.
في ذروة عصر النهضة العربيّة الموسيقيّة (أوائل القرن التاسع عشر حتى ثلاثينيّات القرن العشرين)، لم يكن أحد يسمّيها كذلك. ما يصلنا من تلك الفترة يشبه ما يمكن أن يكون مشغلاً تجريبيّاً كبيراً ساهمت عدّة عناصر في تهيئة بيئته: فخرج الموسيقيّون من القاعات الخاصّة إلى الفضاء العام، مثل حديقة الأزبكيّة وأكشاكها الموسيقيّة، وخرجت معها محافل موسيقى ما تحت الأرض، في الكباريهات والغُرَز، وتقارَب رموز ذلك العصر الموسيقيّة مع حركات الإصلاح الدينيّة والمجتمعيّة، مثلما كان عبده الحمولي مقرّباً من محمّد عبده وقاسم أمين. إضافة إلى الإرادة السياسيّة في فترة الخديوي إسماعيل في مقارعة ثقافة الدولة العثمانيّة.
حفّزت هذه الأجواء الموسيقيين على ابتداع برامج موسيقيّة تتبنّى الارتجال غير المنوّط على حساب القوالب الصارمة التي كانت منتشرة قبل ذلك. لتتم إعادة اكتشاف الأدوار الموسيقيّة، وصناعة نوع جديد: الطقطوقة (المتأثّرة بالزجل الشامي)، والتي ساهمت، بالنهاية، بتحرّر الموسيقى العربيّة والاستفادة من الرصيد العثماني والفارسي بدلاً من معاداته.
يتجلّى نقيض ذلك العصر في عصرنا، حيث يسيطر التحالف الرأسماليّ/ المحافظ، الرّافض للتغيير، على العناصر الثقافيّة بشكل عام. فأينما ينتشر القمع، تنتشر القيم المحافظة لتبرير رفض أي قيم تعبيريّة جذريّة. إذ من مصلحة هذا التحالف المحافظة على استمراريّة هذا الوضع التخديري وقمع التغيير: وهي السمة المشتركة بين الأنظمة والكيانات الشموليّة.
وإذا ما تتبّعنا نشوء الحركات الموسيقيّة البديلة منذ بداية القرن الحالي، نستطيع ربّما أن نحيل تململ هذه الحركات إلى ردّة فعل على اتّساع القيم المحافظة، واستدراج الطبقة المتوسّطة، معقل هذه الحركات، إلى الفضاء السياسيّ العام. لكن يبدو أن هؤلاء الموسيقيّين، الذين يتحكّمون بالموجات، فتنوا بأنفسهم: فصنعوا الموسيقى لجمهور ضيّق من دون أي اختراق طبقيّ، وتغيير حقيقيّ: لينتهي بهم الأمر لتبنّي نفس النموذج الانفصالي والانعزالي الذي أرسته الأنظمة المسيطرة وعمّمته.
لكن في نفس الوقت، ولأن هذا التنافر وفّر بين السّائد والبديل سطحاً خامداً يهتم بالشكل وبالتصنيف غالباً، ظهرت تجارب متمرّدة لا تعبأ بالشكل بقدر ما تعنى بتفكيك عناصر المشهد الموسيقيّ الراهن، ورفض الجاهز ومساءلته موسيقيّاً. التساؤل هنا يجب أن يطرح بجدّية كما لو كانت هذه التجارب هي طفلنا المشوّه الوحيد الذي يجب أن نعتني به: ما مدى جدّية هذه التجارب في التحرّر من التنميط المفروض؟ فإذا تناولنا “فرقة الألف“، والتي تنتمي إلى هذا التمرّد الخفي، نجد لدى الاستماع المبدئي نزعة مغايرة. وذلك من خلال التوزيع الموسيقيّ غير المفتعل، والواعي لتفاعل الآلات الموسيقيّة مع بعضها البعض، ومع حيويّة العناصر الثقافيّة التي يتم التعبير عنها من خلال قصائد سركون بولص ومحمود دوريش، واللذان يحملان تلك النبرة المعاصرة. وبنفس الوقت: تجذّر “الألف” في الهيكل التقليدي للموسيقى الشرقيّة.
