذاته، وتتراقص إيقاعاته اللفظية التي تخرج بحساسية استثنائيّة لتتماشى مع كل إيقاع موسيقى، في نطق حاذق ومدغم، مثلما يتراقص الضوء المنعكس على الجواهر. لكن حتى عندما يؤدي غوتشي بأقصى طاقته نجد شيئًا من الفتور العاطفي والخدر مهيمنًا على صوته، وكأنه يلوذ باستعراض الأضواء، ليستحوذ مظهره المبهرج وأسلوبه الغنائي على المستمع بينما يخبئ هو ألمه.

يميل ذهن غوتشي إلى السواد والعبثيّة، حيث تتصارع خيالات شبه كرتونيّة عن الرفاهية والثراء مع ما تمثله تلك الأشياء في الواقع المهلك. في مظهره المبهرج (هناك العديد من الصور لغوتشي وهو يرتدي ميداليات تجسد شخصيات كرتونية مثل بارت سمبسون، وشخصية أودي من كارتون غارفيلد، وفتى الإسكيمو من كارتون ساوث بارك، وغيرها) وكلمات أغانيه (“من كتر ما باطبخ الأبيض عايز في دراعي موتور”)، ومحاولاته أن يعيش في ذلك الواقع الكرتوني وفشله في ذلك، في هذا كله نجد مؤشرًا على البون الشاسع ما بين التخيّلات عن الثراء وما يقابلها في الواقع. وتمثل تلك الهوة ما بين الخيال والواقع محل صراع تنبعث منه أحزان غوتشي وضحكاته. ونستشفّ في ضحكته تقبلًا عميقًا للفوضى ومؤكدًا عليها، وكذلك لقدرة المال على تغيير الأوضاع وفشله في ذلك (وثمّة شعور بالفخر أيضًا لإدراك ذلك، لأن لا أحد يعلم محدوديّة الثروة سوى من حصل عليها). وفي باطن ذلك كله هناك جرح الفقر الذي لا يلتئم أبدًا. سيرة غوتشي الذاتية حسب روايته لها—ويبدو أنه يجدها مؤلمة لدرجة تجعله غير قادر على سردها مطولة، بل يفصح عن لمحات منها بشكل متقطع—هي حكايته في بيع المخدرات.

يصف غوتشي مين بيعه للمخدرات بأنه فعل قسري لاطوباوي يدور في حلقة مفرغة. فتاجر المخدرات، مثله مثل المدمن، يقع أسيرًا لدوامة كيميائيّة واقتصاديّة—فالتاجر يتلهّف للتخلّص من منتجه بقدر لهفة زبائنه للحصول عليه، وقبل أن ينفذ المخزون يتم تموينه مرة أخرى. وإن لم يحدث ذلك يعتريه شعور بعدم الأمان لعدم وجود مخدرات يبيعها على غرار شعور المدمن بالتوتّر والخواء عندما لا يتوفّر له مخدّر يتعاطاه، وبأن تجارة المخدرات لا مستقبل لها، فيلوح شبح الموت والسجن مقتربًا. لكن التاجر يحاول تحدّي قدره والبقاء في تلك الدائرة لأطول وقت ممكن ليضمن لنفسه قدر من الأمان عند الخروج منها. هنا يتحوّل الزمن إلى نفق اسطواني خانق، تبدو نهايته قريبة طوال الوقت لكن مخارجه مراوغة. وعلى عكس معظم مغنيي الراب الذين اقتصر تاريخهم في بيع المخدرات على بداية مستقبلهم الفني في غناء الراب، فتتسنى لهم الإشارة إلى أصولهم المضطربة من دون خوف، فعمل غوتشي بتجارة المخدرات ليس مقصورًا على الماضي فقط، وأسطورته لا تتضمن التخلّي عن لعبة المخدرات أو الالتزام بالقانون.

تبلغ تلك العلاقة المتناظرة ذات الاعتماد المتبادل ما بين التاجر والمدمن، والتي يهلك فيها الطرفان بعضهما الآخر، ذروتها عندما يسقط التاجر نفسه أسيرًا لتعاطيه المخدرات. تقول الأساطير الشائعة عن تجارة المخدرات في أغاني الراب، والتي بدأ تداولها مع أغنية ”Dopeman“ لفريق (N.W.A) وردّد صداها Biggie Smalls في أغنية ”10 Crack Commandments“: “ماتعملش دماغ بالبضاعة بتاعتك”. لكن على مدار السنوات الأخيرة بدأت الآثار الجانبيّة المربكة والمتوارية خلف قواعد ذلك العمل التجاري بالظهور تدريجيًا. وانتهى الأمر بصدور أغاني بيع المخدرات جنبًا إلى جنب في نفس الاسطوانة مع أغاني تعاطي المخدرات؛ تلك هي أغاني تجارة المخدرات.

