.
على مدار العقد الماضي، استمدّ المزيد من منتجي الموسيقى الإلكترونيّة إلهامهم من الخيال العلمي والسايبرْبَّنك، استكمالًا للتوجه الذي بدأ مع الجانغل والدرَم آند بايس. تزامن ذلك مع هيمنة الديستوبيا على مستوى مفاهيم وثيمات الإصدارات الفنيّة، بشكلٍ بدأ يبدو مستهلكًا في الآونة الاخيرة، وعكس مخاوف وقلق العديد من المنتجين من الوضع العالمي الراهن.
أيضًا، شهد هذا التوجه نحو الخيال العلمي والسايبربَنك انتشار أعمالٍ توظّف الخيال بشكلٍ مبالغٍ فيه، من خلال عوالم افتراضية تأهِلها الوحوش والكائنات الفضائية من زمانٍ ومكانٍ آخر. فيما يتجلى الخيال على مستوى ثيمات هذه الاعمال بشكلٍ ملحمي ولعوب مسلّي، تحافظ الموسيقى على قدرٍ عالٍ من الجديّة، وتعكس ثيمات الفضاء عبر أدوات مثل تصميم الصوت والبنية المائعة للتراكات والعينات الصوتية المجرّدة والضجيج، بالإضافة إلى تنصلها من أي جنرا محدّد أو اختراعها لجنرات خياليَّة بداعي السخرية. تشمل قائمة الفنانين التجريبيين الذين أصدروا أعمالًا مماثلة: كيبروس وهايبركيوب ولا بست ويوكا-بِكا كرفينن.
كان ألبوم سرفس تنشن للثنائي دي إي إف سي إي (دِث كواليا وSHVLFCE)، والصادر عبر تسجيلات أوم رزيستنس الأمريكيّة، من الإصدارات المميّزة ضمن هذه الحركة. لقي الألبوم قبولًا واحتفاءً واسعًا من النقّاد رغم انتشاره المتواضع، وأصبح من الإصدارات الملهمة لدى العديد من المنتجين، يقف إلى جانب أعمال منتجين مؤثرين مثل أوتكر وآيفكس توين وبريال، لما حمله من أفكار مستقبليّة في الإنتاج والتعامل مع الخامات الصوتيّة المعقّدة.
تابع دِث كواليا (جوناثان باروك) مسيرته على مدى السنوات الست الماضية، وأصدر أعمالًا أقل تعقيدًا، يسيطر عليها الضجيج والإيقاعات المقلّة، مثل ماسك سرجري II وإنتنشن فرسس. في ألبومه الجديد، فانجد كونتراديكشن، يعود دِث كواليا إلى أسلوبه في سرفس تنشن. تعكس تراكات الألبوم الستة عالمًا خياليًا تدور أحداثه في قريةٍ أزليّة، ترزح مشلولةً تحت تهديد وحش.
يعالج دِث كواليا ثيمته عن طريق تصميم صوتي معقد وجذاب، نتبين منه جمالياتٍ آتية من عوالم أخرى. يجمع الألبوم بين الحضور الخجول للنغميّة، والتجريد على مستوى الأنسجة الصوتية الغريبة والخامات الغنية. لا يلتزم دِث كواليا ببنية متوقعة، ويلجأ إلى استخدامٍ مثير للإيقاعات العنيفة، والجليتشات المتناثرة التي تخترقها أجواء محيطة تزيد من غموض الألبوم.
يفتتح دِث كواليا الألبوم بتراك ملحمي (Muzzled Phenomena) ملائم للثيمة الخيالية، يكشف عن صوت عريض ومجسّم تسيطر عليه ضربات الكيك المشوّهة (distorted kicks) التي تغلي كبركان يزيد من حالة الترقب. تأتي المقاطع الهادئة والأجزاء القصيرة الصامتة في التوقيت الأمثل، لتزيد من لذّة التراك. كما يعتمد التراك على تنويعات مختلفة للحن الرئيسي، تصيغها أصوات معدنية مركّبة تكتسب حسًا بمساحة واسعة بفضل تأثير الريفرب، على نحوٍ يوازن الأصوات المتسارعة التي تهجم في جميع الاتجاهات.
يسيطر تراك برايت بلاك على أذن المستمع بعيّناته الصوتية الغنيّة بالتفاصيل وإيقاعه المتغيّر وديناميكيّته المشوّقة. يغلب على التراك إحساسٌ بالترقّب يجعله تراكًا راقصًا مفككًا (deconstructed) من العيار الثقيل. يذكرنا التراك بأسلوب وولج في التلاعب بأصواته المعدنية والجليتشات، لكن بطريقة مكثفة وغامرة. كما نلاحظ في هذا التراك بالأخص تحلي دِث كواليا بقدر كبير من المخيّلة الموسيقية والصوتية.
نتبيّن أطياف التكنو التي تطل كزائر عابر في تراك كور أَبداكشن، حيث تتوسع حدود التكنو مدفوعةً بكتلٍ مركبة من الضجيج، وتنويعات إيقاعية وأصوات متكسّرة تسلب المستمع القدرة على التنفس. يعتمد التراك أسلوبًا جريئًا من شأنه زعزعة المعادلات التي سيطرت على التكنو لسنوات.
يبلغ دِث كواليا أقصى حدود أسلوبه العنيف في تراك كرب يور فانجد، حيث تتوالى الكيكّات بسرعة صاروخية كطلقات الرصاص عبر الأصوات الزجاجية المتشظية. في إت ديد إتس وورس، يتوه المستمع وسط إيقاع أشبه بالدوامة، وضجيجٍ مكتوم تكبت الكيك محاولات تنفسه. بشكلٍ مقل وأكثر حذرًا، يرجعنا دِث كواليا إلى بعض معالمه النغمية الملحمية التي ظهرت في التراك الأول.
يترك دِث كواليا مساحة للمستمع كى يلتقط أنفاسه في تراكه الأخير، أُن كونتراديكشن، الذي يتبع خمسة تراكات مركّزة، ليختتم الألبوم بأجواء محيطة مظلمة، يتحرر فيها من الإيقاعات كاشفًا عن أسلوبٍ ارتجالي يوظّف من خلاله التشويش والدرون.
يمزج الألبوم بين التجريب الجاد الذي يسعى إلى تطوير المشهد، والطابع الراقص المسلي الذي يمسك بالمستمع بالأصوات المثيرة والإيقاعات المحمّسة. يتخطّى دِث كواليا في الألبوم فكرة التصنيف، ليعود إلى مشروعه في إنتاج موسيقى شديدة التخصص ضمن مجال التصميم الصوتي السينمائي، المشروع الذي بلغ درجةً من النضج والاكتمال أكسبته مكانته كأحد اقوى إصدارات الموسيقى الإلكترونية للعام.