.
تحدثنا في المقال السابق، كلمة من الله، عما أطلقنا عليه اللاهوت الموسيقيّ. قلنا إنه خاصّ تقريبًا بالديانة الهندوسية؛ فهي الديانة الوحيدة فيما نعرف التي قدّستْ الموسيقى بما هي موسيقى، وليست بما هي موافقة لتعاليم الدين. كما تتبعنا باختصار مساحة الانتشار الجغرافي لفكرة قداسة الموسيقى، ولاحظنا، كما لاحظَ باحثون غربيون معتمَدون مثل فردريك داني، أن لهذه الفكرة أثرًا واضحًا في الديانات الإبراهيمية عمومًا: صوت الله في اليهودية، وتجسد الصوت-الكلمة في المسيحية، والخلق بالكلمة وتجسدها والحروف المقطّعة في الإسلام. تؤدي هذه الملاحظة الأخيرة منطقيًا إلى ملاحظة أخرى أكثر أهمية: أنَّ الإسلام بالذات، بين الديانات الإبراهيمية الثلاث الكبرى، هو الذي جمعَ تجليات الصوت في العالم المذكورة قَبله في اليهودية والمسيحية. فهو يقر بكلام الله لموسى، وهو يقول بتجسد الكلمة في المسيح، وكذلك بالخلق بكلمة كُنْ، ويفتتح تسعًا وعشرين سورة مهمة من سوره بحروف مقطّعة. كما رأى الزمخشري في تفسيره أن الحروف المقطعة؛ لأنها ليست كلمات، لا معنى لها، وإنما هي تغطية لكل مستويات مخارج الصوت في اللغة العربية الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي، الكشاف عن غوامض حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، مكتبة العبيكان، المملكة العربية السعودية، ط١، ١٩٩٨: ١/١٢٨-١٤١.. هذا أقرب لفكرة الصوت من فكرة الكلام؛ فالكلام لا يتم إلا بألفاظ وتراكيب.
من الطبيعي أن نتساءل بعد هذه الملاحظة عن فلسفة المسلمين للصوت وللموسيقى؛ إذا كانوا قد وقفوا على كتاب، هو القرآن، يشمل فلسفة الصوت فيما قبله من السلك الإبراهيمي. أيضًا، من الإجحاف، بل بالأحرى عدم الدقة، حصر تصور المسلمين عن الموسيقى في الجانب الفقهي، حلال أم حرام؟ وبأية شروط؟ لقد حرمها البعض، وحللها البعض، ووضع لها شروطًا لتكون حلالًا، في كل الديانات والأيديولوجيات. يمكن الرجوع في ذلك إلى مقالة الموسيقى بين التدجين والتوثين. بالتالي، لم يكن موقف المسلمين من الموسيقى من الزوايا التشريعية مميزًا أو فارقًا. بالأحرى ربما كانت الناحية الفارقة هي فلسفتهم للموسيقى؛ معناها، وتصورهم عن دورها النفسي والاجتماعي، وموقعها في تصنيف العلوم، وغير ذلك من مسائل فلسفة الموسيقى.
إذا وقفنا على ملامح نظريةٍ محددة في كل هذا، فقد يمكن القول حينئذٍ إن للعرب فلسفةً فعلًا في الموسيقى، وليس مجرد العنوان البرّاق، الذي وضعه ميخائيل خليل ميخائيل الله وِيرْدِي: فلسفة الموسيقى الشرقية – في أسرار الفن العربي، وِيرْدِي، ميخائيل خليل الله: فلسفة الموسيقى الشرقية- في أسرار الفن العربي، دار ابن زيدون، دمشق، ١٩٤٩. والذي لم يتجاوز معناه موضع العنوان؛ فهو كتاب في نظرية الموسيقى، والنقد الموسيقيّ، وليس في فلسفة الموسيقى كما هو واضح من متنه كنا قد أفردنا لهذا الكتاب فقرة في مقالة: حروب الخنادق | أيديولوجيات تجديد الموسيقى العربية..
في الواقع، إذا أردنا البحث عن فلسفة للعرب في الموسيقى، علينا أن نلجأ للفلسفة العربية، والتي يفضل الباحثون عادةً شرقًا وغربًا أن يطلقوا عليها الفلسفة الإسلامية؛ فهي فلسفة، وربما أمكن لنا بعد مسح مؤلَّفات فلاسفة الإسلام الكبار في الموسيقى، العثورُ على نظرية معينة فيها. للأسف، لم نعرف كتابًا أو بحثًا أو مقالًا جامعًا لهذه الفلسفة، فلسفة المسلمين للموسيقى، فيما اطلعنا عليه بالعربية أو اللغات الأوروبية؛ ما يثير التساؤل: لماذا لم يجرِ استخلاص هذه النظرية حتى الآن، إذا كان هذا بالإمكان فعلًا؟ ربما كان من الأسباب أن أصحاب الشأن، والأعلم باللغة، أيْ العرب، لم يهتمّوا بهذا الاستخلاص في العصر الحديث؛ فقد انتهى التنظير للعالَم، أي وضْع النظريات في الوجود والمعرفة والقيمة، لصالح التنظير للمجتمع: مواجهة قضايا التخلف والاستعمار والاستبداد عن طريق الفكر. لهذا لم يهتم المفكرون العرب المعاصرون باستبيان نظريات، ولا بوضع نظريات، بل بنقد ما يحتاجون لنقده من الفكر الإسلامي التراثي؛ وما تطلب نقده لديهم هو ما له أثر قوي ممتد في الحاضر، بالذات من الناحيتين الدينية والسياسية.
هناك دراسات عربية وغربية سنتعرض لها في متن المقالة، لكنها دراسات جزئية، ولا تحاول استجلاء نظرية ممتدة عبر أعمال فلاسفة الإسلام. هذا رغم قوة أثر عامل الإبداع الفني في أي حضارة. إن هذا الابتسار واضح في الفكر العربي المعاصر في القرنين الميلاديين الأخيرين: تلخيص الحضارة الإسلامية في بعديها الديني والسياسي، رغم أنها لم تتلخص بالتأكيد، كأي حضارة، في هذين الجانبين، وإنما شملت كذلك العلم الطبيعي بكل فروعه في عصرها، والعلوم الاجتماعية والإنسانية، والفن والنقد الفني، وغيرها من الجوانب. ربما تعددت الأسباب كذلك إلى أن الباحثين الغربيين لم يهتموا بدورهم باستخلاص نظرية من سياق حضاري مختلف؛ فالأيسر أن يُنتجوا الأبحاثَ الجزئية، التي ستحظى بفرص أكبر للنشر، والتي هي أسهل في الإنتاج، بدلًا من الدراسات المَسْحيّة.
يختلف الهمّ الحضاري؛ همّ الغرب أن يعرف وأن يَفهم ما أنتجه الآخرون – مع افتراض حسن النوايا – وهمّ العرب أن يعرفوا وأن يفهموا أن حضارتهم لم تقم فحسب على الفتوحات العسكرية، وإنما قامت كأي حضارة على أعمدة الحضارة الإنسانية الأربعة: العلم، والدين، والفلسفة، والفن، بمختلف فروع تلك المجالات المتاحة في عصرها. كما لا يمكن بالبداهة أن تقوم حضارة على أساس عسكري محض، ومثال ذلك فتوحات المغول؛ فقد أسسوا أكبر إمبراطورية ممتدة في التاريخ، لا يقطعها بحر أو محيط، فلم تلبث إلا أن انهارت بسرعة تناهز سرعة تأسيسها، ولم تترك أثرًا عميقًا على البشرية. ذلك أنها قامت على الفتح والغزو، ولم تثمر علومًا أو فلسفاتٍ أو فنونًا.
في المقابل، لم تقم في بلاد الإغريق إمبراطورية قبل الإسكندر الأكبر (٣٥٦-٣٢٣ ق. م)، بل لم تكن اليونان موحدة قبل والده فيليب الثاني المقدوني أصلًا، ومع ذلك فقد غَرست بصمةً عميقة على ملامح الإنسان بما تركته من فلسفة وشعر ومسرح وملاحم بين القرنين السابع والرابع قبل الميلاد. لا يمكن ألا نجد آثارًا مناهزة لذلك في العمق والقوة للحضارة العربية على التاريخ الإنساني اللاحق بأسره، إذا ما تحلينا بنظرة موضوعية محايدة، وبالتالي لا يمكن أن نستبعد جانب الفن، وفلسفة الفن، حين ننظر إلى هذه الحضارة، وإلا لانهارت كدولة المغول وما أمكن لها أن تعيد تشكيل ملامح الإنسان.
حين نطالع تاريخ الفلسفة الإغريقية نجد أنفسنا إزاء ما يعرَف بالمثلث الأثيني، فلاسفة أثينا الثلاثة الكبار، سقراط وأفلاطون وأرسطو، والذين بحثنا قدرًا من فلسفتهم للموسيقى في مقالينا التدجين والتوثين وكلمة من الله سابقَي الذكر. كذلك حين ننظر في الفلسفة الإسلامية نجد مثلثًا مقابلًا من ثلاثة فلاسفة كبار: الكندي المؤسِّس، والفارابي المعلم الثاني، وابن سينا الشيخ الرئيس. أيضًا، من الآراء المتفق عليها شرقًا وغربًا أن يعقوب بن إسحق الكندي (ت ٢٥٦ هـ) هو أول فيلسوف عربي ومسلم، وأنه صاحب عملية التأصيل. كان دور الكندي منقسمًا بين تأصيل الفلسفة في حضارة الإسلام من جهة، وإبداعاته الفلسفية الخالصة من جهة أخرى.
بلغة أكثر معاصرة يمكن القول إن الكندي قد وزّع جهدَه بين الدور الثقافي، والدور الإبداعي الفلسفي الخالص. ينحصر الدور الثقافي، أو التأصيلي، في تقديم الفلسفة كمجال علمي جديد على المسلمين، وبيان أنه لا يتعارض مع الديانة، أيًا كانت، وإظهار فائدته لمزيد من التفصيل يمكن الرجوع إلى: كريم الصياد: ’قراءة في رسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى’، مجلة تعايش، العدد ٩، أبو ظبي، سبتمبر ٢٠٢٠، ص: ٩٧-١٠١.. بدأت الفلسفة الإسلامية بالمعنى الدقيق، أي بما هي مشتملة على أنساق متكاملة في الوجود والمعرفة والقيمة، بداية صعبة نوعًا؛ فهي مجال معرفي جديد على المسلمين والعرب في ذلك الوقت، النصف الأول من القرن الثالث الهجري، جاءت به حركة الترجمة بالأساس، ثم نضجت وتطورت على أيدي أوائل الفلاسفة المسلمين، لتزاحم مجالات معرفية أخرى موجودة وقارّة، كعلم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، والتفسير الروائي المبكر، وعلوم اللغة والأدب. كانت الحاجة ماسّة لتثبت الفلسفة أقدامها في دائرة العلوم العربية، وتجتاز الصعوبات الأساسية في تلقيها، وتبرهن على أهميتها، منهجًا ونظريةً.
