فكحت شمال | أغان مصرية انحرفت عن مسارها

كتابةمينا ناجي - November 1, 2016

أنا كريم ابن الجيران | ١٩٢١

يعتبر لحن أنا المصري الذي ظهر في مسرحية شهرزاد عام ١٩٢١، من تلحين الشيخ سيد وكلمات بيرم التونسي، معكوس لحن الحشاشين. فحين كانت الحشاشين تتجه من الفردية الانحطاطية إلى الجماعية الوطنية، سارت أنا المصري في الاتجاه المعاكس.

أنا المصري كريم العنصرين
بنيت المجد بين الإهرمين

في البداية لم تكن تسترعي تلك الأغنية اهتمامي بنهجها الحماسي الوطني ملحمي الطابع وأدائها النشيدي، لكن أثناء قراءتي لسيرة عبد الوهاب الذاتيّة التي نُشرت في دار الهلال عام ١٩٩١، وجدّته يصف اللحن من مقام عجم عشيران بـ “الخارق” و”المصادفة الخارقة” التي سبّبت له صدمة نفسيّة دفعته لتصرف عجيب، ويقول: “جلست أستمع إلى ذلك اللحن ذاهلاً عن كل ما حولي، كأن فيه سراً يصل ما بينه وبين إحساسي بشىء يسلب إرادتي، وما أن انتهى اللحن حتى رأيت نفسي أعدو بكل ما أملك من قوة، وظللت أعدو حتى وصلت [من وسط البلد] إلى ميدان باب الحديد، ثم جلست على أحد الأرصفة التقط أنفاسي وأمعن الفكر في السبب الذي دفعني إلى هذا التصرف الغريب!”. جلعني هذا أرجع لسماعها مرّة أخرى، فوجدت شيئاً عجيباً مثل تصرف عبد الوهاب الصبي.

إذا غضضنا النظر عن مشكلة “العنصرين”، هل هما العنصر الإسلامي والمسيحي (كان هناك يهود في مصر تلك الأثناء!) أو العنصر الفرعوني والإسلامي (وهما مادتا الخناقة الهوياتيّة في النصف الأول من القرن العشرين والتي انتهت بتغلّب العنصر العروبي في حقبة ما بعد الاستقلال)، وإذا تناسينا “الإهرمين” المقصود بهما أهرامات الجيزة الثلاثة، وتجاوزنا أيضاً المبالغة غير المنطقيّة في “يفنى الكون وهما موجودين”، نجد أن غرابة الأغنية لها موطن آخر.

الأغنية الوطنية التي كُتبت بالفصحى المفخمة، تنتقل لغوياً بتدرج وسرعة في شطر “يفنى الكون” وهى جملة فصيحة وعامية في آن، لتكمل الانشطار في “وهما موجودين”. إضافة الألف فيها انتقال خفيف إلى العامية الصريحة، قبل أن تنتقل الأغنية إلى شىء آخر تماماً (لحنياً أيضاً)؛ تتحول الأغنية إلى أغنية عاطفية، والشخص المتفاخر بنسبه ووطنه يتحول إلى محب ذليل مكسور يقول لمحبوبته “وأقولِك ع اللي خلاني أفوت أهلي وأوطاني”. حين سمعتها ظننت أني قد سمعت خطأ “أوطاني” مكان “خلّاني”، فتلك الكلمة تضد وتدمر كل ما قد قيل، وتلغي المستوى الوطني لحساب المستوى العاطفي الفردي. يختم المغني بتوكيد على ما قد قاله تواً بجملة ” حبيب أوهبت له روحي لغيره لا أميل تاني” أي أنه لا يوجد حتى مساحة لحب الوطن في قلبه المخصص بالكامل لمحبوبه.

آه يا حليوه يا كداب | ١٩١٠

هناك نسخ عديدة من الدور الشهير يا حليوة يا مسليني من تلحين الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب، منها النسخ الينبعاوية والحلبيّة. في نسخة عبد الحي أفندي حلمي، وهي في الأغلب تطابق النسخة الأصليّة، يبدأ الدور بالغناء بالغزل والأشواق:

يا حليوة يا مسيلني / يا بدر حبك كاويني

إملا المدام يا جميل واسقيني / يا كتر شوقي عليك يا سلام

ويصله بكلام، بعد عبارات وصفيّة غزلية وكلام عشقي من نوع “حبك من الله ماهو بإيدي”، ينمّ عن الحب والود والهيام:

الحلو يا رب خليه / وأحفظ محاسن جماله

وطوله العمر تديه / وأجعل نصيبي في وصاله

ويبدو أنه حين كان ينتهى من الدعاء بالحفاظ على الحلو، كان الحلو يُهىء ويمُىء مع أحد الحاضرين، فانقلب يهاجمه بشدّة مفاجئة:

أنا بحسب أنك ع الوداد / وعلى اليمين اللي حلفته!

