٤٤:٣٦ | فارس كرم

بدأ فارس كرم مسيرته من برنامج استوديو الفن، الذي تقلد فيه الميدالية الذهبية عن فئة الغناء الشعبي، ليصدح بعدها بأغنية بقعد من دون شمس ومي التي حققت رواجًا ساحقًا. واصل فارس نجاحه على نفس الخط قبل أن يذهب بصوته إلى مساحات مختلفة، فركّز على الأغنية الشعبية الإيقاعية، معتمدًا على صوته الجبلي وشخصيته المنطلقة التي تمده بجرأة وتهوّر كافيين لأن يطرح هواجسه كما هي دون تردد. هذا التصالح الحقيقي بين سلوكه اليومي وسلوكه الفني خلق حالة حقيقية قادرة على قول الجديد، فأغلب ضرباته كانت من ذلك النوع الذي يتعامل مع المرأة بشيء من المباشرة، بل والسطحية في بعض الأماكن. الحافز الأساسي الذي تعدو أغنياته خلفه، هو الشكل والجسد والملامح بمعناها الملموس لا المحسوس، وتكثر على ذلك الأمثلة: التنورة ودخيلو شكلك وشفتا بشارع الحمرا ونسونجي وختيار عالعكازة وريتني تمباك معسل. ليس ذلك فقط، بل تعامل فارس كرم خلال منجزه أيضًا مع مفهوم الرجولة على أساس الفتوة والتحدي والقوة، يظهر ذلك بوضوح في أغنية وادي الأسود، وهذه ملامح تتجانس مع صوته وشكله أيضًا، لذلك فيمكن أن يعد هذا التصالح والانسجام بوابة لنجاحه، فالرجل لم يحاول تغيير جلده أمام الكاميرا، وهذه جرأة تحسب له على المستوى الفني.

يعبر عنوان ألبوم فارس كرم الجديد ٤٤:٣٦ عن الزمن الكلي لأغانيه، ويتوافق إطلاقه مع بلوغه سن الـ ٤٤، فيبدو مخاضًا جديدًا. لكن هل وفق هذا المخاض في اختياراته بعد غياب خمس سنوات منذ ألبوم العاصمة؟

تضمن الألبوم ١٢ أغنية جديدة، ساهم في كتابتها وتلحينها وتوزيعها فنانون مختلفو المشارب. يفتتح الألبوم بأغنية بدنا نولعا، من كلمات حياة إسبر وألحان فضل سليمان وتوزيع عمر الصباغ. لم تذهب الأغنية بفارس خارج جدران شخصيته، لكنها أخذته إلى حديقة جديدة ضمن هذه الأسوار، ليظهر بصورة مختلفة وجذابة تتناسب مع التطور السريع الذي يطرأ على الأغنية الشعبية حالها حال غيرها. أبدع سليمان بتقسيم الجملة الموسيقية الشعبية بطريقة حداثية، قصيرة ورنانة، قادرة على الطيران، ساعده في ذلك اللطف الساطع من الكلمات، وهذا أسلوب إسبر الذي اعتدناه في أغنياتها التي غناها سابقًا كل من محمد عساف وحسين الديك، وناصيف زيتون الذي كتبت معظم أغنيات ألبومه الأخير طول اليوم، وشكلت ثنائيًا ناجحًا مع فضل سليمان فاز من خلاله زيتون بجائزة أفضل ألبوم غنائي بالموريكس دور. أشارت إسبر في حوار سابق إلى أنها تتمثل إحساس الرجل الشرقي قبل كتابة أغنياتها، التي عادة ما تكون شعبية من الطراز نفسه، ولم تتعارض كلمات الأغنية مع الخط الذي نهجه كرم:

“أنا ببُعدك مش أنا    يا عمري يا روحي أنا

يحرم ع روحي بيوم    وحدة غيرك تسكنا

والليلة بدنا نوّلعا    الوحدة بدنا نودعا

يا ليل كرمالي تعا    روح وتركني معا

عيوني مشتاقة إلك    مشتاقة تتأملك

اليوم وبكرا وكل يوم    وكل حظة بعمري إلك

حلا عيونك في حلا    دقات قلبي مكمّلا

إنت أجمل مرا    بحياتي مقابلا”

أضاف أسلوب فارس كرم في الغناء نكهة “الشقاوة” إلى هذه الأغنية، وهو الأسلوب الذي يتورع كثيرون من أدائه، والذي يعود الفضل في اقتراحه إلى كل من فهد بلان ومحمد عبد المطلب، كلٌّ وفق معايير ومحددات لونه الغنائي. أما عمر صباغ، فقد أضفى على الأغنية سلاسة تجعل طيرانها موفقًا باعتماده على ضربات إيقاعية يمكنني أن أصفها متجرئًا بالناجحة في صوغ أغنية دبستِب شعبية.

الثنائي نفسه أعد أيضًا أغنية حبك برم، التي لم تختلف كثيرًا عن الأولى من حيث زاوية الكتابة، أما اللحن فجاء ملائمًا لأداء فارس كرم الذي نجح في أن يصور بصوته التنازل عن كبريائه عن رضىً في حضرة جمال الصبية. أما أغنية الشارع كله، والتي كتبها ولحنها سهيل إلياس ووزعها روجيه خوري، فلم ألمس فيها أي جديد يضاف إلى منجز فارس كرم السابق، وفي تقديري إن لم يغنّها هو، لكان مصيرها لحنًا آخر يلائم صوتًا آخر، لأنها صيغت على ما يبدو على مقاس صوته وعربه المعروفة.

