فريد هيرش دجاز معازف برث باي برث Fred Hersch Djazz Ma3azef Breath by Breath
أجنبي جديد

نقلة معلّم | عن اكتشافي فريد هيرش

أسامة خزام ۰٦/۰٦/۲۰۲۲

لم أكن أعلم من هو فريد هيرش حينما تعثّرت بألبومه الجديد برِث باي برِث مطلع هذا العام. يومها قلّبت بين اقتراحات سبوتيفاي الكثيرة للموسيقات المنشورة حديثًا إلى أن هبط مؤشر الماوس على هذه العمل. في الحقيقة لم يشجّعني العنوان المُستكين للضغط على زر التشغيل، لكنني ضغطت على أية حال دون آمال كبيرة في ما سينطلق من مكبر الصوت. الألبوم مؤّلف من تسع قطع آلاتيّة فقط كتبها هيرش – وهو مؤلف للبيانو والجاز – لثلاثي الجاز والرباعي الوتري.

يبدأ المؤّلَّف الأول بيجين أجاين بتواضع وخفّة بضربات أجراس عالية على البيانو، وسريعًا ما يرافقه الدرامز ويحاكي الإيقاع ذاته، ثم يبدأ الموتيف الأول. لا يزال هذا، رغم جماله، يشبه النقلات الأولى المكتوبة والمعروفة للجميع في لعبة الشطرنج، لا شيء جديد كليًّا هنا. لكن عند هذه اللحظة تبدأ النقلة من خارج المنهج، وهي مرافقة الرباعي الوتري [Mtooltip description=”ليست هذه المحاولة الأولى لتقديم الجاز مع الوتريات أو دمج آلات مختلفة مع التجميعة؛ انظر إيسبيورن تريو مثلًا. لكن التجارب عمومًا قليلة مع الرباعي الوتري.” /]. يستكمل الرباعي الموتيف الأول ثم تتبادل باقي الفرقة النقلات. لم أكن قد استمعت لعمل أُنجز بتجميعة كهذه من قبل، فرفعت الصوت وبدأتُ الإنصات بحذر، وأنا لا أدري تمامًا ما إذا كان ما أسمعه يعجبني أم لا.

يتغيّر النسق قليلًا بعد استعراض كل الأصوات، ويخمد صوت الرباعي ومعه باقي الآلات، ثم يستفرد هيرش بكتابةٍ بديعة للبيانو في المساحة الفارغة في رقعة الصوت وينقل أحجاره إلى المنتصف. تجتاح نفحات من كونترابونكت باخ البيانو بأناقة وتتداخل الأصوات وتتعقّد صعودًا وهبوطًا. نقلّة معلّم. تدريجيًا وقرب النهاية يعود الرباعي إلى المشهد بمرافقة ناعمة ثم نرجع إلى أجراس البيانو العالية، والموتيف الأول، ثم تؤول الأصوات إلى ختام مريح ومتوقّع.

لم يكتب هيرش هذه القطعة لهذه الآلات بالضبط، بل هي فعليًا إعادة توزيع من ألبوم سابق بنفس العنوان أدّاه عام ٢٠١٩ مع دبليو-دي-آر بيج باند، لكنّه حسبما قال أراده أن يكون بداية جديدة بعد سنتين في الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، لم يكن ليتجاوزهما لولا ممارسته الدائمة لتمارين التنفس.

بدأت القطعة الثانية أوايكند هارت ببطء حزائنيّ يحمله الرباعي في المقدمة بالكامل، ليباغتني إحساس موسيقى فيلمٍ صامت من العشرينيات. يتدخل البيانو ويستكمل الميلانكولي عابرًا بها إلى مساحات أكثر إشراقًا. أثناء هذا السرد القصصي، يختبر هيرش بخشوع شديد نغمات البيانو الخفيضة.

يرتكز الألبوم الجديد على ممارسة هيرش القديمة للتأمل وقربه من الروحانية البوذية تحديدًا، وهو ما يبدو في اسم الألبوم وفي أسماء المؤلّفات، مثل مانكي مايند ومارا وووردلي ويندز، التي ليست سوى مفاهيم بوذية أو عقبات على طريق الخلاص كما نصّه بوذا.