تلوف لغيري؟ آه يا كداب!! يا كدااااب!! يا كدااااب!! .. بعيني أنا شفتك وشفته!

لينتهي الدور نهاية غير متوقعة على الإطلاق.

الحشاشين الفايقين | ١٩١٩

ظهرت أغنية التحفجية – أو الحشاشين – في مسرحية رن عام ١٩١٩. الأغنية من كلمات بديع خيري وتلحين الشيخ سيد درويش، وهي تمجد الغرق في الانبساط والكيف، وثقافة وأسلوب ابن البلد، الأمر الذي يظهر بوضوح في الكلمات واللحن والأداء السوقي الخشن الساخر. تبدأ الطقطوقة:

ياما شاء الله عـ التحفجية / أهل اللطافة والمفهومية

اجعلها ليلة مملكة ياكريم / دا الكيف مزاجه إذا تسلطن

أخوك ساعتها يحن شو شو شوقا / إلى حشيش بيتي نيتي نيشي

اسأل مجرب زي حالاتي!

وينطلق بالسخرية من أشياء عديدة تشمل حتى النصوص الدينية “صدق وآمن بالذي خلقها وقال كوني جوزة لكل من يدوقها”، والحكومة “بس الأكادة حبس وظلومة يكفينا شرك يادي الحكو حكو حكومة” وحتى من الذات “ساعة مانسمع زنة نموسة / تبص تلقى كل الشخصه اكسبرسات راحم طايرين ها ها هأ يامرحب”، ويبدو أن الشيخ سيد، مستعيناً ببديع خيري، كان يداعب الشهامة أو المروءة في ابن البلد لغرض ما سيأتي لاحقاً “أول ماتنده وتقول ياقرقر أجيك مش مشمر من غير تأخر هو ابن مصر حيخاف من مين؟” و “ورينا أجدع بيه ولا باشا / يقدر يعايب على الحشاشا” ليصل في نهاية الأمر، بطريقة غير متوقعة، من “مايسلا أنفاسها بملايين” إلى العكس تماماً، في انحراف حاد لمسار الأغنية، وبتغيير لحني مفاجئ أيضاً، حماسي له إيقاع يقترب من المارش العسكري:

أقول لك الحق يوم مانلقى بلادنا طبت فى أى زنقة

يحرم علينا شربك ياجوزة / روحي وانت طالقة مالكيشي عوزة

دي مصر عايزه جماعة فايقين يا مرحب!

أما براوة وصحيت من النوم | ١٩٧١

كلمات هذه الأغنية التي كتبها مرسي جميل عزيز ولحنها محمد الموجي وغنتها نجاة الصغيرة، والتي ظهرت في فيلم ابنتي العزيزة، بالفعل غريبة. تبدأ الأغنية الرومانسية بكلمات غزلية رقيقة عاطفية بها نبرة لعوب:

أما براوة براوة أما براوة / دوار حبيبي طراوة آخر طراوة

قُلة آنية فخارية تستخدم لحفظ الماء حبيبي ملانة وعطشانة يانا / اروح له ولا أروح اشرب حدانا

أروح له ولا أروح وبلاش شقاوة / أما براوة براوة أما باروة لفظ عامي مصري بستخدم لإبداء الاستحسان، يعتقد أن أصله كلمة Bravo على الشقاوة

في منتصف الأغنية تقريباً، فجأة، تأخذ الأغنية منعطفاً مازوخياً صادماً:

يا ناس لموني لموني ما ترحموني / أحب لوم العوازل لما يلموني

بتغيير مقامي مصاحب إلى مقام الصبا، يحاول الكورس النسائي تجاهل ما حدث والرجوع إلى المناغشة والفرفشة، لكنها تأبى أن تتركهم أو تترك الأغنية في حالها وتدخل في سوداوية قاتمة:

بحلم وأغني لحبيبي وفين حبيبي؟! ماليش حبايب يا عيني أنا ونصيبي

يمكن زماني يصالحني بعد العداوة / وأقول يا ليلي ياعيني أما براوة

مما يعني أن كل الأغنية والدلع والمناغشة هو من خيالها المحض، لا وجود لدوّار أو قُلة أو شقاوة أو أي شىء، بل مجرد حلم يقظة فاقت منه على واقعها الأسود، فيأتي الكورس بالقرار هذه المرة ليكون له طعم السخرية الهزلية السوداء بعد أن كان في بداية الأغنية صدى الأنوثة والصبا المداعب والشقي.

