.
ربما تبدأ آخر أغاني ناصيف زيتون، فارقوني، مرحلة جديدة في مسيرته. بدأت أولى هذه المراحل بألبومه الأول يا صمت الذي سيبلغ عامه السادس الشهر القادم، حيث ظهر ذكاء ناصيف في عثوره على صوت بوب شعبي خاص، يُرضي محبي الشعبي والمترفّعين عنه في نفس الوقت، مستعينًا في ذلك وبشكل رئيسي بـ فادي مرجان كاتبًا وفضل سليمان ملحنًا وأنس كريم موزعًا، ليقدم بالنتيجة أفضل تشكيلة نصوص وألحان بين ألبوماته الثلاثة الصادرة حتى اليوم، وخطوة كبيرة على طريق إيجاد الموزع الأمثل.
بدأت المرحلة الثانية قبل ثلاث سنوات، والتي استمر فيها بالتعاون مع فضل سليمان بنفس الوتيرة، دون تحقيق نفس المستوى الذي وصلاه في الألبوم الأول، إذ بدا أن فضل ارتاح لمساحة معينة لا يخرج منها إلا في المناسبات. اختفى اسمَي فادي مرجان وأنس كريم من الكتابة والتوزيع، لصالح التنويع في أسماء الكتّاب وتثبيت الأجواء التي حملت لواءها حياة إسبر، الشاعرة الذكوريّة بشكل ملفت؛ بينما اتقدت في التوزيع منافسة مُجزية بين من يمكن اعتبارهما أهم موزّعَين شاميَّين، جيمي حداد وعمر صبّاغ. حُسمت منافسة الموزّعَين لصالح صبّاغ في تكّة، التي قاربت حذاقة مفاجآتها حدّ الطرب. كوّن ناصيف في هذه المرحلة شخصيّة دعّمت نجوميّته بشكل ملحوظ، يمكن أن يُطلق عليها أحمد السقا الأغنية العربية، الذي “شرب الغيم اللي بيروي الأرض رجوليته”، والذي يغني لمحبوبته مكسورة الجناح التي لا يمكن إيجادها إلا بعد نيل رضاه، كونها مختبئة خلفه و“مستحيي”، والتي تصدّق وعده لأنه “وعد رجال”، المُختلف عن وعد النساء كما علّمنا باب الحارة في أجزائه الستّين الأخيرة.
في المرحلتَين حقق ناصيف إنجازًا استثنائيًا في بلاد الشام، وهو الاعتماد على أغاني شاميّة وإنتاج شامي بشكل رئيسي، ومع ذلك الوصول إلى نجاح وأعداد مشاهدات تنافس أكبر نجوم مصر والخليج. بالتزامن مع إنجاز ناصيف، حقق مشهد البوب العراقي قفزة أكبر وفي نفس الاتجاه، حيث وصلت عدة أعمال منه إلى مئات ملايين المشاهدات على اليوتيوب. ربما لذلك، اتجه ناصيف – في خطوة ذكية – إلى العراق بدل مصر، في أول مرة يصدر فيها أغنية بلهجة غير شاميّة، جاعلًا فارقوني محطّة كبيرة.
كتب الكلمات عدنان الأمير، مثبتًا بها براعته كصنايعي في المقام الأوّل، كون هذه رابع مرّة على الأقل يُقدّم الأغنية ذاتها بكلمات مختلفة خلال السنوات الثلاث الماضية (بعد تبلى لـ عبد السلام زايد وأنا مالي لـ وليد الشامي وما يفيدون لـ لمياء جمال)، ومع ذلك تبدو جديدةً وملعوبة النَغَم بتنوّع أطوال أبياتها وقوافيها.