كان من الطبيعي أن يتساءل الجمهور، والسلطة، عن أهمية الفلسفة، وما الحاجة إليها والهدف منها، وما الذي تضيفه إلى معرفتنا، وهل وجودها في حد ذاته مشروع، وهي التي تطرح أسئلة فيما يتعلق بالإلهيات والأخلاق ومناهج المعرفة. باختصار، كانت أولى مهام الفلسفة الإسلامية هي بناء وسط ثقافي متسامح فكريًا مع الجديد والأجنبي والمختلِف، والتمهيد لهذا المجال المعرفي.
ترجع صعوبة تلقي الفلسفة في بداياتها الأولى عند المسلمين إلى ثلاثة حواجز أساسية: حاجز تاريخي، وحاجز جغرافي، وحاجز معرفي. الحاجز التاريخي هو كونها مجالًا معرفيًا جديدًا كما تقدم؛ فلم تكن معروفة ومنتشرة، ولم يكن اسمها نفسه، فلسفة، متداولًا حتى بين النخب الثقافية في ذلك الوقت. كل جديد مجهول، والناس أعداء ما جهلوا. والحاجز الجغرافي هو كونها علومًا رومية، أو غربية كما نقول بتعبير اليوم، وهو الحاجز نفسه الذي نتعرض له مثلًا اليوم في مسألة حقوق الإنسان، حين يرفضها البعض باعتبارها غربية المنشأ والتطور والبنية والأهداف. أما الحاجز المعرفي فهو طرحها لأسئلة عن أمور مستقرة في الوعي المسلم الجمعي، كطبيعة الربوبية، والأدلة عليها، وطبيعة العلاقة بين الإله والعالم، والهدف من الخلق، ومسألة البعث والنشور، فضلًا عن طبيعة الخير والشر، والقيم بصفة عامة. يضاف إلى الحاجز المعرفي ما طرحته الفلسفة الإسلامية في الجانب العملي منها عن التصور المثالي لنظام الحكم والحاكم، والمدينة الفاضلة، وهو ما يعني تضاربها مع المصالح السياسية للخلفاء والأمراء والنخب المسيطرة. نجح الكندي في هذه المَهمة الشاقة؛ بدليل نشأة الفلسفة الإسلامية على يديه، واستمرارها لقرون من بَعده.
لا يعرف الكثيرون من العرب أن أبا يوسف يعقوب بن إسحق الكندي هو أولَ من أدخل لفظة موسيقَى إلى العربية تعريبًا للفظة الإغريقية μουσική، التي تشير إلى فن المُوسات Saoud, Rabah, (2004), The Arab Contribution to Music of the Western World, Lamaan Ball, FSTC Limited., p. 3.. والموسات هن ربّات الإلهام الفني التِّسْع عند الإغريق Jameson, John H. Jr., John E. Ehrenhard and Christine A. Finn (editors), Ancient Muses: Archaeology and the Arts, vol. 1, The University of Alabama Press, 2003. pp. 1-3.. هذا عن مصدر الكلمة، فماذا عن معناها الاصطلاحي؟ كان معنى لفظة موسيقى في الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي مختلفًا كثيرًا عن معناها اليوم؛ فهي تعني اليوم صنفًا من الفن، يندرج تحت ما يطلِق عليه أساتذة الموسيقى الفن الموزون، أي الذي يتعلق بالزمن، كالشعر وفنون الحركة، كعنصر أول، ويتعلق بالصوت كعنصر ثانٍ وأخير قارن: سليم الحلو: الموسيقى النظرية، دار مكتبة الحياة، بيروت، ط٢، ١٩٧٢، ص ١٢-١٣.. باختصار هي الفن المبني على الاستفادة من الأصوات الموقَّعة زمنيًا. لكن اللفظ كان يعني عند المسلمين في عصرهم الذهبي عِلم الموسيقى، لا فنها. أما ما كان يعني معنى الموسيقى كفن، ما نعرفه اليوم عنها بما هي فن، فكان لفظ الغِناء. لهذا علّة؛ وهو عودٌ على بدء على أية حال؛ فإن الكلمة لم تنفصل عن النغمة إلا مع تأسيس الأشكال الموسيقية الكلاسيكية في أوروبا بدءًا من القرن الخامس عشر، ثم نضجها في القرن السابع عشر.
من المعلوم كذلك أن الموسيقى، بمعنى علم الموسيقى، كانت أحد العلوم الرياضية الأربعة في العصور الوسطى عند المسلمين والمسيحيين فيما عرف في اللاتينية بالحكمة الرباعية Quadrivium: الأرثماطيقى (الحساب)، والجيومطريقا (الهندسة وهي لفظة فارسية أصلًا وكانت تكتب “هَنْدَزِه”)، والموسيقى (علم التأليف)، وأخيرًا الأسطرونوميا أو الفلك (علم الهيئة). هذا التقسيم مأخوذ على أي حال عن الإغريق زكريا يوسف: موسيقى الكندي، مطبعة شفيق، بغداد، ١٩٦٢، ص ٥..
لم تتحول الموسيقى الغربية إلى موسيقى كلاسيكية إلا بعد أن استقلت عن الموسيقى العربية بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر، أي في خضم عصر النهضة؛ ولا تمتد أحدث التأثيرات من جهة الموسيقى العربية على الموسيقى الغربية أبعد من القرن السابع عشر هونكه، زجريد: شمس العرب تسطع على الغرب ’أثر الحضارة العربية في أوروبة’، ترجمة فاروق بيضون، وكمال الدسوقي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط٨، ١٩٩٣، ص ٤٩٣-٤٩٤.. قبل ذلك العصر كانت الموسيقى الغربية متأثرة بالأشكال الموسيقية والشعرية لدى العرب من خلال قناة الاتصال القوية، الأندلس. وصل حد التأثير الموسيقي العربيّ إلى درجة أن المؤرخ الموسيقي والمستشرق المهم هنري جورج فارمر (ت ١٩٦٥) اعتقدَ أن البيانو ما هو إلا تطوير معقد لآلة القانون، التي اخترعها الفارابي، وأسماها بالقانون اعتقادًا في رؤية فيثاغورية قديمة، ترى السماءَ عددًا ونغمًا، أيْ قانون الوجود Sachs, Curt, The History of Musical Instruments, (written originally in English), W. W. Norton & Company, New York, 1986, p. 337. See also pp. 462-463..
يقول عبد الرحمن بدوي: “حينما يسمع الإنسان الموسيقى الإسبانية الأصيلة، والغناء الإسباني الأندلسي المعروف باسم الفلامنكو يشعر في الحال بأن هناك علاقة وثيقة جدًا بين كليهما وبين الموسيقى والغناء الغربيين؟” بدوي، عبد الرحمن: دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي، دار القلم، بيروت، ط٣، ١٩٧٩، ص ٤٣. يكشف كل ما سبق، بأقلام المستشرقين، والعرب من تلامذة المستشرقين كعبد الرحمن بدوي، عن عمق البصمة الحضارية التي أودعها فلاسفة الإسلام في الموسيقى، وفي الفكر الموسيقيّ الغربي، بدءًا من الكندي.
ذكرنا فيما سبق أن المصطلح، الذي كان يستعمله العرب القدماء للدلالة على فن الموسيقى كما نعرفه اليوم هو الغناء. كما قلنا في مقال سابق الذكر أيضًا، هو كلمة من الله، إن الهندوس يعتقدون أن الغناء أقرب إلى فصاحة التعبير عن صوت الآلهة من موسيقى الآلات، وإنهم اعتبروا الصوت البشري الآلة الموسيقية الكاملة، ولذلك حصرت الموسيقى الهندية نفسَها في ثلاثة أوكتافات، هي مساحة الصوت البشري، وللسبب نفسه اهتموا باللحن أكثر من الهارموني Paramhansa Yoganada, Autobiography of a Yogi, Yogoda Satsanga Society of India, 1946, pp. 206-207.. يمكن بسهولة نسبية تعميم هذه الخواص للموسيقى الهندية على الموسيقى الشرقية عمومًا؛ فالموسيقى الشرقية في أغلبها مونوفونية، أي لا تعتمد على تعدد الأصوات، وهي مقرونة بالشعر في الأغلب في شكل الغناء. ربما كان الفارق الأعمّ بين فلسفة الموسيقى الهندية من جهة، والعربية من جهة أخرى، هو أن فلسفة الموسيقى العربية كانت فلسفة عقلية، أو فلنقل إنسانية، أي لا تتمتع بأصل مقدس، لهذا لا يمكن القول بلاهوت موسيقيّ عند المسلمين، لكن يمكن القول بحضور فلسفة للموسيقى لديهم.
وصل الأمر في العلاقة بين الكلمة والنغمة في الموسيقى العربية إلى قول الكندي بوجود علاقة أكيدة بين ترتيب النغمات السبع للسلم، وبين تركيب الحلق البشري تشريحيًا الكندي: رسالة الكندي في اللحون والنغم، تحقيق زكريا يوسف، مطبعة شفيق، بغداد، ١٩٦٥، ص ٢٢-٢٣.. يعني الكندي أنَّ الاقتصار على تلك النغمات السبع باعتبارها النغمات الأساسية للسلم يرجع إلى قدرات إصدار الصوت عند الإنسان، لا إمكانيات السمع؛ وهي مسألة خلافية قديمة. بينما ذهبت مدرسة فيثاغورس (آل فيثاغورس بتعبير الفلاسفة المسلمين) إلى استنباط أبعاد المقام من النسب الرياضية، وذهبت المدرسة المنافسة لها، مدرسة أرسطوكْسينوس (ولد عام ٣٣٥ ق. م)، إلى الاعتماد المباشر على التجريب لاختبار قدرة الأذن على التمييز بين النغمات، من حيث إن النغمة التالية في السلم يجب أن تكون مميزة عن سابقتها بوضوح يكفي لاعتبارها نغمة مستقلة Ricardo Martinelli, Philosophy of Music- A History, translated by Sarah De Sanctis,Segretariato Europeo per le Pubblicazioni Scientifiche, Bologne, Italy, 2012, p. 20.، فإننا نجد الكندي يعتمد على معيار قدرة الحلق البشري على إصدار هذه النغمات. يمكن تلخيص ذلك بأنه بينما اعتمد فيثاغورس على العقل، اعتمد أرسطوكسينوس على الأذن، واعتمد الكندي على الحلق. على أية حال سوف يرى المدقق تقاربًا بين أرسطوكسينوس والكندي؛ فكل منهما يلجأ إلى التجريب والارتكان إلى الملاحظة الحسية، وذلك في مقابل آل فيثاغورس، الذين اعتمدوا أكثر من اللازم على الرياضيات. قد تؤدي الرياضيات إلى فرضيات قادرة على التفسير، لكن حسم الأمر فيها لا يمكن إلا من خلال التجريب.