تؤدّي الفرقة عروضها الحيّة منذ أكثر من عام في عدد من المدن العربيّة والعالميّة، والتي كان آخرها بمسرح البلد في عمّان 3 تمّوز/ يوليو الماضي. مدّة العرض، الذي لم يسجّل بعد لطرحه في أسطوانة، 40 دقيقة تقريباً، ويتضمّن 7 أغانٍ للشاعر العراقي سركون بولص، الذي تتم غناء قصائده لأول مرة (هولاكو، الجثّة، حصاة، سقط الرجل). ومحمود درويش (مقاطع “انتظرها” من “دروس من كاما سوطرا“، و“هنالك موتى” من “خطبة الهندي الأحمر“)، وفيحاء عبد الهادي (اعتراف).
المثال الأوضح للتجذّر العربيّ والشرقي (إيران خصوصاً) هو أغنية “حصاة” (كلمات سركون بولص). فمنذ البداية، يتم تبنّي المدخل الشرقي التقليدي للأغنية أو المقطوعة. إذ يبدأ تامر أبو غزالة بمرافقة عود خيّام اللّامي بغناء مدخل القصيدة أربعة مرّات (مرّتان في التسجيل المرفق من حفل بيروت): “في اليوم التالي للطوفان/ صباح راكد/ وفي قعر العالم دمعة/ متجمّدة مثل حصاة يتيمة“، مقسّماً إيّاها إلى أربعة أشطر. خالقاً حالة شبه ملتزمة بقالب الموّال الشرقيّ عبر الالتزام النُّوَطيّ بالمقام في المرّة الأولى، ومن ثم التنويعات على نفس المقام في القراءات التالية، ليتلوه عيّنة مسجّلة لتقاسيم كمان، ليدخل بعدها الدرامز وغيتار البايس ليضبطان الإيقاع. وبمرافقة ضخّ الطاقة المجتمعة، التي يستمر الكمان فيها بقيادة صُلب اللحن بما يشبه دور الكمنجة الإيرانيّة بقالب “تصنيف” تحديداً، يتصاعد صوت أبو غزالة تدريجيّاً ليصل ذروته بالتّوافق مع الآلات، ثم ينهي الأغنية كما بدأها: مع العود.
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”667″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”typeof”:”foaf:Image”}}]
أما المثال الأقرب للأذن العربيّة المعاصرة هي رؤية فرقة الألف لأغنيّة “انتظرها” من قصيدة “دروس من كاما سوطرا” لمحمود درويش. فبعد أن قدّمت فرقة “تريو جبران“ ذات المقطع في أسطوانة “في ظل الكلام” (2009) برؤية تعبيريّة بحتة اقتربت من الرفاهيّة الأندلسيّة المبالغ بها – حيث تم التضييق على فعل الانتظار بافتعال ذروات لازمة لحنيّة واحدة مكرّرة –، قدّمت فرقة “الألف” رؤية ديناميكيّة تفتك بالاطمئنان إلى الابتذال العاطفي. إذ يتم نسج اللازمة اللحنيّة حول عيّنات إلكترونيّة مسجّلة التي تقودها هنا أيضاً، في استيعاب واضح لكميّة التناقضات الذي يمنحه فعل “الانتظار” في القصيدة عبر البناء المنطقي لتأثير الكلمات. فالانتظار لا يحمل الرومانسيّة التي تستسلم للحزن في شفافيّة بلّوريّة فقط، بل يحمل القلق، والمبالغة بالتوقّعات، ونحت مشاهد هشّة كهشاشة موقتيّة الزّمن الذي يكثّف الماضي والحاضر والمستقبل في نفس اللحظة. هل نجحت فرقة “الألف” بضخّ الطاقة التعبيريّة في القصيدة؟ ربما من الصعب التقييم في حالة الفرقة التي لا تزال مبكّرة، لكن الفرقة تقدّم ما يشبه قراءة نقديّة للقصيدة، بدلاً من مجرّد استخراج معانٍ تم تنميطها مسبقاً.
لكنّ الجديد هنا أن الفرقة تعمل كمشروع تجريبي، إذ يجتمع أعضاء الفرقة في فترات متباعدة ويقومون بإقصاء أو توريط تفاصيل جديدة لنسجها لاحقاً على المنصّة: بناء هيكل جديد، ومن ثم هدمه أمامنا.
إذ يوفّر موريس لوقا (إلكترونيّات) الإحساس التخديريّ للمحاولة العدميّة بتغيير الوضع الرّاهن. وخيّام اللامي بالعود الذي يمثّل أوضح عنصر Progressive محاولاً بناء خط هشّ بين المقام الصّلب والارتجال الحر. وبشّار فرّان على (غيتار البايس) وهو يعمل مع خالد ياسين على (الإيقاعات) على التدفّق المنهجي/ المتناسق للموسيقى. بينما يعمل تامر أبو غزالة (صوت وبزق) من خلال التنقّل بين مقام وآخر، وداخل المقامات نفسها، في محاولة واضحة لإظهار هشاشة هذا الهيكل.
