عربي جديد

فن سريالي | شاهين العبقري

ياسين زهران ۲۹/۰٦/۲۰۱۵

https://www.youtube.com/watch?v=5kHffmOpYRc

الراب لغة الموسيقى الشوارعيّة: لا تكليف فيها أو فيه. فمنذ بداية الثمانينيّات وحتّى العصر الذهبي للرّاب في الغرب وإلى يومنا هذا، عالج الكثير من مغنّي الراب تفاصيل وصعوبات الحياة في العشوائيّات[Mtooltip description=” Slums, Ghettos” /]. بينما توّجه آخرون إلى الحديث عن الحياة المرفّهة، وتطرّق غيرهم إلى حياة العصابات وصخبها، وغيرها من المواضيع المتنوعة مثل الخرافات، الفانتازيا، المشاكل الاجتماعيّة والنفسيّة والجنسيّة والعرقيّة. يختلف الأمر في المشهد المصري، حيث أخذ الراب منعطفاً آخراً، مقتصراً على المشاكل الاجتماعيّة، متناسياً مشاكل الفرد الذاتيّة.

من بداية الأغنية، نستطيع ملاحظة تأثّير مدرسة الراب الواقعيّة التي تعتمد على تفاصيل ومشاكل الواقع الاجتماعي للمجتمع والفرد. لا بهدف تحديد وحصر تلك المشاكل، بل لطرح موقف مغنّي الراب بعيداً عن الجديّة الفائضة، كاستخدام الكلمات الرنّانة وتلقين المصطلحات، وبعيداً عن التقليديّة الرائجة في الراب المصري. والنجاح في ذلك ليس سهلاً لأنّه يعتمد على توليفة دقيقة من الكلمات، والموسيقى، والتّعبير، والأداء الصوتيّ.

نشأ شاهين العبقري (٢٣ عاماً) في مدرسة فريق واي كرو العام ٢٠٠٥. لينضم لاحقاً إلى الفريق ويصبح عضواً فيه وهو في عمر ١٣ سنة، مكتسباً لقب العبقري لتمتّعه، رغم صغر سنّه، بمهارات كتابيّة استثنائيّة رسم من خلالها رؤيته للمجتمع من خلال أغانٍ تحمل تركيبة فنيّة جذابة، وكلمات سهلة على الأذن وغنية بالمعنى في الوقت نفسه.

لم يكن هذا بسبب حدّة نبرته فقط، بل بسبب أسلوبه الأدائي والإلقائي الذي يتفاعل مع معاني الجمل أو المقاطع. ففي أغنية مثل فن سريالي، والتي تتكوّن من ١٠٠ سطر، ينوّع العبقري في أساليب الإلقاء، ويحافظ على الحماس والزّخم في الأغنية على مدار ٤:٠١ دقيقة. نسمع شاهين منطلقاً ونشعر بأنه سيتعثّر عاجلاً أم آجلاً، ولكنه يوازن أداءه ويستمر بنفس القوّة والاندفاعغالباً ما تتعّرض الأغاني التي تتألف من ١٠٠ سطر، والتي تكون على خط واحد من دون لازمة، للروتينيّة أو الهبوط، إذ يقف المغنّي أمام كمّ هائل من أسطر عليه حشوها، وأمام تحدّي الحفاظ على جودة معيّنة الذي يتطلّب بدوره، مهارة كلاميّة نادرة وأسلوباً مشوّقاً. وفي فن سريالي يثبت لنا العبقري أنه كفيل بهذه المهمة.

بعد الثانية (٠٠:٣٤)  نلاحظ اختلاف طريقة الإلقاء والأداء الصوتي والنبرة عن بداية الأغنية. أما عند (٠١:١٧) إلى (٠١:٥٤) نجد أسلوباً ممزوجاً ببعض التلحين الصوتي، مع الاحتفاظ بالنبرة ذاتها والاستمرار في تقطيع الجمل. وهذا الأسلوب يختلف تماماً عن الدقيقة (٠٢:٢٤) إلى الدقيقة (٠٢:٣٣). كلُ ذلك يخلق تنوعاً مثيراً في الأغنية. أي أن الإلقاء يختلف، ولكن دون الخروج عن الفكرة العامة للأغنية.

