fbpx .
فرج سليمان | مراجعة أغنية بخطرلي أشتقلك

بخطرلي أشتقلك | فرج سليمان

رافاييل لايساندر ۲۰۲۵/۰۸/۲٦

تكمن روعة العثور على أغنية بخطرلي أشتقلك بعد عامين من إصدارها في أنها تُجسّد كيف نستهلك الموسيقى في ٢٠٢٥. كنت أفعل ما يفعله معظمنا: أغوص في متاهات يوتيوب بعد منتصف الليل، أضغط على صور مصغّرة تبدو مثيرة للاهتمام، وأترك ​​منطق الخوارزمية الغامض يُرشدني من أغنية عن الحشيش لبلو فايفر وحتى إحياء لأغنية تركية قديمة. أي على عكس ما تتخيله صناعة الموسيقى، لم أكن أنتظر بفارغ الصبر أحدث إصدارات فرج سليمان، أو أنتظر إشعارًا بتعاون جديد مع مجد كيال؛ لكن شكّل توقيت حفلة فرج في بيروت، وعرضه لهذه الأغنية هناك، صدفةَ خوارزمية لعبت لصالحي.

توحي عودة فرج إلى هذه المادة بفيديو بعد عامين بشيءٍ مثيرٍ للاهتمام حول حياة الأغنية الآخرة؛ فمعظم موسيقى البوب ​​لها عمرٌ افتراضيّ كالبسكويت المغلف. لكن يبدو أن بخطرلي أشتقلك طاردت مُبدعيها كما تُطارد بعض اللوحات رساميها مُطالبةً إياهم بإثابة النظر فيها وإعادة وضعها في سياقها، ووهبها فرصةً أخرى للعثور على جمهورها. يبدو إصدار الفيديو بعد عامين أقرب إلى فنانٍ صبورٍ يقول: “لحظة! في شي مهم فاتك هون.” إنه المُعادل الموسيقي لذلك الصديق الذي يُصرّ على إعادة قراءة فقرةٍ ما لأنك قرأتها سريعًا في المرة الأولى.

تصل أغنية بخطرلي أشتقلك دون ضجيج، وتستقر في وعيك ببطء كتجارب الصِبا. تتقدم كقطعة موسيقية نسيت كيف تكون أغنية؛ حيث تطغى الصور الشعرية الكثيفة على الأنماط الإيقاعية واللحنية التي تُشكّل عادةً أسس الموسيقى الشعبية.

لو كنت جالسًا أقرأ:

“بخطرلي أشتقلك
بكنس الفكرة
بجمع المكسور من كاسة الذكرى.”

أو

“متل التمر والتين
صوتي كفن سكر.”

فسأضع مجد كيال ضمن شعرائي المفضلين. كتب مجد كيال قصيدة تستحق أن تُقرأ مع قصائد إ. إي. كومينج ومحمود درويش؛ لكن سماع هذه التراكيب في أغنية أمرٌ مُرهق وكثيف المعنى، لدرجة أن المستمع يغرق فيه ويفقد التركيز فيما يقوله فرج بعد منتصف الأغنية القصيرة.

تتكشف أبيات كيال بتعقيد الشعر الحديث المُتعمّد، حيث يحمل كل سطر دلالة مجازية تتطلب عناية فائقة. يتجنب البناء الغنائي أنماط القافية التقليدية مُفضّلًا العمق الدلالي، مُنشئًا مقاطع تُقرأ بشكل طبيعي على الورق أكثر مما تتدفق من الصوت.

يُلقي هذا النهج بمسؤوليات غير عادية على كل من العازف والمُستمع، إذ يجب على فرج التنقل عبر نص لم يُصمّم بالضرورة للعزف اللحني، بينما يجد الجمهور نفسه يُحلل المعنى الأدبي آنيًا عوضًا عن الاستسلام للتدفق الموسيقي. تتجلى التحديات التركيبية التي يُحدثها هذا بوضوح في أسلوب فرج الصوتي، فهو يتعامل مع هذه الكلمات كمترجمٍ يعمل بين لغتين، لغة الشعر ولغة الأغنية. يتحرك صوته بحذر عبر فضاء كيال الكثيف، متفاوضًا على كل جملة بدلًا من أن يسكنها.