“عمتي الكبيرة بتبيع مخدّرات

وعمي قاعد بيضرب تحت

أعرف أطبخ الكوكا وأنا مغمّض

ومش على بوتاغاز واحد لا اتنين”

يكثر غوتشي من الإشارة إلى عملية تحضير المخدرات بشكل يقارب الهوس. تصنع صخور الكوكايين (الكراك) عن طريق تسخين الكوكايين في مياه مغليّة، ثم تضاف بيكربونات الصوديوم ويقلّب الخليط ليحدث تفاعلًا كيميائيًا ينتج عنه نوع أرخص من الكوكايين يسبب إدمانًا شديدًا، ذو مادة صلبة يمكن تدخينها. درّ رواج الكراك في أواخر الثمانينيّات ملايين الدولارات على العديد من الشباب الفقير، بينما أدّى أيضًا إلى تجريف مجتمعاتهم، فزاد عدد المدمنين بشكل مطّرد وجمعي، وتفكّكت العديد من الأسر، وأدّت حروب السوق إلى سيل بحور من الدم في أنحاء أميركا. ويعد الموقد بالنسبة لغوتشي موقع التحول المرتبط بالصدمات—بدءًا من صدمة الفقر ومرورًا بصدمة فائض الثروة التي تكوّنت بسرعة مهلكة عن طريق تجارة المخدّرات، ووصولًا إلى الحروب والخسائر التي صاحبتها. يحدّق غوتشي في قدر المياه التي تغلي ويستنشق البخار الكريه الباعث على الخدر، وهو يتحدث كشخص جريح غير قادر على الحراك، عاقداً العزم على الفرار من صدمة الشعور بذلك العوز الملحّ. لم يعد غوتشي قادرًا على تخفيف سرعته في المضي قدمًا، وهو الذي أثقلته أوزان الحلي التي يرتديها، وهكذا فإن فحش ثراء غوتشي مسألة تعويضيّة. يبدو أحيانًا وكأنه يسخر من نفسه عندما كان صغيرًا لوقوعه في خطيئة الإفلاس. فما يحمله الفقر من إهانة ومذلّة في أميركا، حيث يعد النجاح حق يكتسبه الإنسان فور ولادته، يتعدّى طاقة الاحتمال. تأتيه صرخات الفقر من الماضي لتزيد غوتشي عزمًا على أن يهلك ذاته مرارًا وتكرارًا. وهو يعتبر تلك العمليّة فعلًا سحريًا يثبت به قواه الخفية لجني الأموال، وبأنّ طريقته الفريدة في مزج الكوكايين مع بيكربونات الصوديوم هي انطلاقته الخيميائيّة إلى العالم الذي حرم منه في ما مضى.

“بقى لي 3 شهور ماجبتش هدمة

ولا كنبة ولا سرير ولا حرمة

كل يوم طول اليوم واقف على البوتاغاز

باكلم الأرض ’فين الأبيض يا شقيق؟‘

في جورجيا بلد الشمس، في شرق أتلانتا بلد التلج “.

يتحدّث غوتشي مين عن العمل من منظور يمتد تاريخيًا إلى أشكال سرد أغاني العمّال الأفارقة في الحقول، وأغاني الـCountry Blues في ألاباما موطنه الأصلي، حيث كان المزارعون يعملون حتى يشعرون بإعياء شديد يتجاوز مرحلة الإرهاق وينامون على الأرض. وإن كان منظور عمال الحقل ذلك يرمز بشكل كبير إلى منظومة المزارع في ذلك الوقت، إلا أن فنّاناً مثل غوتشي نادرًا ما يشار إليه كواحد من أبناء الجيل الذي عانى من موت العمل الصناعي الحضري على مدار عقود، ما خلّف لديه فراغًا ملأته تجارة المخدرات بشكل كبير. يروي لنا غوتشي من ذلك المنظور آثار رأس المال الذي يجرد المرء من إنسانيته، من منظور تاجر المخدرات.

“عندي مية قالب حطيتهم في التلاجة (بررر)

وميتين رطل مكمرين في الصندرة

أنا مدمن مخدرات، عايز الجرعة يا شراميط

في طبخ الكراك إيدي تتلف في حرير

عايز مية مليون، أعمل خبطة فشيخة

كام مليون بس مش كفاية”