ينقذ العبقري نفسه بتخلّيه عن الاعتماد على العروض وتكثيف القوافي واستخدام القافية في نهاية الجُمل، معتمداً، بدلاً من ذلك، على الابتكار في طريقة الإلقاء والتركيز على مخارج الألفاظ، فيوحي للمستمع أن حذف الموسيقى التي تجري خلف صوت العبقري لن تؤثّر على طريقة إلقائه المتوازنة والإيقاعية، وكأنّه ليس بحاجة للموسيقى.

التعقيد اللغوي وبساطة الكلمات

في الراب، يتكوّن المقطع عادة من سطر إلى أربعة أو أكثر. في فن سريالي، يتعامل شاهين العبقري مع الأغنية على أنّها مقطع واحد في ١٠٠ سطر. إذ يمكن للجملة أن تكون سطراً واحداً أو أكثر حسب انتهاء المعنى بالمفهوم التقليدي للجملة، ويتم تركيب تلك الـ ١٠٠ سطر بطريقة كل جملة تخلق ما بعدها من جمل. ثم تتوالى الجمل كتوالي الحدث بعد الآخر. بمعنى آخر: تأتي كل جملة بالجُملة اللاحقة حتّى يتشبّع المعنى ويبدأ حدث آخر. هذا يستدرج المستمع إلى متابعة الأغنيّة والتشوق إلى ما سيحصل لاحقاً.

ينوّع العبقري في استخدام عبارات عاميّة وجمل وعبارات سهلة على الأذن تسمعها في الشوراع والميكروباصات. فمن بداية الأغنية إلى (٠٠:٣٣) يستخدم شاهين جملة تشفي الأنارخوهي جملة مُقتبسة من فيلم الكيف. الجملة معروفة، لكن استخدامها يغيّر من طبيعة الأغنية من الدراميّة إلى الكوميديّة. يسير العبقري من شوارع مصر ليصل إلى شوارع بلاد الشّام ليتقط منها كلمة دندرةفي مقطع ينتهي بكلمة مجزرةفيما يشبه تخليقاً لغويّاً يعرّفنا على كلمات جديدة، ويعزّز مفهوم شعريّة الرّاب الشوارعيّة. كما في الطبقة المطحونة اللي بتركب أتوبيسات ومشاريع، هنا كلمة مشاريع هو اسم الحافلة في الإسكندرية فقط، وهنا يصرّ على إظهار هويته الإسكندرانيّة في الأغنية. إضافة إلى عمّالين يشتروا ويبيعوا فيناكشكوى واستغاثة. ثم افهم معنى الكلام يا بلدينارجاء و تنبيه في ذات الوقت، واستخدام ذات الجُمل السابقة تحمل أكثر من معنى، وأكثر من صيغة.

وهذا ينسحب على كلمات مثل: “أرح، جارح، نشيطة، خلطبيطة، مصدمات، أنقاضالتي تظهر كقوافٍ يسهل الإتيان بها، لكن طريقة تركيب شاهين لها هو ما يختلف بتوظيفه للكلمات، وليس مجرّد تثبيت القافية، خاصّة باستخدام تلك الكلمات بأسلوب كناية غير مألوف وقليل الاستخدام.

سمّيني بحارب، سمّيني بتحارب، رافض أكون تقليدي سمّيني فار التجارب“. مهمّا كان المسمّى فسوف يصر شاهين على تغيير المفهوم التقليدي لمصطلح مثل فار التجارب”. في هذا التركيب اللغوي المعقّد بكلمات بسيطة، يكرّر العبقري استخدام سمّينيمن الدقيقة (٠٣:٢٦) إلى الدقيقة (٠٣:٤٠) بظروف مختلفة وكدليل على التعدّديّة في الصفات والأحداث.

ما يميّز العبقري في فن سريالي هو تناول الموضوع بطريقة بسيطة وسهلة، وطرحها على المستمع بطريقة خفيفة من دون تعقيد وتضخيم. إذ تهلك شموليّة الموضوع الروتين الموسيقي، وتخطف أذن المستمع الذي ينتظر المزيد من الجمل القصيرة الحيويّة. تتعرض الأغنية للكثير من المواضيع، ابتداءً من مستوى الموسيقى في مصر، وانتهاءً بالبعد عن التقليديّة في الفكر، والتحرّر من جموده، والطبقيّة ورفضها، كل ذلك مع نبرة إصرار على أن مغنّي الراب هو واحد من الناس: “أصلي أنا من الناس لا مش الهاي كلاس ولا الأرستقراط اللي معاهم الكاشات. أنا من الطبقة المطحونة اللي بتركب أتوبيسات ومشاريع“. وفي: “كلامي سمفونيّة مضبوطة معزوفة من غير مقرا النوَت/ أنا الأعمى شاف كلامي والأطرش حسمّعه، يدرك العبقري هنا أنّ قوته في كلماته، ويفتخر بمضمونها لدرجة التحدّي. مشيراً، بذكاء، إلى بيت المتنبّي المشهور أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/ وأسمعت كلماتي من به صمم، عاقداً نفس المقارنة، ولكن من دون أن يغرق بها.