أغنية كل الناس حواليكي، من كلمات الشاعر الكبير نزار فرنسيس، والتي كُتب عليها إهداءٌ إلى روح ملحنها الموسيقار الكبير ملحم بركات، جاءت بنكهة عتيقة، ولم تحمل عبء المواكبة مطلقًا، بل حملت روح ملحنها ولونه، مما أثر في أداء فارس كرم الذي استأنس بأداء ملحم المعروف. ساهم في تظهير ذلك توزيع طوني سابا الذي لم يتجرأ على التجريب في الموسيقى، إنما حافظ على كينونتها كما تخيلها – حسب تقديري – في رأس الملحن الراحل. تنتهي الأغنية التي تعوم على ماء مقام الحجاز بجملة موسيقية من أغنية على بابي واقف قمرين، يتبعها صوت لم يتسنّ التحقق منه إذا ما كان صوت ملحم أم صوت شبيه يقول: “إختها لقمرين”، الأمر الذي يزيد من تأطير الاستعادة بإطار يمنع التجريب.

يثبت ذلك ما حصل في أغنية صدقني صعبة، التي كتب كلماتها ولحنها جهاد حدشيتي ووزعها روجيه خوري. تنتمي الأغنية إلى مدرسة ملحم بركات، خصوصًا الإنترو والكوبليه الأول، لكن هناك تخلص واضح من عقدة الأب منحاها جمالًا وجدة، وجعلاها أجمل من الناحية الأدائية.

كتب مازن ضاهر أغنية قربك وجع، كلمات موفقة، وقافية جديدة إلى حدٍ ما، رغم أنها تحيلنا إلى أغنية حبك وجع، إحدى هيتات إليسا. لكن فضل سليمان أخفق في تقديري بصناعة اللحن المناسب هذه المرة، فأظهر فارس كرم بصورة لا تشبهه: اللحن مرهف والصوت بعضلات، والمسافة بينهما واضحة ومتمثلة في صورة مهزوزة للركوزات وإخفاقات في صناعة العُرَب.

بلاد الله، التي كتب كلماتها ولحنها ياسر جلال ووزعها روجيه خوري، هي أغنية طريفة، يمكن أن نعدها لفتة حلوة للمرور على مجمل البلدان العربية في ظل الظروف التي تحيق بها، ولو أنها تطرح الصورة النمطية في الذهنية العربية لكل واحد من هذه البلدان:

“والله لنزل ع دبي

واطلع عالبرج العالي

                     وأدعي لرب السما يجمعني بالغوالي

والله لنزل سوريا

وإمشي بالحميدية

              وأصيح بأعلى صوتي سوريا شمعة مضوية

والله لنزل ع فلسطين

وأحررها بإيديا

           وأروي تراب القديسيــن من دموعك يا عينيا”

تضمن الألبوم أغنيتين زفافيتين، الأولى سمع، من كلمات مازن ضاهر وألحان فضل سليمان وتوزيع عمر صباغ، أغنية بإيقاعات قوية اعتمدت على المجوز وأصوات “الزفّيفة” التي تصور العرس الشامي بمعناه الشعبي والأصيل، وتنحاز إلى صوت الرجل / العريس. في المقابل فإن الأغنية الثانية طلت بالأبيض تحمل صوت المرأة / العروس، وتصف الرحلة من بيت الأب إلى بيت الزوج، معتمدة على لحن زفافي تراثي كلازمة تتكرر بين المقاطع بأصوات نسائية فيها شيء من دموع الفرح، كتبت كلماتها أريج ضو، ولحنها سليم سلامة، ووزعها روجيه خوري بطريقة تدمج الحداثي بالتراثي.

رمشت، من كلمات ربيع قطايا وألحان فضل سليمان وتوزيع عمر صباغ، كانت ستكون أغنية عادية لولا اللازمة الموسيقية التي تدخل بعد الإيقاع ولا تتمكن من اللحاق به، بصورة فيها جدة وإبداع يتناسبان مع كلمات الأغنية وموضوعها الذي فيه شيء من التصابي:

“رمشت رمشت رمشت

ضحكتللي وما مشت

وجمعة ودايخ وراها

وهالمرة نفشت”

تمكن سهيل فارس في أغنية نسيت اللي راحوا من صناعة لحن يعود بنا إلى الثمانينيات، كتب كلمات الأغنية أحمد ماضي ووزعها روجيه خوري، بطريقة تتفق نهجًا وحسًا مع اللحن، إلا أنها تتقاطع تقاطعًا صارخًا مع أغنية مروان خوري الليلة ليلتنا للموزع نفسه.

في المجمل يمكن اعتبار هذا الألبوم خطوة في الاتجاه الصحيح لـ فارس كرم بعد سنوات عمله الاثنتين والعشرين، فقد ترك الرجل بصمة واضحة اختص بها عن غيره، وجاء هذا الألبوم ليؤكدها، ويضيف عليها بريق الجِدّة، مانحًا إياه فرصة للمواكبة الضرورية لمواصلة مشواره، ولتمكينه من الوصول إلى أجيال جديدة. ففي الوقت الذي ذهب فيه أبناء جيل فارس كرم وسابقيه إلى صناع أغانيهم القدامى، كما فعل وائل كفوري في ألبومه الأخير W مع بلال الزين وغيره، ونجوى كرم في ألبومها مني إلك مع جوزيف جحا وجورج مارديروسيان، قرر فارس كرم أن يحدَّث نفسه عن طريق صنَّاع أغانيه، ما مكنه من تحقيق هذه العودة القوية.