مش ممكن، ومفيش مستحيل | ٢٠١٣

ظهرت هذه الأغنية في إطار حملة قامت بها بيبسي مزجت فيها أصنافاً موسيقية بعيدة عن بعضها (في هذه الحالة الغناء الشعبي والهاوس-بوب). على عكس الأغاني التي تم ذكرها حتى الآن، يبدأ الانحراف مبكراً في هذه الأغنية التي كتب كلماتها أمير طعيمة ولحنها حسن الشافعي. من خلال مقابلة غناء المطرب الشعبي المصري عبد الباسط حمودة ومغنية البوب اللبنانيّة نيكول سابا، يحدث هناك تنافر ليس فقط على المستوى الشكلي، بل تنافر عالمين كاملين رؤية وتعبيراً. تبدأ الأغنية بغناء عبد الباسط موالاً شعبياً جميلاً يقول فيه:

أنا طير جريح وضعيف والدنيا ريح عاتي

أنا شايل هموم الكون فوق دراعاتي

وفضلت من طيبتي آه أنا بضحك على خيبتي

وبداري بالضحكة هيهيه حزني ودمعاتي

أنا طير جريح وضعيف والدنيا ريح عاتي

تأتي نيكول سابا بصوت معالجاً، تغني ليس فقط كلاماً مغايراً بل في تضاد تام مع ما قاله حموده:

قولتله دا اللي فات / راح ومات / بص يوم قدام

طول ما فينا روح / بالطموح / نوصل للأحلام

آمن بحلمك / طريقك طويل / هتحلم هاتوصل / مافيش مستحيل

هدف الأغنية في إقامة حوار بين طرفين يريان الدنيا بشكل مختلف أدى إلى أن يكشف الحوار عن ضعف وتهافت كلا المنطقين المتنافرين. يصمّم حموده على موقفه ويشرح أسبابه:

نصيبى من الدنيا عذاب وجهل وقهر

والعمر مش مستنى وبيمشى زى القطر

عايشها بالأجره واستنى ليه بُكره

أنا ماشى فى الدنيا على سطر وبسيب سطر

تنهى سابا الحوار بقولها في تأسّف عليه “بالنسباله مافيش بكره” وتؤكد على حكمتها “مافيش مستحيل”.

تنطلق الحملة من فكرة التعددية المجتمعية الليبراليّة القائمة على تحاور وتعاون عناصر المجتمع المختلفة وإثبات أن ليس هناك تنافر أو عداء بين فئاته. حين قام الحوار بين عالم الفئات الفقيرة المهمشة، ممثلة في صوت عبد الباسط حموده، وعالم الفئات المحظوظة أو القادرة ممثلة بنيكول سابا، أظهر تجاورهما مبالغة النظرة السوداوية للأول، والتفاؤل الساذج للثانية. بدلاً من استنتاج منطقي يجمع النظرتين معاً، انتهى الحوار بثبات الأول على موقفه وتأسف، ورفض، الثاني له “بالنسباله مافيش بكره”.

عالم الأغنية الشعبية المصريّة الذي يقدس الحزن والأسى، وكلما كان فيه صوت المغني حزيناً مجروحاً، كان نجاحه أسرع، يأخذ الشكوى من الزمن وغدر الأصحاب وقسوة الدنيا كآلية تكيفيّة ودفاعية، بل ونفعية في التعامل مع الإنحياز المادي والظرفي ضدّه. في المقابل، تسيطر على عالم بوب الطبقة المحظوظة المرفهة، التي تؤمن بمفهومي التنمية الببشرية والتفكير الإيجابي، وأن النجاح يعتمد على المجهود الذاتي فقط، بغض النظر عن الشروط والإنحيازات المادية والروحية الموجودة التي يقع فيها الفرد: “هاتحلم هاتوصل”. لا يفهم الطرفان بعضهما ولا يدركان الخطأ اللذان يقعان فيه، فيبقيا في مسارات تبتعد بحدة عن بعضها منذ البداية حتى النهاية.