ربما لا يمكن فهم تلك العلاقة التي رسمها الكندي بين السلم الموسيقي، وبين الحلق البشري، فهمًا شاملًا إلا في سياق أعمّ، هو سياق المُشاكَلات، وهي ترجمة قديمة ودقيقة لمصطلح مُشابَهة. تعني المشاكلة، أو المشابهة، استنباط علاقة بين متشابهَين أو أكثر اعتمادًا على هذا التشابه. أسرف الكندي في تلك المشاكلات إلى حد لافت للنظر، وهو ما سنتعرض له بتفصيل أكبر لاحقًا. لكن عند هذه النقطة لا بد من أن نوضح أن منهج المشاكلة بطبيعته غير دقيق، ولا يصلح للبرهنة على وجود مثل تلك العلاقة التي يفترضها. لذلك هو منهج أقرب إلى إبداع فرضيات، لا البرهنة عليها، ولا اختبارها. على أية حال فإذا كان الكندي أكثر ميلًا إلى الإبداع، ربما دون تحري الدقة أحيانًا، فإن ابن سينا قد تمتع بعقلية نقدية أكثر حدة ووضوحًا؛ فنقد المدرسة الفيثاغورية قائلًا: “يجب الآن أن نتأمل بالاستقصاء، وننظر أي الاتفاقات ينبغي أن يكون على حكم القسم الأول (ويعني اتفاق النغمات إلى درجة عدم قدرتنا على التمييز بينها). إلى أن نشهد التجربة.” ابن سينا: جوامع علم الموسيقى (الفن الثالث من الرياضيات من موسوعة الشفاء)، تحقيق زكريا يوسف، المطبعة الأميرية بالقاهرة، ١٩٥٦، ص ١٦. ونراه هنا يترك الفصل في الأمر إلى التجريب.
برغم ما سبق، تبرهن الممارسة الموسيقية بذاتها على قوة العلاقة عند العرب بين النغم، والكَلِم. ربما كان من أهم أسباب ذلك أن الموسيقى، مهما بلغت في تعقيد صنعتها، وبلاغة مؤلفها، غير قادرة على نقل أفكار واضحة. إن للموسيقى القدرة على التأثير على المشاعر، وهو ما يبدو لنا بالذات حين نستمع إلى مقطوعة موسيقية لم نسمعها من قبل، أو لم نسمعها بتركيز كافٍ. المشكلة فيما سمعناه من قبل مرارًا أننا نقوم لا شعوريًا بإسقاط مشاعرنا عليه حين سمعناه في المرات الأولى، أو حين نقرأ عنه ونعرف أنه يعبر عن كذا وكذا. فحين نستمع مثلًا إلى الحركة الأولى من سيمفونية بيتهوفن السادسة (فرحة الفنان لدى وصوله إلى الريف) فإننا بدون وعي نستشعر هذا المعنى: معنى الفرحة، ومعنى البساطة الريفية، ما يمكن اختصاره بالفرحة البسيطة، أو البساطة المُفْرِحة. أما حين نستمع إلى تلك الحركة دون أن نعرف برنامجها، الذي وضعه مؤلفها، فإننا نترك للموسيقى الخيار في إثارة المشاعر، التي يمكن لها إثارتها.
مع ذلك وقع خلاف كبير معاصر بين فلاسفة الموسيقى والجماليات في العالم الأنجلوسكسوني، تبدى على صفحات المجلات، وبالذات المجلة البريطانية للجماليات، حول قضية ارتباط الموسيقى بالمشاعر: هل يمكن للموسيقى أن تثير بالفعل مشاعر معينة؟ يمكن لها أن تثير المشاعر عمومًا، ولكن هل يمكن لها أن تثير المشاعر عينها في كل الناس أو غالبيتهم كل مرة؟ هذا الجدل في حد ذاته أدلّ على القضية: أن الموسيقى لا يمكن لها أن تحمل أفكارًا، فقد دار الخلاف على كونها تحمل مشاعر معينة أصلًا أم لا؟ ومن الأسهل لها كثيرًا أن تحمل شعورًا مقارنة بالتحديد اللازم لنقل فكرة.
كذلك من المفارقات الشهيرة في تاريخ فلسفة الموسيقى عدم التساوُق في ألمانيا بين فلسفتها وموسيقاها؛ فبينما تقدمت الأشكال الموسيقية، وأساليب التأليف إلى حد بعيد في ألمانيا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فإن الفلسفة الألمانية ما انفكت تنظر في أغلبها، وعلى يدي أكبر فيلسوفين فيها، أي كانط وهيجل، إلى الموسيقى كفن أدنى مقارنة بشتى الفنون، وخاصة الشعر، المتقدّم عندهم لقدرته على تحديد الأفكار ونقلها. أما الموسيقى فقد ظلت “أقرب إلى متعة من ثقافة” على حد تعبير كانط.
لما كانت الموسيقى مقارنة بمختلف الفنون فنًا شكليًا إلى حد كبير، حتى وصل الأمر بالبعض إلى القول بأنها فن الشكل بلا مضمون، فقد بحث لها الفلاسفة مثل فيثاغورس وفيلون السكندري والكندي عن مضمون للشكل نفسه، أيْ مشابهة شكلها لبنَى تشريحية أو فلكية أو غيرها من البنى. هذا هو في رأيي أصل تلك المشاكلات.
لكل ما سبق، لهذه العلاقة الإشكالية بين الكلمة المحددة، والنغمة الغامضة، كانت هذه هي الفقرة المناسبة للحديث عما يمكن تسميته بمشاكلات الكندي. قبل الشروع في استعراض المشاكلات، نشير هنا إلى كون تلك المسألة بالذات من أهم المسائل الخلافية في الفلسفة الإسلامية. لقد وقع الخلاف بين الكندي من جهة، مرحلة تأسيس الفلسفة الإسلامية، وبين كل من الفارابي وابن سينا من جهة أخرى، مرحلة نضج هذه الفلسفة، في نقطتين بشكل رئيس: المُشاكَلات، وأثر الموسيقى على الأخلاق. رفض الفارابي وابن سينا عقد العلاقات بين الموسيقى وبين البنى التشريحية أو الفلكية، ولم يجدا لذلك أساسًا مقنعًا، ومن ناحية أخرى فقد رفضا الخلط بين علمي الموسيقى والأخلاق، وقال ابن سينا بصدد الخلط الأخير: “إن ذلك من سنّة الذين لم تتميز لهم العلوم بعضها عن بعض.” ابن سينا: جوامع علم الموسيقى، ص ٣-٤.
على أية حال فكما قلنا كان الكندي مهتمًا أساسًا فيما يبدو بمسألتين أساسيتين في الفلسفة: أولًا تأسيسها في المجتمع العربي، وثانيًا إبداع الفروض. ربما كان هذا الحماس للإبداع هو الذي أوقعه بعض الأحيان في عدم الدقة، وانتفاء المبرر الموضوعي في نظر فلاسفة أكثر دقة كتلميذيه الفارابي وابن سينا. مما يدل على غزارة ما اعتقد فيه الكندي من مشاكلات ما قاله عن أهم آلة موسيقية لدى العرب، أي العود، والتي لعبت دور البيانو تقريبًا في أوروبا بدءًا من منتصف القرن الثامن عشر من حيث مدى الأهمية. يقول الكندي: “إن هذه الآلة (العود) ليس فيها شيء إلا وفيه علة فلسفية: إما هندسية، وإما عددية، وإما نجومية (فلكية).” الكندي: رسالة في اللحون والنغم، ص ١٣. سيبدو هذا الكلام حتى للمختصين في الموسيقى، بل بالذات بالنسبة إليهم، غريبًا.
يمكن أن نجد علاقة عامة بين الهندسة والحساب (العدد) من جهة، والموسيقى من جهة أخرى، باعتبار كل تلك المجالات مبنية على نسب رياضية خالية من المضمون، لكن ربط الموسيقى بالفلك، وهو تقليد متبع عند آل فيثاغورس كما يعرف القارئ المطلع على الفلسفة الإغريقية، لا يبدو ذا أساس موضوعي. وهو الانطباع نفسه، الذي لا بد وأنه تملّك الفارابي وابن سينا لدى مطالعة هذا الكلام.
وجد الكندي بسهولة نسبية مشاكلةً بين السلم الموسيقي، وبين الأفلاك؛ فقد كانت الأفلاك السيارة المعروفة في عصره سبعة كنغمات السلم: زحل والمشتري والمريخ والشمس، والزهرة وعطارد والقمر، بهذا الترتيب السابق، ص ٢٦. كذلك: رسالة في أجزاء خبرية في الموسيقى، في: تاريخ الموسيقى الشرقية، تحقيق سليم الحلو، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، ١٩٦١، ص ٢٦٢. كذلك: كتاب المصوتات الوترية من ذات الوتر الواحد إلى ذات العشرة الأوتار، في: مؤلفات الكندي الموسيقية، تحقيق وتقديم: زكريا يوسف، منشورات الجمل، بيروت، ٢٠٠٩، ص ١٠٣، كذلك: الرسالة الكبرى في التأليف، في: مؤلفات الكندي الموسيقية، تحقيق وتقديم: زكريا يوسف، منشورات الجمل، بيروت، ٢٠٠٩، ص ١٥٨.. كأن كل نغمة تعبِّر عن مدار معين. إذا فرضنا أن هذه المشاكلة حقيقية؛ بمعنى أن هناك ارتباطًا ما بين الموسيقى والفلك، فإن هذا برهان على أن عدد نغمات السلم سبع بلا زيادة ولا نقصان، وهذا من أسباب عقد هذه المشاكلة بالذات؛ فقد كان عدد نغمات السلم مسألة خلافية قديمة. أكد الكندي على حصر النغمات الرئيسة في سبع على التحديد، وقد قدم البراهين الموسيقية البحتة كذلك على عدد النغمات في رسالته الكبرى في التأليف بشكل أساسي الرسالة الكبرى في التأليف، ص ١٥٠-١٥٣.، كما عاود هذا الطرح في رسالته في خبر صناعة التأليف رسالة في خبر صناعة التأليف، في: مؤلفات الكندي الموسيقية، تحقيق وتقديم: زكريا يوسف، منشورات الجمل، بيروت، ٢٠٠٩، ص ٦٩..
مما تقوم عليه أيضًا هذه المشاكلة محاولة الفلاسفة القدماء، وفي العصر الوسيط، تأسيس نسق موسوعي للمعارف الإنسانية في هيئة مترابطة. كانت الفلسفة في تلك العصور الطويلة أمًا لكل العلوم بهذا المعنى، لا بمعنى كونها مصدر كل العلوم؛ فلم يكن الفيلسوف مصدر كل علم وكل تخصص، بل كان يجمع ما انتهت إليه كل العلوم في الطبيعة، والرياضيات، وما بعد الطبيعة، في سياق متكامل. كان من الطبيعي أن تنعقد تلك العلاقات غير المبررة في طريق السعي نحو نقطة تكامل شاملة لكل العلوم. كما كان من الطبيعي كذلك أن يتوقف بعض الفلاسفة أمام مثل تلك العلاقات بعين نقدية. لقد انتقد ابن سينا في المقالة الأولى من (جوامع علم الموسيقى) ربْطَ الكندي بين الموسيقى والأفلاك، ووجد في هذا نوعًا من الخلط بين العلوم ابن سينا: جوامع علم الموسيقى، ص ٣-٤.. أما الفارابي فقد رفض رأي آل فيثاغورس القائل بأن الأفلاك تحدِث بحركتها في الفضاء نغمًا الفارابي: كتاب الموسيقى الكبير، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، دون بيانات أخرى، ص ٨٩.. الرأي الذي يهدم المقولة الوحيدة، التي يرى كثير من الباحثين، ومؤرخي الفلسفة، ومنهم أرسطو نفسه، أنها دقيقة النسبة لفيثاغورس شخصيًا: “السماء عدد ونغم.” Aristotle, Metaphysics, trans. by W. D. Ross, Random House, New York, 1941, Book I, p. 698.