هناك قسم فرعي كامل من الفنانين المستقلين الذين تمكنّوا من خلال الأموال القذرة، التي كسبوها بطرق وتجارات غير شرعيّة، من التطور بعيدًا عن القوانين التي تمليها صناعة الموسيقى. ويعد غوتشي مثالًا واضحًا على ذلك، حيث تزدهر شعبيّته على الصعيد المحلي؛ فقد تجاهلته الصناعة بشكل كبير إلى أن وصل إلى مكانة أكبر من أن يتم تجاوزها وعدم التعامل معها. وأفرد دخوله عالم الموسيقى وبحوزته ماله الخاص له مساحة للتطور فنيًا، ودفع المال للمنتجين الموسيقيين، وقضاء ليالٍ طويلة في الستوديو من دون أن تحاسبه الشركة المنتجة على ذلك الوقت أو تضغط عليه لإنتاج مادة فنيّة تتماشى مع أجندتها. لكن، رغم أن توافر المال يتيح للفنان تجاوز منظومة الشركات المنتجة، إلا أنّه بطبيعة الحال يفرض على الفنان وضع غير مستقر، حيث يظل على ارتباطه بمصادر الأموال القذرة وبالتالي: معرّضًا لخطر العنف والسجن الذي عمل جاهدًا للتخلص منه.

يرتبط ما يطلق عليه “موسيقى التراب“مصطلح ”موسيقى التراب“ قد يعود استخدامه إلى جماعة دنجن فاميلي (Dungeon Family)، وكلمة trap/trappingقد تشير إلى فعل بيع المخدرات، أو المكان الذي تباع فيه المخدرات (a trap/trap house). ومن أبرز الفنانين في هذا النوع تي آي من أتلانتا الذي أصدر ألبومه Trap Muzik عام 2003، وشوتي ريد الذي يرد اسمه كثيرًا كمنتج موسيقي، والذي قام من خلال استخدامه لأجهزة الإيقاع الإلكتروني المعروفة باسم TR 808، والسينثيسايزر، والأصوات النحاسية المقطعة، بتقديم صوت مميز لموسيقى التراب. لكن خلال السنوات الأخيرة تم تبني المصطلح من قبل فناني الموسيقى الإلكترونية الراقصة الذين قدموا موسيقى سريعة الإيقاع أميل إلى موسيقى الريف باستخدام نفس العدة الصوتية، مبتعدين كل البعد عن سياق الهيب الهوب. من عدة نواحٍ بعددٍ من أعراف المزادات الأميركيّة، إذ يقوم البائع بالمزاد بدور المغنّي، فيبدأ الغناء بإيقاعٍ محدد حسب الحركة المطلوبة لرأس المال (مثل ما حدث في التسعينيّات عندما تم تحديد معدّل بيع التبغ بالمزادات ليسمح ببيع كمية ترواح من 400-600 كومة من التبغ في الساعة، حيث كانت الكومة تباع خلال 6-10 ثوانٍ)Arts in Earnest (1990) Edited by Daniel W. Patterson & Charles G. Zug III. Durham, North Carolina. Duke University Press. P.105. ورغم اختلاف موسيقى الراب عن المزاد الفوري، إلا أن إيقاع الموسيقى يتم تحديده بشكل يعيّن المعدل المطلوب لتدفّق رأس المال. يتحدث غوتشي في أغانيه عن روتينه اليومي (“دخلت المطبخ أعمل لي كيلو كوكايين/ هاديك 63 جرام وقصادهم 12-50/60 رطل مانجاوي، 60 رطل رايش/أول ما تخلص أبيع 60 تانيين”)، بطريقة تشي بوعيه بضرورة استمرار البيع، والذي يكشف بدوره عن شعور باطن ومزمن بعدم الاستقرار المادي.

ثمة سمة خفيّة من سمات الوعي القومي الأسود الأرثوذكسي في المواضيع التي يتناولها غوتشي. ففي أغنية “Blue Face Rollie” يقول: “زي مالكوم إكس اتولدت زعيم، وأنا قاعد أضرب مع أهلي وناسي”، وفي ”Plain Jane“ يقول: “أنا من شرق أتلانتا باقولها بعلو الصوت، عندي فيراري سودا أنا أسود وفخور”، كما يقول في ”My people“: “أعرف جماعة لاسعين (المكسحين)، دول بتوع الأزرق، وأعرف عيال الدم، دول بتوع الأحمر، غوتشي مين جدع أسود جيبه مليان أموات.“المخابيل (Locs) والجهلة (Crips) إشارة إلى عصابة أفريقية أمريكية تتسم بالعنف، مشهورة بارتداء اللون الأزرق، وتعرف أيضًا بعدائها الشديد لجماعة الدم (Bloods)، والتي اشتهرت بدورها بارتداء اللون الأحمر. المترجمة