يقول هيرش أنّ هذا العمل نابع من تجربته في التأمل وليس موسيقى تأملية بالضرورة. بذلك يُغلق الباب على أن تكون موسيقاه مكوّرة، خالية من التنافر والتلوّن وتعدّد الأصوات أو تغيّرات الإيقاع، وهو الشكل الدارج للموسيقات التي ترافق مفهوم التأمل عمومًا، والتي غالبا ما تختصر الموضوع بعناصر طبيعية ذات أصوات متواصلة كحفيف أوراق الشجر أو تلاطم أمواج البحر. يظهر هذا بوضوح في مانكي مايند، في الأصوات المبعثرة والقفزات المشتّتة وعدم الاستقرار، وهنا تكمن الفكرة البوذية تمامًا وراء العنوان: عقل القرد المشتّت الذي يضلّ الطّريق.

في ووردلي ويندز – متضادّات الحياة الثمانية في البوذية أيضًا – تتدفّق أصوات الرباعي واحدًا تلو الآخر في تتابع فوجاتي بديع، ربّما عطفًا على توظيف الكونترابونكت في مواضع مختلفة في الألبوم وتوضيحًا للتأثر بالمُعلّم باخ. يعبُر التشيلّو بين الأصوات ويقدّم لنا الفكرة اللحنية الرئيسية والإيقاع المعقّد بوضوح أكبر ممهدًا الطريق لدخول مدروس للدرامز.

تظهر حذاقة هذه التجميعة من الآلات في توظيف هيرش المُحكم لفكرة بسيطة، وهي أنّ آلات الرباعيّ قادرة بطبيعتها على استخدام الكريشيندو أو الحالة التي تتصاعد فيها شدّة الصوت الواحد والفيبراتو أو ترجيف النغمة. آلات ثلاثي الجاز، إذا انحصر استخدام الكونترباص بنقر الوتر بالإصبع كما هي العادة، محكومة بانخفاض شدة الصوت فور ظهوره، وبالتالي قلة مساحة التلاعب فيه بعد انطلاقه في الفضاء. نسمع هذا التوظيف في الأدوار الشبيهة بالسولو في ووردلي ويندز، حينما تُفرد مساحة شاسعة للرباعي ليظهر الألوان المختلفة التي يقدر على إنتاجها، وبذلك يضمن تنوعًا شديدًا في طبيعة الألحان والجمل.

نشر فريد هيرش في يوم الجمعة ٦ أيار / مايو قطعة إضافية للألبوم، فضغطت على زر التشغيل دونما تردّد هذه المرّة. في القطعة الجديدة يعيد هيرش توزيع الموتيف الرئيس في ذيس إز أولويز الشهيرة، ليقدم للألبوم استطرادًا للقطعة الأخيرة باستورالِ المُهداة إلى روبرت شومان. يشبه التوزيع الجديد النوكتورن، ويبقى ضمن أو حتى أدنى من حدود المغامرة التي أسّس لها في القطع التسع الأولى، ولا تتعدى مشاركةُ الرباعي فيه المرافقةَ المتواضعة في القسم الأخير فقط.

أذكر أنّني بعد الاستماع الأوّل للألبوم تساءلت “من هذا الرجل؟”، ثم قرأت عنه قليلًا: “فريد هيرش أكبر عمرًا من أن يكون الصرعة الجديدة، وأصغر عمرًا قليلًا من أن ينضم إلى الأساتذة العِظام.” ربما يكون هذا صحيحًا، فقد تبيّن أثناء البحث والتنقّل أنني قد استمعت لأعمال قليلة له من قبل، دون أن أحتفظ باسمه في الذاكرة ولا مرة. اختلف هذا كثيرًا الآن، فالمؤكّد أنّني اكتشفت بسبب هذا الحدث العشوائي تحفة، ومؤلفًا وعازفًا مخضرمًا. ربما لن يصبح صرعةً جديدةً أبدًا، لكنّه – إذا كان شرط العمر لازمًا – سيكون أستاذًا عظيمًا.


صورة الغلاف لـ برايان ماكميلِن.

المزيـــد علــى معـــازف