ففي أغنية “هنالك موتى“، من قصيدة لمحمود درويش، ثمّة ما يبدو على أنّه تهيئة لنفس المقدّمة الشرقيّة الآلاتيّة: بينما يقوم لوقا باللعب في منطقته التي يبرع بها: توفير المحيط الخارجي للهيكل، يحافظ التوزيع على التقليد الشرقي بتسليم القيادة لكل آلة بالتناوب. تنهب هذه المقدّمة ما يقارب نصف مدّة الأغنية، في محاكاة سهلة للمقام العراقي، أو القدود الحلبيّة، أو اختزالاً لتلك المقدّمات الطويلة التعبيريّة للسنباطي في أغاني أم كلثوم. وعندما يبدأ أبو غزالة بالغناء “هنالك موتى ينامون في غرفٍ سوف تبنونها، هنالك موتى يزورون ماضيهم في المكان الّذي تهدمون“، تتفلّت الطاقة التعبيريّة بضراوة، لتكسر البناء المنطقيّ للأغنيّة كالتالي:
أوّلاً: يبدأ بالعكس، من “جواب” لقرار لم يتم غناؤه.
ثانياً: بما أن ترتيب الأغنية هو الأخير دوماً في ريبرتوار عروض الفرقة، يكاد أبو غزالة أن يستنفذ صوته تماماً– وهو التقنيّة/ السر في كافة عروضه سواءً مع الألف، أو الشخصيّة: في سبيل إبقاء صوته بأقصى طاقته، يعمد إلى رفع المايكروفون سنتيمترات قليلة عن فمه، ليضطّر، عند الغناء، إلى الوقوف، مشدوداً، على أطراف أصابعه. لذلك، يحمل صوته هنا، وفي هذا التوقيت، نزعة التهرّب من التوافق مع ذلك البناء المنطقي المرهق للمقدّمة.
ثالثاً: يتم تحييد الآلات جميعها من خلال الانخراط في دوّامة دائريّة مكرّرة لنفس اللازمة، بينما يعمل أبو غزالة على هلهلة أي شكل واضح لهذه الدوّامة.
التأثير المباشر والأوليّ لفرقة الألف مدوّخ، وحتى مالينخوليّ. وهذا التأثير قادم، على ما أعتقد، من محاولة هذه التوليفة لتغريب السّائد. وهو تغريب قادم من تركيبة الآلات، وليس من اللحن ذاته. وهذا ما يترك الشعور بأنّ أعضاء الفرقة يغامرون، بخطورة، على خط رفيع يفصلهم عن التغيير الحقيقي: بالاعتماد على الأداء الهشّ، والاتّكاء على القضايا الكبيرة التي تمنع حالة التقديس خارجها.
التساؤل هنا نظريّاً حول وظيفة التجارب المتمرّدة وثمن بقائها خارج عمليّة الإنتاج. إذا عدنا لأسباب ظهور النهضة العربيّة الموسيقيّة، نجد أنّ أهمّها تمتّع الحالات الموسيقيّة التجديديّة بحماية مجتمعيّة تكاد أن تكون حالة احتواء أبويّة، حتى أن تلك الفترة سمّيت بـ“الفترة الخديويّة“، نسبة إلى الخديوي إسماعيل الذي هيّأ تلك الأجواء. الآن، تعيش فرق مثل “الألف” في عالم مختلف تماماً: حيث تتحكّم دورة معقّدة من التحالفات بعمليّة الإنتاج، والتي يصفها هربرت ماركوزه: “الثروة الاجتماعيّة الهائلة التي تستخدم في فترة الرأسماليّة للتدمير بدلاً من البناء“. لذلك، فمحكوم عليها، إن لم تشكّل حالةً متحرّرة ومؤثّرة، أن تبقى مجرّد مشروع آخر يتّجه لنفس النزعة الإنفصاليّة بقطيعة مع التنويريّة.
المراجع
1. الموسيقى الشرقي. كامل الخلعي. مكتبة مدبولي (2000).
2. يوسف المنيلاوي: مطرب عصر النهضة العربيّة: عصره وفنّه. فريدريك لاغرانج، محسن صوّه، مصطفى سعيد. دار الساقي (2011).
3. مقابلة مع هربرت ماركوزه. ترجمة عصام حمبوز. مجلة راديكال. العدد 31.