قد تكون ملامح النضال تلك في كلمات غوتشي مين بعضًا من بقايا أغاني الراب في التسعينيّات التي كانت محملة بإشارات إلى الفئة السوداء المتفوّقة والقوّة السوداء، إلا أنهّا تنبع بشكل أكبر من كونها نشأت في عالم مهدد بالفناء الاقتصادي. لذا بدلًا من تبنّي شعار حركة الفهود السوداء، والذي يقول إن العنصريّة إحدى آليّات الرأسماليّة، يرى غوتشي أن رأس ماله، جيبه المليء بالأموات، هو السبيل الوحيد إلى القوّة، أو حتى مجرد الحفاظ على النفس. وهنا تحضرنا الصورة الشهيرة لمالكوم إكس وهو ينظر من وراء الستارة رافعًا بندقيّة آلية والتي تحمل عبارة “بكل السبل الممكنة”، وقد تم إغفال الجزء الأول من المقولة: “حرّروا عقولنا بكل السبل الممكنة”. أصبحت تلك الصورة السينمائية لمالكوم إكس من الصور المتداولة والتي تستخدم في نفس سياق صورة المواجهة الأخيرة لتوني مونتانا. تمّت تنحية الهدف النبيل بالتحرير الوجودي الكامل جانبًا، إذ أصبح البقاء على قيد الحياة الغاية التي ينشدها الناس. ولا يشير هذا التحول إلى حدوث تغيير قاصر على المجتمع الأسود فحسب، بل هو إشارة إلى التغيير الأشمل الذي طرأ على المجتمع الأميركي بشكل عام، إذ استسلم تدريجيًا أيضًا الليبرالي الأبيض الذي كان مناهضًا للمؤسسات والحرب في الستينيّات إلى الليبراليّة الجديدة مع دخول أميركا في مراحل متأخرة من الرأسماليّة. يمكن قراءة استدعاء غوتشي للحس الموجود في عبارة “بكل السبل الممكنة” أيضًا كالتماس للتفهم، وكمحاولة لتبرير السّلوك الذي يطارده، وهو بمثابة شبه اعتراف بأنه قد آذى قومه خلال رحلته للسعى وراء مصالحه الخاصة.

منذ مرحلة Geto Boys و N. W. A كان راب العصابات (Gangsta rap) هو الشكل الغالب على الراب ذي التوجه السياسي، فلا يوجد ما هو أكثر ارتباطًا بالسياسة من وصف الفقر المنهجي والعنف الذي يولّده. والقراءة القاصرة لأغاني الراب، والتي تكون في كثير من الأحيان عنصريّة أو معادية للفقر، هي التي تعجز عن التعاطي مع مؤلفات مغني الراب بنفس عمق تناولها لما ينتجه مخرجو الأفلام أو كاتبو الروايات التاريخيّة. والذين يستهجنون راب العصابات يجدون في كلمات أغانيه إدانة للشخص الذي صاغها بدلًا من إدانة المنظومة التي تستعرضها الكلمات.

ورغم أن أتلانتا هي المركز الرئيسي للراب منذ مطلع الألفيّة، إلا أن الإعلام المتركز بشكل رئيسي في نيويورك ما زال يجد صعوبة في فهم مغنيي الراب الجنوبيين حسب مفاهيمهم. ويمكن مقارنة ذلك بالنقد المؤيّد للجاز على حساب البلوز، حيث كان الجاز مفهومًا كقالب محفّز فكريًا، بينما كان البلوز يصور على أنه ظاهرة ريفيّة ونقل شفوي يفتقر إلى الملكة الفنيّة. وكان ذلك رغم صفة الجاز التجريديّة، فهو بقدر ما كان ملهماً، لم يسمح—في ما عدا استثناءات قليلة—بأي اشتباك مباشر مع السياسات المتعلقة بالعمل أو الهجرة أو الأسر التي تتفكك بسبب الفقر، وهي المواضيع التي شكلت القاعدة الأساسيّة لمحتوى كلمات أغاني البلوز.

نادرًا ما يتم فهم موسيقى مثل التي يغنيها غوتشي من ناحية سياسيّة، لأنّها لا تعمل من خلال الأطر المعتادة للنشاط السياسي أو الأخلاقيّات أو وصف السياسات. ومنظور غوتشي منظور متجّسد، لأنّه شخصيًا كامن داخل هذا المنظور. وتعد عدم القدرة على التعرف على الدلائل السياسية في تلك الأغاني بمثابة رفض أو عجز عن الاستماع وتخيّل الواقع الذي وصفه بوضوح شديد، والذي يعرفه العديد من الأميركيين الأفارقة الفقراء في أمريكا تمام المعرفة. كما إن عدد مستمعيه الهائل في أماكن عرض الموسيقى السوداء المعاصرة (كما هو واضح من عروضه كاملة العدد في أنحاء الجنوب والغرب المتوسط) خير دليل على ذلك الفهم، لكن هؤلاء المستمعون لا يجدون من يمثلهم، سواء في الإعلام المطبوع أو على مواقع الإنترنت، فضلًا عن غياب التمثيل السياسي بالطبع. ومن هنا تنبع أهمية فنان مثل غوتشي.

المزيـــد علــى معـــازف