الحق في رأينا مع الفارابي وابن سينا في رفض تلك المقولة، وتلك المشاكلات الفلكية، لكن لأسباب أخرى. إن نغمات السلم قد تزيد وقد تنقص، وهناك السلم الخماسي المعروف، المكون من خمس نغمات أساسية، وهو غير شائع حاليًا، لكنه كان السلم الأكثر شيوعًا في الحضارات البدائية. يمكن للقارئ عزف السلم الخماسي على البيانو أو الأورج إذا قام بعزف الأصابع السوداء فقط؛ ليتعرف عليه فورًا، فهو مستعمَل حتى اليوم على نطاق ضيق في بعض أنواع الموسيقى الشعبية، كموسيقى النوبة الشعبية مثلًا. أما عدد الأفلاك السيارة فهو مختلف فيه إلى اليوم – بفرض حصرها في أجرام مجموعتنا الشمسية – وقد زاد عددها باطراد كلما تقدم علم الفلك، وتكنولوجيا الرصد.
على أن الكندي ينتقل من المشاكلة النجومية السابقة إلى عدد كبير في الحقيقة من المشاكلات، حتى يبدو وكأنه يبحث عن فيزياء موسيقية إن جاز التعبير، بمعنى قدرة الموسيقى بما هي علم، لا كفنّ، على التعبير عن مختلف العلوم، وهو طموح أبعد بمراحل مما انتهى إليه المعلم الثاني الفارابي، والشيخ الرئيس ابن سينا. مثلًا يرى الكندي أن لكل نغمة لونًا من الألوان الكندي: رسالة في أجزاء خبرية في الموسيقى، ص ٢٦٦.، ما يذكرنا بقوة بالعلاقة بين النغمات والألوان في الموسيقى الهندية؛ حيث لكل نغمة لون أو مزيج لوني Paramhansa Yoganada, p. 206.. بل قد عقد الكندي علاقة بين التآلفات اللونية، وبين التآلف النغمي، بمعنى إمكانية التوصل إلى نظرية في الهارمونية الموسيقية بناء على هارمونية الألوان الكندي: رسالة في أجزاء خبرية في الموسيقى، ص ٢٦٦..
علم هارمونية اللون علم قائم، ويدْرسه طلاب الفنون التشكيلية، لكنه مستقلّ تمامًا عن هارمونية الأصوات، اللهم إلا عند بعض المرضى بعرض عصبي نادر هو ;كرومسثيزيا أحد أنواع الحالات العصبية التي تؤدي إلى ’حس مواكب’، أي استجابة إحدى الحواس بناءً على أخرى. في حالة الكرومسثيزيا يرى المريض ألوانًا معيّنة لدى سماعه أصواتًا معيّنة.. من أشهر الموسيقيين الذين “تمتعوا” بهذا المرض فرانز ليست، وسكريابين. تطرح الفكرة السؤال: هل كان الكندي كذلك مصابًا بهذه الأعراض بما جعله يرى علاقات واقعية بين اللون والشكل والحركة من جهة، والموسيقى من جهة أخرى؟
لم يكتف الكندي بالمشابهة بين حاستي السمع والبصر، بل أفاد أيضًا مشاكلة الأنغام للروائح (الأراييح بتعبيره)؛ فكل نغمة تمثل رائحة معينة، وكل تآلف بين نغمتين أو أكثر يقابله مزيج معين بين رائحتين أو أكثر الكندي: رسالة في أجزاء خبرية في الموسيقى، ص ٢٦٦-٢٦٧.. يبدو ذلك طُموحًا أقصى حتى من طموحات الهندوس بلاهوتهم الموسيقيّ، والذين قصروا تلك المشاكلة على الألوان. يخصص الكندي فقرات طويلة مفصلة للمشاكلات التشريحية في الإنسان والحيوان والنبات؛ حيث يرى تشابهًا بين تركيب الآلات الموسيقية، وأهمها العود، من جهة، وتركيب الكائنات الحية في كتاب المصوتات الوترية الكندي: كتاب المصوتات الوترية، ص ٨٧.. كما يعقد مقارنات بين ترتيب أوتار العود، وطبقات الحنجرة البشرية في رسالته الكبرى في التأليف الكندي: الرسالة الكبرى في التأليف، ص ١٤٦.. أيضًا، عقد الكندي التشابه بين جنس الحيوان وبين النغمات؛ فبعض النغمات مؤنَّثَة لما فيها من رطوبة، وليونة ورَخامة، وبعضها خشن جزل مذكَّر الكندي: رسالة الكندي في اللحون والنغم، ص ١٨..
ربما كانت أقصى مشاكلاته تلك التي تتعلق بالعناصر الأساسية التي منها مادة الكون؛ يعتقد الكندي بهذا الصدد أن الموسيقى وسيط للتأليف بين النفس وبين عناصر المادة الخمسة: الماء والهواء والتراب، والنار والأثير. أقول أقصى مشاكلاته لأنها تبدو وكأنها ترتفع بشأن الموسيقى إلى مرحلة الموسيقى بما هي كيان، لا مجرد النظام الرياضي، ولا مجرد الفن، وهما الزاويتان الأساسيتان – الرياضيات والفن – اللتان تنحصر فيهما مناقشة طبيعة الموسيقى عادة. “الموسيقى ككيان” تعبير أقوم باستعماله للدلالة على ذلك الاعتقاد، الذي نجده لدى بعض الفلاسفة، قلة منهم في الواقع، والقائم على اعتبار الموسيقى كائنًا، لا مجرد تعبير عن كائن، سواء كان تعبيرًا رياضيًا، أو فنيًا.
لا أعرف في تاريخ الفلسفة مَن ارتفع بالموسيقى إلى هذه الدرجة، التي إليها ارتفع الكندي بها، منذ فيثاغورس، وحتى شوبنهور سوى هذا الفيلسوف العربي الأول. يقوم اعتقاد الكندي هنا على اعتبار الموسيقى مادة، أو شبه مادة، تؤلف النفس الإنسانية مع عناصر العالَم، وهو ما يتجاوز مجال التعبير الفني، ويترفع إلى مستوى أُنطولوجيا الموسيقى؛ وهي مسألة سنعود إليها قرب الختام.
كان هذا بصدد أقصى مشاكلاته طموحًا، لكن أكثر مشاكلاته واقعية هي تلك التي تتعلق بثقافة الشعوب، وتاريخها. لقد اعتقد الكندي في نوع من التأثير المتبادل بين الثقافة وبين قواعد الموسيقى عند الشعوب المختلفة. يرى الكندي أن الهندوس، لما كانوا يعتقدون في أصل واحد للعالم، هو البراهما، فقد ركّبوا آلاتهم الوترية من وتر واحد، أما الفرس فقد اعتقدوا في الثنائيات كما في العقيدة المانوية، فشدُّوا وترينِ للآلة، بينما اعتقد الروم في الثالوث في كل شيء، وأحيانًا في الرابوع، لذلك ركبوا آلاتهم من ثلاثة أوتار أو أربعة. أما داوود النبي في إنشاده لمزاميره – لسبب لا يذكره الكندي – فقد عزف على ثمانية أوتار، وأزاد العدد فيما بعد إلى عشرة الكندي: كتاب المصوتات الوترية، ص ٩٤.. كما عقد العلاقة بين مذاهب العزف على الآلات المختلفة وبين أمزجة الشعوب المتباينة: كالروم، والفرس، والعرب، والحبش، والخزر … إلخ الكندي: رسالة الكندي في اللحون والنغم، ص ٢٦.. من الطبيعي أن تتأثر الموسيقى لدى شعب معين بمعتقداته، وثقافته بشكل عام على مستوى الفرضية؛ فهي فرضية مقبولة بدءًا.
مهما اختلف الناس في طبيعة الموسيقى، وماهيتها، فلا بد أنهم يتفقون على كونها فن إضفاء النظام على الفوضى. صحيح أن كل الفنون تقوم بذلك؛ أي خلق نوع من النظام في المادة الفنية، لكن الموسيقى تفعل ذلك بشكل أكثر تجريدًا بين الفنون جميعًا، حتى إن من تعريفاتها الأساسية لدى أغلب الناس كونها تختلف عن الضوضاء، وعن الصوت الرتيب المنتظم. يقدم الشعر مثلًا نوعًا من النظام في اللغة، بما يجعل لها إيقاعًا عن طريق الأوزان والقوافي، كما يجعل للقصيد نظامًا دلاليًا، فإنه يقدم ذلك النظام في مادة منظمة فعلًا، هي كلامنا اليومي، أو نصوصنا النثرية، وما يقوم به بناء على ذلك هو إضفاء “نظام بديل”. كذلك الفن التشكيلي؛ فالتصوير مثلًا يقوم بتحريف المادة القائمة فعلًا في الأعيان: المرئيات بصفة عامة، وإعادة تصورها في بعدين اثنين. كذلك يفعل النحت، والعمارة، والفن الديناميكي … إلخ. تضفي كل الفنون على مادتها نظامًا بديلًا، إلا الموسيقى، فهي تعمل على مادة فوضوية أصلًا، هي الأصوات، التي لا تترابط بعلاقة منظمة عادة – مع استثناءات نادرة قائمة على قانون الصدفة – إلا في العمل الموسيقيّ.
بطبيعة الحال كان الكندي يعرف ذلك، وكل فيلسوف للفن، وخاصة للموسيقى، يعرف هذا، لكن الكندي لسبب ما لم يركّز جهده على فهم هذه الخاصية: خاصية النظام القائمة على التآلف. في الواقع إن الفيلسوف المسلم، الذي أقام فلسفته في الموسيقى على أساس خاصية النظام، هو ابن سينا. يفتتح ابن سينا كتابه جوامع علم الموسيقى ببحث الأثر النفسي عمومًا للأصوات، فيرى أن الصوت في حد ذاته ليس له أثر معين على النفس: “ليس في جنس الصوت ما تلتذه الحاسةُ أو تَكرهه من حيث هو صوت، وإن كان في جنسه ما يُكرَه بسبب الإفراط.” ابن سينا: جوامع علم الموسيقى، ص ٥. ما يعني أن النفس، حين تكره صوتًا ما، لا تكرهه لذاته، بل بسبب الإفراط فيه، كالصوت الحاد جدًا، أو المرتفع جدًا، مثلًا. يوضح الشيخ الرئيس بدرجة أكبر: “لكن الصوت يلذ للنفس أو يؤذيها من جهة أخرى، وذلك إما من حيث الحكاية، أو من حيث التأليف.” نفسه. ما يدلنا على أن ما يثير النفسَ من الأصوات هو النظام المعين فيها “من حيث التأليف”. ثم يحسم ابن سينا في نهاية هذا التمهيد رأيه: “التأليف الصوتي لذيذ جدًا لهذه الأسباب، أعني: لما يوجد فيه من النظام المتأدي إلى القوة المميِّزة (أي العقل) … ولما يوجد فيه من محاكاة الشمائل (أي الخصائص).” السابق، ص ٨.