ترك أدهم مُهمّة رواية موضوع نَص الأمير لأداء ناصيف، ووضع لحنًا بحيويّة لا تُشبه نظريًا أغنية فيها كلمات مثل “كل ما اجيكم لازم اتسمعوني شي يقهر / كل كلمه من عدكم اليّه تشبه الخنجر”، لكنه بشكلٍ ما لا يبدو نافرًا؛ ربما لأن الأغنية بدت لرجلٍ مسن مَلّ الدراما وأصبح يُغني مشاكله مُطبّلًا على أقرب قطعة خشبية، وربما بسبب صدق أداء ناصيف وإتقانه اللهجة المُحمّلة أصلًا بالشجن. تفادى ناصيف أي فرد عضلات أدائي، رغم تمكّنه وقدرته على الاستعراض، ورغم كونه يدخل بالأغنية مشهدًا معروفًا بقدرات نجومه الصوتيّة وميلهم إلى الجوابات المشحونة عاطفيًا وأدائيًا. أنصف بذلك ناصيف النص، وأبقى على مكانته كنجمٍ تجاوز مرحلة السعي لإثبات قدراته في كل فرصة.
في التوزيع، يبدو أن عمر صباغ أدرك أنه بدخوله مساحة البوب العراقي يشارك في منافسة توزيعية محمومة، وعليه بذل كل ما يستطيعه للخروج بتركيبة تنضح جدّةً وحذقًا، وإلى حدٍّ كبير، هذا ما حدث. تبدأ الأغنية بنقرتين على ما يشبه كؤوس أو زبادي، ثم يبدأ كيبورد العزف مع ناي رشيق، ليحل محلهما جيتار وصفقة إلكترونية مع دخول الغناء، جيتار له خطة كبيرة على طول الأغنية. بعد “دنيتي في البعد أحسن في الثانية ٢٥ يُعلن درَم رول على التومّات وبعده ضربة على الصنوج عن نقلة من الصقفة إلى كيك مضغوط من كيبورد، مُختلف عن الذي كان في الدخول، ويُشكّل عصب الأغنية؛ لكنه كالجيتار، أيضًا له خطة تطوير ملفتة تجعله يستحق مكانه في الواجهة.
بدايةً من مقطع “كل مرة اسامحكم” تُضاعف طبقات الجيتار ليصبح جيتارات برنين وتري وإيقاعي جذّاب. في أول لازمة في الثانية ١:١٣ يدخل كيبورد بصوت نفخي يرافقه ضجيج سنثي، وبعد عشرين ثانية يغيب الكيك ويدخل محله إيقاع إلكتروني يزيد شَحن اللازمة. يعود الغناء في الثانية ١:٥٢ ويعود معه الإيقاع ملعوبًا على الجيتار مع الصقفة الإلكترونية، لتسع ثوانٍ يصاحبهم بعدها ما يشبه البونجوز لكن بصوت مكتوم، لثمان ثوانٍ يدخل بعدها الإيقاع الإلكتروني السابق بدل الصقفة كما تتعدد طبقات الجيتار مرة أُخرى. أيضًا، تتغير الأمور بعد عشر ثوانٍ بضربة كيك يتلوها استبدال الإيقاع الإلكتروني بالصقفة مع بقاء عدة طبقات للجيتار. في الثانية ٢:٣٠ يعود الكيك مهيمنًا على الأغنية مع تراك جيتار واحد، ومع دخول اللازمة الثانية في ٢:٣٨ يبدأ مهرجان من أصوات نفخية من كيبورد مع الجيتار وناي الدخلة وساكسفون وسنث وضجيج سنث، والكيك محكِمًا قيادة الجميع، مع لمسة خاطفة ذكية من جيتار إلكتريك سمعناها ذاتها سابقًا في الثانية ١:٢٢. تُختتم الأغنية بالغناء مع بيانو، مع وقوف غير متوقع عند كلمة لقلبي في جملة “ما أسمح لقلبي”.
لا يمكن الجزم إن كانت تجربة ناصيف في دخول ميدان جديد تفتتح بالفعل مرحلة أفضل وأوسع انتشارًا، لكنها بلا شك دليل أنه بالذكاء الكافي الذي يجعله يعلم الوقت المناسب لإحداث تغيير، والشخص المناسب لذلك، أي عمر صبّاغ الذي بلغ هنا ذروة احترافية جديدة، تتفوق حتى على تكّة في حساسية تخيُّر الأصوات ولحظات دمجها وفكّها.