بالإضافة لذلك يبقى صوت فرج خلال الأغنية كاملة مقيدًا عمدًا ضمن نطاق ضيق، متجنبًا الارتفاعات العالية والانخفاضات الدرامية التي تُضفي عادةً على الأغاني ذرواتٍ وهبوطًا عاطفيًا؛ وبمصاحبة توزيعات بيانو وجيتار بسيطة، تحافظ الأغنية على حميمية تُشبه السرد، تكاد تكون مخيبة للآمال.

الأمر الأكثر دلالةً هو ما لا تفعله الأغنية، حيث أنها لا تُكرر نفسها. في وسطٍ قائم على جاذبية النغمات المألوفة، والبَيت الذي يُسمع مرارًا وتكررًا حتى يُحفظ، والكورس الذي يُكافئ صبرنا بمصائد للذاكرة، تتكشف بخطرلي أشتقلك كتأملٍ واحدٍ متواصل. لا يُقدّم هذا العمل أيّ مكانٍ للراحة، ولا لحظاتٍ يُمكن تأجيل الفهم فيها لصالح الإحساس الخالص. كلّ سطرٍ مهمّ، وكلّ كلمةٍ تحملُ وزنًا. تخلو الأغنية من النمط والتكرار الضروري لأي مقطوعة موسيقية.

مع ذلك، يحدث أمرٌ غريب في الفراغ بين الإرهاق والانتباه؛ وبدل أن تُفشل كل هذه الأمور الخاطئة الأغنية، تجعلها في الحقيقة ناجحة. في عصرٍ تخلّت فيه موسيقى البوب العربية عن معناها إلى حدٍّ كبير لصالح الآليات، حيث تُختار الكلمات بناءً على أصواتها لا على معانيها، وحيث تُستبدل الحركات الصوتية بالتعبير الحقيقي، يبدو رفض فرج للأداء راديكاليًا بطريقة جِد عفوية لدرجة أنها لا تظهر كذلك.

تكشف عيوب الأغنية الظاهرة عن نفسها كخياراتٍ مدروسة. حيث يبدأ الأداء الصوتي السردي، الذي بدا في البداية قيدًا، يتحوّل إلى حميميّة مستعادة. ينجح النطاق اللحني الضيق، الذي كان من المفترض أن يجعل الأغنية قابلةً للنسيان، في أن يخلق عوضًا عن ذلك مساحةً للانتباه المُستمر، كالمشي في المدينة حيث تظهر المعالم ببطءٍ لكن بوضوح مقارنة بالسيارة. كما يقودنا غياب التكرار، الذي يحرمنا من راحة المقاطع المألوفة، بعيدًا عن الانغماس السلبي في موسيقى البوب، ونحو المشاركة الفعّالة التي يتطلبها الأدب. 

هناك مشكلتان فعليتان في الأغنية فقط. أولًا، “تيرا ريرا را” في الافتتاحية؛ والتي تبدو كرضوخ من قبل فرج ومحاولة لملء الفراغ أو إعطاء إيقاع للكلمات الثقيلة القادمة، دون أن تضيف للأغنية قيمة حقيقية. إنها اللحظة الوحيدة التي تبدو فيها الأغنية غير واثقة من نفسها، ساعية إلى تأثيرٍ بسيط في عملٍ غارقٍ في حقائقَ صعبة. أيضًا، ربما تمثّل هذه الـ “تيرارا” شبح المقطع الثاني الذي لم يكتبه عامر حليحل في أغنية إسا جاي، إذ صرّح فرج عندما غنّاها للجمهور لأول مرة عام ٢٠١٨ أن عامر انشغل ولم يستطع كتابة باقي الأغنية، لذلك سيُتمّمها هو، وأكمل غناء البيت الثاني مكتفيًا بـ تيرارا.

ثانيًا، تنتهي بخطرلي أشتقلك قبل أن تستوعب نمطها تمامًا، وقبل أن تتعلم أذنك التنبؤ بحركاتها. مع ذلك، قد يكون هذا الاختصار غير المقصود عبقريًا، فهو يدفعك لإعادة تشغيل الأغنية مرارًا وتكررًا لأن العقل يشتهي الأنماط، ونمط أغنية فرج لا يُشبع منه.

ما ينبثق من هذا التراكم من الخيارات غير التقليدية برهانٌ على قدرة الموسيقى العربية على تحمل ثقل الشعر الجاد دون أن تنهار تحت وطأته، وأن الأغاني قادرة على التفكير والشعور. لا تعلن بخطرلي أشتقلك عن هذه الإمكانيات؛ بل تُجسّدها ببساطة، صابرةً ومجتهدة كالمدينة في الفيديو.

 

المزيـــد علــى معـــازف