إذًا فالنظام، الذي يضفيه الموسيقار على الأصوات، على مادته الفنية الخام، هو السبب في الأثر النفسي للموسيقى، الذي يتراوح بين اللذة والألم. بشكل أشمل يرى ابن سينا أن النفس البشرية توّاقة بغريزتها إلى استبصار النظام؛ لأنها ترتاح إليه حين تعثر عليه: “بهجة الرجوع إلى هيئة حبيبةٍ على النفس، أعني النظام، أجمل الملذات النفسية” السابق، ص ٩.. ما يمكن استنباطه هنا أن الموسيقى تحمل للنفس – في رأي ابن سينا – أقصى المُتع النفسية؛ لأنها تحمل إليها النظام بما هو نظام.
يفرِّعُ ابن سينا بعد هذا التمهيد النظام في الموسيقى إلى فرعين: “وقد دل حدُّ الموسيقى على أنه يشتمل على بحثين: أحدهما البحث عن أحوال النغم أنفسها، وهذا القسم يختص باسم التأليف، والثاني البحث عن أحوال الأزمنة المتخللة بينها، وهذا البحث يختص باسم علم الإيقاع.” نفسه. هذا مربط الفرس هنا؛ لأنه أصل النظام في الموسيقى: التأليف والإيقاع. من الممكن أن نؤلف موسيقى غير موقعة، كما قدم الموسيقار الأرميني-السوفييتي خاتشاتوريان مثلًا، لكن موسيقاه لا تخلو من التأليف. على أية حال أغلب ما وضع من موسيقى في التاريخ المعروف يجمع بين التأليف والإيقاع. يُعنَى بالتأليف في هذا السياق كل مظاهر التآلف النغمي غير الزمنية، تآلف صوتين من طبقتين مختلفتين، وتآلف نغمتين مختلفتين، وتآلف لحنين متفاوتين. يقول ابن سينا: “إن التأليف إنما يجري فيما بين الأشياء التي تختلف اختلافًا ما … فإنه إن لم يكن للغيرية تأثير، لم يكن للتأليف جدوى.” السابق، ص ١٤. يعني ابن سينا أن التأليف يقوم أساسًا على اجتماع النقائض في علاقة ما توفق بينها، فلا معنى لتأليف شيء مع نفسه. كما يعرف الشيخ الرئيس الإيقاع بقوله: “الإيقاع من حيث هو إيقاع هو: تقديرٌ ما لزمان النقرات.” النقرات المقصودة هي النقرات على الآلة الإيقاعية. كما يعرفه الفارابي بقوله: “هو النقلة على النغم في أزمنة محدودة المقادير والنِّسَب.” الفارابي: كتاب الموسيقى الكبير، ص ٤٣٦.
للإيقاع أهمية أكبر بكثير في الموسيقى العربية مقارنةً بالموسيقى الغربية الكلاسيكية. منذ القرن الخامس عشر تخلت الموسيقى الغربية تدريجيًا عن الإيقاع سابق التحديد. كان الإيقاع في الموسيقى عمومًا قبل تلك الفترة مسبق التجهيز، كأوزان الشعر؛ فالشاعر لا يخترع وزنًا لكل قصيدة بحيث يلائم المعنَى مثلًا، بل يتبع في النظم بحرًا قائمًا فعلًا. كذلك كان الحال في الموسيقى، مع اختلاف الوحدات الزمنية بين إيقاعات الموسيقى، وبحور الشعر. يقول الفارابي في كتاب الموسيقى الكبير إن “الألحان بمنزلة القصيدة”، وإن النغمة تقابل اللفظ، واللحن يقابل الجملة، والإيقاع يقابل العروض.” السابق، ص ٨٥-٨٦. وفي تعريفه للإيقاع أعلاه نجده يقول “في أزمنة محدودة المقادير والنسب”، أي كونها محددة مسبقًا.
لا شك أن في تراثنا الموسيقي الحديث أعمال غير إيقاعية، كما في بعض أغاني سيد درويش، مثل أهو دا اللي صار. لكن الإيقاع ما برحَ يلعب دورًا محوريًا في الأغنية العربية ينقسم إلى وظيفتين: وظيفة منح العمل تماسُكًا على مستوى التلقي، ووظيفة التنسيق بين آلات التخت، أو الأوركسترا فيما بعد، على مستوى الأداء. بدون نقرات الآلة الإيقاعية سيختلف تقدير الزمن عند كل عازف بما يؤدي إلى فوضى سماعية. إذًا، كيف تعمل الأوركسترا الغربي بعد التخلي عن الإيقاع المحدد مسبقًا؟ تقوم بذلك عن طريق المايسترو؛ فالأصل في وظيفة المايسترو كان النقر بعصا على الأرض بشكل منتظم كالمترونوم، ثم تطورت هذه الوظيفة، وازدادت تعقيدًا حتى صارت كذلك تعبيرًا عن جميع تعليمات الأداء تقريبًا، وأصبح دور المايسترو جزءًا لا يتجزأ من أداء العمل.
لكن في الموسيقى العربية التقليدية ظلت الإيقاعيات تلعب دور المايسترو في تنظيم الزمن على مستوى التخت أو الأوركسترا. لهذا يمكن القول إن الإيقاع كان العنصر الموسيقي الأساسي من جهة علاقة الموسيقى بالنظام في الموسيقى العربية التراثية؛ فهو الذي يكسِب العمل الموسيقي تماسكًا كجسد الكائن الحيّ. من آثار ذلك، التي يمكن استبصارها بسهولة في مقارنة الموسيقى العربية بالموسيقى الكلاسيكية الغربية، هو الاهتمام الزائد حتى اليوم بين الموسيقيين العرب بالإيقاع، وبلوغ الجهاز الإيقاعي العربي درجة كبيرة من التعقيد مقارنة بحال الإيقاع في الموسيقى الكلاسيكية الغربية. من آثاره أيضًا أن الموسيقى الكلاسيكية الغربية قد طوّرت في المقابل الصيغ الفنية، كالصوناتا، والروندو، والتنويعات … إلخ، لتعوّض هذا النقص في التماسُك، بعد تنحية الإيقاع.
قامت فلسفة الموسيقى عند أكبر فيلسوفين من الإغريق: أفلاطون وأرسطو، في شكل فلسفة للتربية الموسيقية، أي بالتركيز على الأثر النفسي للموسيقى على السامع، وخاصة النشء، ومدى قدرتها على إعداده للانضباط الذاتي، ومدى قدرتها على تحريك الجيوش، وتعلُّم النظام Plato, The Republic, trans. by Benjamin Jowett, Oxford : Clarendon Press, 1888, III-84-88. Also, Aristotle, Politics, trans. by Benjamin Jowett, Clarendon Press, Oxford, 1920, Book VIII, Ch. 5, p. 308-314.. نظرًا لهذه النظرة البراجماتية للموسيقى لدى كل منهما لم يهتما بتنظير ماهية معينة للموسيقى بدرجة من العمق تناهز قدر عمق تنظيرهما للميتافيزيقا والطبيعة والأخلاق … إلخ. وقد رأينا في مقالات سابقة، مثل الموسيقى بين التدجين والتوثين، وكلمة من الله، أن أفلوطين، القمة الثالثة للفلسفة المدونة بالإغريقية بعد أفلاطون وأرسطو، كذلك بحث في الموسيقى من جهة أثرها النفسي، وقدرتها على إدخال السامع في حالة صوفية، تؤهله فيما بعد إلى الارتقاء نحو الواحد، مصدر الوجود الأزلي Plotinus, The Enneads, translated by Stephen MacKenna, Faber and Faber Limited, London, 1956., Enn. I.3 (20)..
لم يختلف حال الكندي كثيرًا عنهم من هذه الزاوية. صحيح أنه تعمق في تنظير ماهية الموسيقى، إلى حد النقاش الأنطولوجي، كما رأينا في فقرات سابقة، لكنه عقد كذلك علاقة قوية بين علمي الموسيقى والأخلاق، إلى الحد الذي دعا كلًا من الفارابي وابن سينا إلى نقده. يقسم الكندي الألحان بشكل عام من جهة أثرها النفسي إلى ثلاثة: الطربي، وهو الذي يدعو إلى الفرح والرقص، والجريء، وهو الذي يدعو إلى البأس والإقدام والنجدة، وأخيرًا الشجيّ، وهو الذي يحدث أثر الحزن والبكاء زكريا يوسف: موسيقى الكندي، ص ٢٨.. قسم الكندي فيما بعد أنواع الألحان من حيث أثرها النفسي ومن حيث الآلة العازفة: فالألحان بحسب أوتار العود كما تقدم: طربي، وجريء، وشجيّ، أما بحسب الحنجرة البشرية فهي: طربي، وتسبيحي، وحزين كتاب المصوتات الوترية، ص ١٠٠..
هذا الربط بين الألحان وبين الحالات الانفعالية مؤسَّس عند الكندي على أصلين: الأول تجريبي، وهو ملاحظة أثر اللحن في السامع، والثاني استنباطي، وهو العلاقة التي عقدها الكندي من قبْل بين الآلة الموسيقية والجسم العضوي؛ فكل تغير في الأولى، يحدث أثرًا في الثاني السابق، ص ٢٧-٢٨.. ما يعني أنَّ العلاقة بين الموسيقى من جهة، والأخلاق والانفعالات من جهة أخرى، ترجع في الأصل إلى مُشاكلات الكندي سابقة الذكر. هذه علاقة يمكن عكسها: من النفس إلى الآلة؛ فكما ذكرنا يعتقد الكندي أن طبيعة اللحن، وأسلوب العزف، بل وتركيب الآلات، وخاصة الوترية منها، يتوافق مع أمزجة الشعوب المختلفة رسالة الكندي في اللحون والنغم، ص ٢٦.؛ وهو أثر غير قاصر على اللحن، بل كذلك الإيقاع بطبيعة الحال. يرى الكندي أن سرعة الإيقاع، وهي تختلف عن سرعة العزف، ذات أثر أكيد على الحالة النفسية؛ فالسريع أقرب إلى الفرحة والانتصار، والبطيء أقرب إلى الحزن، أو التأمُّل رسالة في خبر صناعة التأليف، ص ٧٩..
في كتاب المصوتات الوترية يطرح الكندي قضية ارتباط النغمة المفردة، لا اللحن، ولا الإيقاع، ولا الهارموني، بالوحدة الشعورية البسيطة غير المنقسمة، فكل نغمة تُحدِث أثرًا شعوريًا ما كتاب المصوتات الوترية، ص ١٠٦.. نظرية من الصعب اختبارها، أو البرهنة عليها؛ فالنغمة المفردة ليست موسيقى ببساطة، والوحدة الصغرى في الموسيقى هي الجملة اللحنية. الحال كأنما نقول إن الرمز الرياضي له معنى في ذاته، فلو كان هذا صحيحًا لكان الرمز (س) مثلًا في معادلة (س + س = ٢س) ذا دلالة، وهو كلام غير معقول، بل ما له دلالة في المعادلة هي العلاقة بين أطرافها بالجمع والتساوي، أيْ تلك العلامات بين الرموز. إن العلاقة بين النغمات، ترتيبها، وتكرار بعضها، ونقطة البدء، ونقطة المنتهى في اللحن، هي ما يُحدِث أثرًا في النفس. على أية حال لم يتوسع الكندي في هذه النظرية.
أما تقسيم الألحان من جهة الأثر النفسي عند الفارابي فأكثر تعقيدًا. يذهب الفارابي إلى قسمة ثلاثية أيضًا، لكنها على أساس مختلف، وأشمل. هو يرى أن كل ما أورده الكندي من تصنيف للألحان يقع في قسم واحد هو “الألحان الانفعالية”، أي التي يُقصَد بها إحداث انفعال ما في السامع. إلى جوار هذا القسم افترض الفارابي قسمين آخرَين: ألحانًا مُلِذَّة، أي تحدث في النفس لذة عامة، وراحة، لكنها لا تؤثر بعمق، ولا تؤدي إلى تخييل، وهي أقرب في تعبيرنا المعاصر إلى الموسيقى المصاحِبة، كالتي نسمعها في مجمعات التسوّق. هذا بالإضافة إلى القسم الثالث وهو الألحان المُخَيِّلَة، أي التي تحدِث فينا تصورات وعلاقات وخيالات. يقول الفارابي: “صنف يكسِب النفسَ لذاذةً وأنقَ مسموعٍ … من غير أن يكون له صنعٌ في النفس أكثر من ذلك، وصنف يُفيد النفسَ مع ذلك تخيلاتٍ، ويوقع فيها تصوراتِ أشياء.” كتاب الموسيقى الكبير، ص ٦٢-٦٢. في هذه العبارة المكثفة يلخص الفارابي القسمة الرئيسة للألحان: الأول لذيذ سطحي، والثاني انفعالي عميق، والثالث تخييلي.
ما يلفت الانتباه هنا أمران: الأول كون هذا التصنيف أكثر عمقًا في التفرقة بين لحن سطحي مصاحِب، ولحن انفعالي عميق، والثاني كونه أكثر طُموحًا في التفرقة بين كل هذا وبين اللحن التخييلي. الفكرة في هذا القسم الثالث هو أنه يفتح الباب لفرضية معنَى الموسيقى، أو ما الذي نفهمه في الموسيقى؟ لو فرضنا أن هناك نوعية من الألحان تخلق في الذهن تصوراتٍ نظريةً معينة، فمعنى هذا أن اللحن لا يختلف جوهريًا عن الكلام، وأن الموسيقى لا تختلف عن الفلسفة والشعر في قدرتها على نقل الأفكار. لذلك فهو افتراض خطير. إنه افتراض يقوم على التفرقة أساسًا بين نوعين من الألحان: نوع عاطفي، ونوع ذهني.
نحن نفهم كيف يمكن أن نبني تصورات (مع) سماعنا للموسيقى، أنْ نخلق قصة مثلًا تكون الحركة الثالثة في السيمفونية السادسة لتشايكوفْسكي موسيقى تصويريةً لها، لكن كيف يمكن لمجرد الموسيقى، مجرد تلك الحركة الثالثة، أن تنقل لنا قصة معينة، أو تصورًا نظريًا كمبدأ أو مفهوم؟ لهذا، وفي رأيي، لا يمكن الحديث عن تصورات للموسيقى إلا بالإحالة إلى المستمِع؛ فهو الذي قد يخلق تصورًا للعمل، يعتبِر أن عملًا ما، أو لحنًا، تعبيرًا عن مبدأ المساواة، أو الثورة، أو الخير العام أو الشر الأصيل، لكنها علاقة غير قابلة للتبادل بين السامع والمسموع. بيد أننا لا نظن أن الفارابي قد قصد إلى ذلك الرأي الأخير، بدليل قوله: “الألحان بمنزلة القصيدة والشعر” السابق، ص ٨٥.. إن البيت الشعري يعني شيئًا، وقد يحمل قصةً، أو تصورًا نظريًا، ولهذا فإذا قلنا أن اللحن كالقصيد، فهو يعني قولنا إن اللحن لغة حقيقية بدون مجاز. على كل حال يرى الفارابي أن الألحان لا تتراصّ في بنية أفقية، بل يعلو بعضُها على بعضٍ؛ يقول إن مقصود اللحن هو “استرداد ما ينبعث به الإنسان نحو أفعال الجِدّ” السابق، ص ١١٨٤-١١٨٥.، أي أن اللحن المثالي هو الذي ينقل المستمِع من حالة اللعب الحر، إلى حال التأمل، والتفكير الجادّ.
إذًا لم يختلف الفارابي جوهريًا عن الكندي في وجود أثر نفسي للموسيقى على النفس، لكنه اختلف معه في قَصر هذه العلاقة على الأخلاق، بل توسع أكثر من ذلك إلى التصورات والخيالات. على أن الفيلسوف الذي نقض (بالضاد) هذه العلاقة بين الموسيقى والأخلاق صراحةً هو ابن سينا، وقد تعرضنا فيما سبق لرأيه في هذه المسألة؛ حيث يقطع الصلة بين علمي الموسيقى والأخلاق، ولا يرى للنغمة المفردة تأثيرًا، اللهم إلا تأثيرها الفيزيولوجي، حين نسمع صوتًا حادًا للغاية، أو مرتفعًا جدًا، فيؤلم الأذن والذهن، وهو تأثير يستوي فيه الإنسان والحيوان ابن سينا: جوامع علم الموسيقى، ص ٥..
بالفعل لا يتوسع ابن سينا في العلاقة بين مبحثَي الألحان والأخلاق، لكنه في المقابل يركز الأثر النفسي للموسيقى على خاصية أخرى مختلفة تمامًا، هي النظام. يرى ابن سينا أن الأثر النفسي الجوهري للموسيقى على الإنسان هو “بيتوتة النظام”، إن جاز التعبير. ما يعني أن النفس الإنسانية توّاقة بطبعها إلى إيجاد نظام في الفوضى، فهو الذي يشعرها بأنها في منطقة الأمان. العلة في ذلك أن النفس لا ترتاح إلى ما لا تفهمه، أو ما لا يمكن فهمه، بالعقل، ملَكتها الأساسية. أما النظام، مجرد النظام، فهو يشعرها بأنها في وسط قابل للتحليل، والاستقصاء، وذي ترتيب منطقي ما. هكذا نرى تطورًا في الأطروحة تاريخيًا: من الكندي، الذي اعتقد في أثر نفسي لكل نغمة، ولكل إيقاع ولكل لحن، يرتبط بحالة أخلاقية معينة، إلى الفارابي، الذي رأى علاقة بين اللحن والتصور الذهني، إلى ابن سينا، الذي كان أكثر واقعية، وأشد ميلًا للملاحظة التجريبية، ووجدَ أن الأثر النفسي للنغم يتركّز في كونه نظامًا، علاقة ما بين أطراف، هي النغمات، وربما الألحان.
لم يبقَ من التراث الموسيقي العربي في عصر الكندي، والفارابي، وابن سينا، ما يمكن أن نحيل إليه، أو أن نستنبط منه نتائج واضحة على مستوى التطبيق. ما النتائج النقدية، في النقد الموسيقي، التي تترتب على تنظيرات هؤلاء الثلاثة في مسألة العلاقة بين الموسيقى والنفس البشرية؟ قد يمكن حل السؤال بالإحالة إلى أعمال حديثة؛ ربما كان الكندي في تركيزه على مسألة الانفعال والأخلاق أقرب إلى المدرستين الروسية والإيطالية؛ فكل منهما تركز أساسًا على الانفعال، وتُنحّي دور العقل في تتبع العلاقات الرياضية في التركيب، بينما يكون الفارابي أقرب إلى الرومانسية المتأخرة عمومًا في أوروبا؛ حين بدأ الموسيقيون في التعبير عن قصص وأساطير بأعمالهم، وحين ظهر شكل القصيد السيمفوني على يد فرانز ليست، وقد عقد الفارابي كما سبق علاقة بين اللحن والقصيد. أما ابن سينا، وتركيزه على خاصية النظام بما هو نظام فهو أقرب إلى الكلاسيكية في النصف الثاني من القرن ١٨ في أوروبا، والرومانسية المبكرة عند بيتهوفن بالذات؛ حيث وصل النظام كخاصية موسيقية إلى درجته القصوى في أعمال لا موضوعية، ومعظم أعمال بيتهوفن لا موضوعية، كغالبية صوناتاته وكونشرتواته ورباعياته، لكنه اشتُهِر كما هو معروف بالأعمال الموضوعية كإيجمونت، وإيرويكا، وافتتاحياته، وهو الذي اخترع شكل الافتتاحية كشكل مستقلّ على أي حال.
في نهاية الأمر يركّز الباحث عن ماهية الموسيقى في فكر فيلسوف ما على تعريفه للموسيقى؛ فهو الموضع الذي قد تتضح فيه تلك الماهية بشكل مباشر. لكن التعريف العلمي المختصَر لا يفي في كثير من الحالات بهذه النتيجة المبتغاة. يشترك تعريف الكندي للموسيقى بما هي علم الألحان والإيقاعات مع تعريفات الفارابي وابن سينا، لكن المضامين بعد هذا تفترق. إن الخاصية الأساسية إذًا للموسيقى، من خلال كل ما سبق، لدى كل فيلسوف على حدة، هي التي تحدد لنا تصوره عن ماهية الموسيقى.
عقد الكندي، كما سبق بيانه، عددًا هائلًا من المشاكلات بين الموسيقى وبين موجودات الطبيعة وحالات النفس بشكل شامل وتفصيلي. تُشاكِل الآلات الأجسام العضوية، وتشاكل الأوتار الأفلاك، وتشاكل النغمات الألوان والروائح، وتشاكل الإيقاعات الحالات النفسية. يمارس كل هذا دوره في التأثير على النفس والعقل. لكن ينبغي هنا أن ندرك أن الكندي يتحدث عن أثر عام، لا عن إحداث تصور ما في العقل، أو فكرة. قد يلخص لنا الكندي كل ما سبق حين يقول – كما سبق ذكره – بوجود علاقة بين الموسيقى وبين التآلُف العام مع مادة الطبيعة: الهواء والماء والتراب والنار، والأثير. يرى الكندي كما رأينا أن الموسيقى هي الوسيط المناسب للتوفيق بين النفس وبين المادة، وكأنها حالة متوسطة بين ما هو روحاني، كالنفس، وبين ما هو مادي، كالعناصر. لذلك فالكندي هو الوحيد في هذا الثالوث، الذي يمكن أن يحظَى بلقب فيلسوف الموسيقى بحقّ؛ فبرغم ما في تخريجاته من عدم معقولية، ومبالغة أحيانًا، وميلٍ مفرِط في الاستنباط، فإنه قد صعد بالنقاش حول الموسيقى؛ من النقاش النقدي والرياضي والنفسي، إلى مستوى النقاش الأنطولوجي؛ لأنه جعل للموسيقى فئة مستقلة خاصة جدًا بين الموجودات، هي ما بين المادي، واللا مادي.
لا تقتصر هذه المكانة التي نرصدها للكندي على الفلسفة الإسلامية، بل تنسحب على الفلسفة عمومًا؛ فلم يخصص فيلسوف فئة أنطولوجية معينة ومميَّزة للموسيقى قبل الكندي سوى فيثاغورس فيما نعلم، وبعد الكندي سوى شوبنهور في القرن التاسع عشر. ما دفع الكندي إلى هذا الرأي كون الموسيقى فنًا غير مرئي، يجري في الزمان، ولا يمكن حين ندعوها أن تستجيب لنا بشيءٍ إلا كباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه. بالتالي ظن الكندي، وظن قبله فيثاغورس، وبعده شوبنهور، أن الموسيقى (شيء) مختلف عما نعرفه في الطبيعة من أشياء؛ موجود وغير موجود، كالزمان نفسه، نعرفه ولا نراه، ولا نحسه ولا نمسك به، وهو دائمًا في حال الزوال.
على خلاف ذلك قصرَ ابن سينا بحثَه في الموسيقى عليها من حيث كونها عِلمًا رياضيًا من جهة، وكونها فنًا من جهة أخرى. قد يقول قائل: ولماذا لا يعتبَر تحديده لخاصية النظام في الموسيقى، وهي خاصية أساسية، نقاشًا أنطولوجيًا؟ لا يعتبَر؛ لأن خاصية النظام قائمة كذلك في كثير من المجالات العلمية والفنية، كالرياضيات والطبيعيات واللغة، وبقية الفنون كذلك. ما يميز الموسيقى بالنظام هو تميزها بذلك بين الفنون فحسب، وليس بين كل مجالات النشاط البشري، وغير البشري. هذا رأيٌ أَدخَلُ في باب النقد الفني، وفلسفة الفن، لكنه لا يرقى إلى درجة التمييز الأنطولوجي للموسيقى عن غيرها بإطلاق.
أما الفارابي فقد تميز عنهما بخاصية أخرى في التعبير الموسيقي نفسه، لذلك أرجأناه إلى هذا الموضع. يرى الفارابي كما رأينا سابقًا أن للموسيقى قدرة فعلية، بلا مجاز، على نقل التصورات والأخيلة، من عقل إلى عقل. لذلك فهي أقرب ما تكون للغة الرمزية، أي اللغة التي نستعملها يوميًا، كالعربية مثلًا، وكالتي نكتب بها الأدب. من المهم هنا أن نفرق بين لغة المدونة الموسيقية عند العازف، وبين لغة الموسيقى عند المؤلف والسامع. لغة المدونة الموسيقية لغة حقيقية، لكنها أبسط بكثير من أن تنقل معنى، إنها أقرب إلى خوارزميات لإنجاز مَهمةٍ ما، هي العزف. أما لغة الموسيقى فهي – بفرض وجودها – ما تدل عليه الموسيقى بعد أدائها، أو في عقل المؤلف، من معانٍ وتَصاوير. يقتصر كلام الفارابي على النوع الثاني من هذه اللغة. كما يكتب الشاعرُ قصيدةً ليعبر عن معنًى معينٍ، فإن الموسيقار – بحسب الفارابي – يستطيع أن ينقل المعنى نفسه، الذي للقصيدة، عن طريق الموسيقى، وخاصة اللحن، الذي يتكون من نغمات، وقد أفاد الفارابي فعلًا أن النغمات هي الألفاظ، وأن الألحان هي الجُمَل والتراكيب. هذا جدل قائم على أية حال في فلسفة الموسيقى، وخاصة في القرن العشرين وحتى اليوم: الموسيقى بما هي لغة.
يتربع الكندي على عرش فلسفة الموسيقى في الإسلام بلا منازع فيما نعلم، وفيما قمنا بعرضه ونقده من آراء. خصص الكندي موضعًا أنطولوجيًا للموسيقى بين المادة واللا مادة، وبلغة معاصرة قد يقول الكندي: بين المادة والطاقة. إنها فاعلية معينة، والفاعلية لا تُحدثها إلا مادةٌ، لكها ليست المادة نفسها. ربما اقترب الكندي هنا من نظرية أرسطوكْسينوس، منافِس فيثاغورَس الأساسي، الذي رأى أن الموسيقى “حركة”، لكنها حركة لا يمكن وصفها في ضوء فيزياء أرسطو. فبينما حدد أرسطو الحركة في ثلاث فئات: في المكان، كانتقال جسم من موضع إلى موضع، وفي الكم، كالزيادة أو النقصان، وفي الكيف، كتغير حالة الجسم من الحار إلى البارد، أو من التكوين إلى التحلل، فإن حركة الموسيقى بين النغمات ليست أيًا من كل ذلك. أبعدَ من ذلك: ذهب أرسطوكْسينوس في كتابه الوحيد المتبقّي، وغير الكامل مع ذلك، العناصر الهارمونية، إلى أن الموسيقى تمثل لنا مثالًا صارخًا على التناقض في الفيزياء والرياضيات؛ فاللحن من جهة ساكن، بمعنى كونه مستمرًا، معزوفًا، في مكان واحد، كقاعة دار الأوبرا مثلًا، لكنه من جهة أخرى متحرك دائمًا، في انتقاله من نغمة إلى نغمة، وإلا ما كان لحنًا Andrew Barker (Ed.), Greek Musical Writings, Harmonic and Acoustic Theory, v. II, Cambridge University Press, 2004, pp. 126-184..
التفاصيل أغزر من أن يتسع لها المقام الحالي في فلسفة أرسطوكسينوس للموسيقى، التي لم تنل حظها من الاهتمام بسبب نقد أفلاطون الحاد لها في الجمهورية، واستبعاده إياها، كونها تجريبية أكثر مما يراه متسقًا مع نظريته في المُثل Walter Burkert, Edwin L. Minar Jr., Lore and Science in Ancient Pythagoreanism, Harvard University Press (1972), pp. 371-372.. لكن ما يهم في هذا الموضع أن كلًا من الفيلسوفينِ: أرسطوكسينوس والكندي قد افترض خاصية مميزة للموسيقى تتناقض مع فهمنا للطبيعة تناقضًا جذريًا؛ فهي عند أرسطوكسينوس وسط بين الثبات والحركة، وهي عند الكندي وسط بين المادة واللا مادة. هذا بينما اقتصرت إبداعات الفارابي، وابن سينا، الأصيلة، على أثر الموسيقى في العقل، وليس النفس؛ كونها قادرة على نقل أفكار عند الفارابي، وكونها الفن الممثل للنظام بما هو نظام عند ابن سينا.
لكنّ أكثر من اهتم بالموسيقى، وبتنظيرها، كجماعات، لا كأفراد، وشكلوا تيارات مستمرة في التاريخ، هم الجماعات الباطنية بطبيعة الحال في الإسلام. ذلك أن النزعات الباطنية عمومًا تحاول استقراء المعاني فيما هو معتاد، ومُكرر عند العامّة، وتعتقد أنها مَلَكة متاحة فقط للخاصة. للموسيقى لديهم وضعية خاصة جدًا بين الفنون؛ فهي، لأنها بلا مضمون تقريبًا، قابلة لكل معنى. باختصار: الموسيقى بطبيعتها فن رمزي، يُشير ولا يَعني، وبالتالي فهو مجال لعمل الاتجاهات الرمزية، أي الباطنية. لهذا استحقت تلك الجماعات، مع دراسة نموذجٍ لضيق المقام، فقرةً خاصة بها.
انقسمت النزعات الباطنية في الإسلام بشكل رئيس إلى بعض فرق الشيعة، والاتجاهات والطرق الصوفية. ربما يكون إخوان الصفا، الذين عاشوا في القرن الثالث الهجري، نموذجًا جيدًا على فلسفة الموسيقى في ضوء هذه النزعات؛ فقد كانوا شيعة ومتصوفة. في الرسالة الخامسة من القسم الرياضي من مجموع رسائل إخوان الصفا يمكن لنا الوقوف على ملامح عامة، وتفصيلية أحيانًا، فيما يتعلق بماهية الموسيقى، وأثرها على النفس، وأهميتها في السياق الباطني-الرمزي.
نقرأ في هذه الرسالة، تعريف إخوان الصفا للموسيقى: “ماهية الموسيقى … ألحانٌ مؤتلِفة، ونغمات متّزنة، لا تَحدُث إلا مِن حركات متواترة بينها سكنات متتالية” إخوان الصفاء وخلان الوفاء: الرسالة الخامسة (في الموسيقى)، من القسم الرياضي، رسائل إخوان الصفاء وخِلَّان الوفاء، ج١، مؤسسة هنداوي سي آي سي، ص ١٦٨.؛ وهو تعريف علمي، وجدناه عند الفلاسفة الثلاثة السابقين، لا يفي إلا قليلًا بماهية الموسيقى، رغم أنه يبدأ بهذا التركيب. برغم الاتفاق في المذهب الديني بين إخوان الصفا، وبين الفارابي وابن سينا، واتفاقهم كذلك معهما في المذهب الفلسفي العام: الفلسفة الإشراقية، فإننا سنجدهم أقرب في ماهية الموسيقى إلى الكندي بشكل عام أيضًا؛ في كون الموسيقى ذات طبيعة أنطولوجية خاصة: “كل المصنوعات الهيولى الموضوعة فيها أجسام طبيعية جسمانية إلا الموسيقى؛ فإن الهيولى فيها كلها جواهر روحانية، وهي نفوس المستمعينَ، وتأثيراتها فيها.” السابق، ص ١٦١. تعني المصنوعات في اصطلاح الفلسفة الإسلامية ما هو حادث، أي مخلوق، لا خالق، وبالتالي يتحدث النص هنا عن كل المخلوقات؛ فإنها جميعًا تتكون من مادة محسوسة إلا الموسيقى؛ فهي المخلوق الوحيد، الذي هو روحاني في مظهره، وجوهره، وقوامها نفوس المستمعين ذاتها، وآثارها فيها.
يتطرق إخوان الصفا إلى نقطة أبعد للبرهنة على هذا الرأي. إن البصر لا يَرى إلا في خطوط مستقيمة، أما السمع فيدرِك في محيط دائرة، وبالتالي للسمع الأولوية على البصر عند الإنسان. أيضًا، لا بد أن تكون محسوسات البصر جسمانية، أما محسوسات السمع فكلها روحانية السابق، ص ١٩٩.. بطبيعة الحال نعرف حاليًا أن محسوسات السمع كذلك جسمانية، هي تضاغطات الهواء، وتخلخلاته، التي تؤثر على تركيب الأذن. لكن الحقيقة العلمية هنا ليست الهدف، بل الهدف هو استنباط رؤيتهم لماهية الموسيقى، كونها كيانًا روحيًا خالصًا؛ لأنه مسموع، وكل مسموع – في نظرهم – روحاني بحت.
يؤمن إخوان الصفا بأثر الموسيقى على النفس، وعلى الأخلاق والأفعال، وذلك بناء على ما سبق أيضًا من وصفهم لماهيتها. يعقد المؤلفون مشابهة بين الجسم والنفس فيما يتعلق بالأثَر؛ فكما يؤثِّر الصانعُ على المادة، أي الجسم، بفعل مادي، فإن الموسيقار يؤثر على الروح بفعل روحاني: “لصناعة الموسيقى تأثيرات في نفوس المستمعين مختلفة كاختلاف تأثيرات صناعات الصناع في الهيوليات الموضوعة في صناعاتهم.” السابق، ص ١٦٣. كذلك ص ١٧٠. هذا ما أهل الموسيقى في رأيهم لتصير في أحايين كثيرة وسيلة للتواصل مع الله في الإسلام والمسيحية؛ فاللحن الحزين يناسب الدعاء، واللحن الفرح يناسب الشكر السابق، ص ١٦٣..
الفكرة هنا أن التواصل مع الله طبقًا لمذهب إخوان الصفا هو تواصل روحاني؛ لأنه بين روحين، والموسيقى هي لغة الأرواح في هذا المذهب. النفوس لديهم أسرع استجابة للنغمات من الكلمات، رغم أن النغمات أبسط، وليس لها حروف، أو معجم، وذلك أن النفوس – بتعبيرهم – جواهر روحانية بسيطة. المقصود بالبساطة هنا في اصطلاح الفلسفة الإسلامية هو ما لا يقبل الانقسام إلى ما هو أبسط منه، وبالتالي هو غير مركَّب، ولأنه غير مركّب فهو خالد في الحقيقة، لأن ما يتحلل لا بد من أن يكون مركّبًا من أجزاء أبسط، يمكن لها أن تنحلّ. على أية حال لا يدرك كل الناس الخاصية الروحانية في الموسيقى، ومعانيها الرمزية، إنما يدركها فقط الزهّاد أصحاب النفوس الصافية والبريئة من الشوائب البهيمية السابق، ص ١٩٩.. برغم الاتفاق العام الذي أشرنا إليه بينهم وبين الكندي في وجود ماهية مستقلة للموسيقى فإن قولهم بأنها موجود روحاني بحت غير واضح بذاته، وأقرب إلى عقيدة نازلة من فلسفة صاعدة.
يعتقد إخوان الصفا أن أصل الإيقاع في الكون واحد: حركة الأفلاك الدورية، إيقاع العَروض في الشعر، وإيقاع الموسيقى السابق، ص ١٧١، ١٧٧.. بالتالي نكتشف أن حلقة الصلة لديهم بين الموسيقى وبين الفلك هي الإيقاع. لكنهم لا يركزون القول على خاصية الإيقاع في الموسيقى العربية، رغم ما لها من أهمية سابقة الذكر. العلة في ذلك ربما أنهم حاولوا عن طريق الإيقاع عقد الصلة بين الموسيقى وبين الميتافيزيقا، ولْنلاحظْ أن علم الفلك في العصور القديمة والوسطَى كان أقرب إلى الميتافيزيقا من الفيزيقا؛ لأنه يتعرض لموجودات لا يجري عليها – في حدود قدراتهم الرصدية آنذاك – أي تغيير. لهذا اعتقد الفلاسفة والعلماء قديمًا أن الأفلاك مكونة من مادة مختلفة عن مادة الأجسام الأرضية، مادة لطيفة، دعوها باسم الأثير؛ وهي المادة التي كان يقصدها الكندي في عقده للعلاقة بين الموسيقى من جهة، والنفس من جهة ثانية، والعناصر الأولية بما فيها الأثير من جهة ثالثة. الخلاصة أن هدف إخوان الصفا في هذا الموضع لم يكن بحث الإيقاع كغاية، بل استعماله كوسيلة للدلالة على الطبيعة الرمزية للموسيقى.
كانت القرون الثالث والرابع والخامس الهجرية هي العصر الذهبي بحق في الإسلام؛ فهي التي ظهرت فيها الإبداعات العلمية والفلسفية بالدرجة الأعلى من الوضوح. كان القرنان الأول والثاني عصرَ التأسيس الجغرافي، وكانت القرون التالية عصرًا للتأصيل التاريخي. التأصيل التاريخي هو ما يبقى من الحضارة بعد اضمحلالها أو زوالها، ومآل كل الحضارات يومًا إلى الزوال. تميز العصر الذهبي بالتعاطي المنفتِح مع المنتَج الأجنبي، المجاور جغرافيًا، والسابق تاريخيًا، ما أهل مثقفي ذلك العصر من الاستفادة البنّاءة. لكن لدور الأفراد فاعلية لا تنكَر في التاريخ؛ فلولا دور الكندي الفعال في التمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية اللاحق، فلربما ما كنا قد سمعنا عن فلاسفة موسوعيين كالفارابي وابن سينا، بالإضافة إلى إبداعات الكندي الأصيلة في فلسفة الموسيقى، والتي أراها أكثر أصالة من إبداعات لاحقيه.
مما يستفاد من الاستعراض السابق كله أن العقل العربي مرّ فعلًا بفترة انفتاح، وفترة إبداع، وأن من أهم أسباب أفوله النسبي فيما بعد القرن الخامس الهجري هو الانغلاق أمام الثقافة الأجنبية، وإهمال الإبداع، والاكتفاء بالتكرار. مما يستفاد أيضًا أن العقل المشرقي تحديدًا، وعلى خلاف أطروحة عابد الجابري القائلة بتفوق العقل المغربي، استطاع فعلًا أن يقدم فلسفة أصيلة، وإن كان بمنهج مختلف. فلا جنسية العقل، ولا الدين، هو الدافع أو المانع، بل هما عاملان محايدان من هذه الزاوية. صحيح أن المنتج النهائي يتأثر بالبنية العقلية المسبقة لدى العرب أو الفرس أو الغربيين … إلخ، ويتأثر بطبيعة الحال بالديانة السائدة، أو الموقف العام من الدين في الثقافة، لكن هذا لا يتعلق بمدى القدرة على الإبداع.
من دوافع كتابة هذه المقالة أن غالبية ما كُتبَ عن فلسفة الموسيقى عند العرب يتعلق بدرجة أشد بعلم الموسيقى نفسه كعلم رياضي، لا بفلسفة الموسيقى، التي تشمل بشكل أساسي ماهية الموسيقى، ودورها الدلالي، وعلاقتها باللغة الرمزية، وكيفية استثمارها في فهم الكون، وكأن الحضارة العربية ظلت خلوة طيلة مئات السنين من فلسفة للموسيقى. كان الكندي نقطة البدء في التفلسف الموسيقيّ عند العرب، وهي النقطة التي ننتهي إليها ها هنا، ننتهي لنبدأ بداية أصيلة شجاعة كما بدأ هو أصيلًا شجاعًا. الفلسفة كلها شَجاعة، والموسيقى كلها موسيقى تصويرية لكفاح هذه الشَّجاعة.
١. ابن سينا: جوامع علم الموسيقى (الفن الثالث من الرياضيات من موسوعة الشفاء)، تحقيق زكريا يوسف، المطبعة الأميرية بالقاهرة، ١٩٥٦.
٢. إخوان الصفاء وخلان الوفاء: الرسالة الخامسة (في الموسيقى)، من القسم الرياضي، رسائل إخوان الصفاء وخِلَّان الوفاء، ج١، مؤسسة هنداوي سي آي سي.
٣. بدوي، عبد الرحمن: دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي، دار القلم، بيروت، ط٣، ١٩٧٩.
٤. زكريا يوسف: موسيقى الكندي، مطبعة شفيق، بغداد، ١٩٦٢.
٥. الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي، الكشاف عن غوامض حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، مكتبة العبيكان، المملكة العربية السعودية، ط١، ١٩٩٨.
٦. سليم الحلو: الموسيقى النظرية، دار مكتبة الحياة، بيروت، ط٢، ١٩٧٢.
٧. الفارابي: كتاب الموسيقى الكبير، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، دون بيانات أخرى.
٨. كريم الصياد: “قراءة في رسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى”، مجلة تعايش، العدد 9، أبو ظبي، سبتمبر ٢٠٢٠، ص: ٩٧-١٠١.
٩. الكندي: الرسالة الكبرى في التأليف، في: مؤلفات الكندي الموسيقية، تحقيق وتقديم: زكريا يوسف، منشورات الجمل، بيروت، ٢٠٠٩.
١٠. الكندي: رسالة الكندي في اللحون والنغم، تحقيق زكريا يوسف، مطبعة شفيق، بغداد، ١٩٦٥.
١١. الكندي: رسالة في أجزاء خبرية في الموسيقى، في: تاريخ الموسيقى الشرقية، تحقيق سليم الحلو، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، ١٩٦١.
١٢. الكندي: رسالة في خبر صناعة التأليف، في: مؤلفات الكندي الموسيقية، تحقيق وتقديم: زكريا يوسف، منشورات الجمل، بيروت، ٢٠٠٩.
١٣. الكندي: كتاب المصوتات الوترية من ذات الوتر الواحد إلى ذات العشرة الأوتار، في: مؤلفات الكندي الموسيقية، تحقيق وتقديم: زكريا يوسف، منشورات الجمل، بيروت، ٢٠٠٩.
١٤. هونكه، زجريد: شمس العرب تسطع على الغرب “أثر الحضارة العربية في أوروبة”، ترجمة فاروق بيضون، وكمال الدسوقي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط٨، ١٩٩٣.
١٥. وِيرْدِي، ميخائيل خليل الله: فلسفة الموسيقى الشرقية- في أسرار الفن العربي، دار ابن زيدون، دمشق، ١٩٤٩.
١٦. Andrew Barker (Ed.), Greek Musical Writings, Harmonic and Acoustic Theory, v. II, Cambridge University Press, 2004.
١٧. Aristotle, Metaphysics, trans. by W. D. Ross, Random House, New York, 1941.
١٨. Aristotle, Politics, trans. by Benjamin Jowett, Clarendon Press, Oxford, 1920.
١٩. Jameson, John H. Jr., John E. Ehrenhard and Christine A. Finn (editors), Ancient Muses: Archaeology and the Arts, vol. 1, The University of Alabama Press, 2003.
٢٠. Paramhansa Yoganada, Autobiography of a Yogi, Yogoda Satsanga Society of India, 1946.
٢١. Plato, The Republic, trans. by Benjamin Jowett, Oxford : Clarendon Press, 1888.
٢٢. Plotinus, The Enneads, translated by Stephen MacKenna, Faber and Faber Limited, London, 1956.
٢٣. Ricardo Martinelli, Philosophy of Music- A History, translated by Sarah De Sanctis,Segretariato Europeo per le Pubblicazioni Scientifiche, Bologne, Italy, 2012.
٢٤. Sachs, Curt, The History of Musical Instruments, (written originally in English), W. W. Norton & Company, New York, 1986.
٢٥. Saoud, Rabah, (2004), The Arab Contribution to Music of the Western World, Lamaan Ball, FSTC Limited.
٢٦. Walter Burkert, Edwin L. Minar Jr., Lore and Science in Ancient Pythagoreanism, Harvard University Press (1972).