موسيقى عمر بوفلوت

تمكّن عمر بوفلوت من إظهار مهارته في تأليف كم هائل من الجمل الموسيقية من دون الخروج عن الفكرة الموسيقيّة العامة للأغنية. في الثانية صفر حتّى (٠٠:٣٧) يحاكي بوفلوت المدرسة القديمة بمهارة مستخدماً إيقاعاً بسيطاً، بعد ذلك تتغيّر الموسيقى للمرة الأولى في (٠٠:٣٨) حتى (٠٠:٥٦)، وهو تغيّر طفيف لا نشعر به. لكن من (٠٠:٥٧) حتّى (٠١:٣٥)، تنتعش الموسيقى بالإيقاع الجديد مع البايس غيتار، ويظهر خطّ خلفي من نغمات البيانو، وهنا نلاحظ التغيّر في الموسيقى، أي أنّها تتحوّل تماماً عن الخط الأول.

تتحوّل الموسيقى للمرة الثالثة في (٠١:٣٦) حتى (٠١:٥٤) بإدخال آلة الكمان وتغيّر لحن البايس غيتار، ولكن مع الحفاظ على ذات السلم الموسيقي والإيقاع العام، وهذا ما يضمن تناغم الأغنية مع مكوّناتها. هذا أمر مهم عند إدخال إيقاعين ببعضهما، أو دمج لحنين. وما يلفت الانتباه أيضاً هو أنّ معاني كلمات العبقري متوافقة مع نغمات الكمان الصادرة من بوفلوت، مما يدلّ على عمق إحساس بوفلوت بالمعاني. من (٠١:٥٥) حتى (٠٢:١٣)، يتغيّر الإيقاع ليصبح أعنف ويواكب معاني العبقري مع استخدام الـ Scratches والبايس غيتار ليبقى مسيطراً على الخلفيّة الموسيقيّة.

تبدأ موسيقى الممنوعات من (٠٢:٥٣) إلى (٠٣:١٠). هذا التحوّل أو التغيّر الموسيقي واضح، خصوصاً في استخدام صافرة الإنذار كمؤشّر لوجود الممنوعات الفكريّة والكلاميّة وغيرها. ومن (٠٣:١١) حتّى (٠٣:٢٨)، نعود إلى الإيقاع الموسيقيّ البسيط للطبول مع إضافة الفلوت لتجميل الإيقاع. ثم للمرة الأخيرة تتغيّر الموسيقى من (٠٣:٢٩) إلى (٠٤:٠١) ليختم عمر بوفلوت موسيقى أغنية فن سريالي. كل ما سبق يدل على نهج المدرسة القديمة في صناعة الموسيقى. ويكون بوفلوت بذلك قدّم قطعة موسيقيّة مميّزة مُؤلّفة من كم تركيبي موسيقي هائل مع إيقاعات مختلفة، مما يعطي الأغنية صفة التلوّن والتنوع الموسيقي.

الطفرة الموسيقيّة والخاتمة

ربّما تكون الهفوة الوحيدة في الأغنية هي السّماح بتسلّل تأثير أميركيّ عليها في جملة تظهر ببداية الأغنية: “مايكروفون تشيكا، أنا بتاع الفرتكةالفقيرة لغويّاً، والقادمة مباشرة من الراب الأميركي، لكنّه يتجاوز ذلك لاحقاً بالتجاور مع اللغة الشوارعيّة المحليّة، سواءً مصريّاً أو حتى من بلاد الشّام كما ذكرنا.

في المجمل، وبعد سماع الأغنية مرات عديدة، أدركت مدى بساطتها على الرغم مما تحتويه من معانٍ ومفاهيم كبيرة لطرح المشاكل الفرديّة والاجتماعيّة. إذ تكمن البساطة في شموليّة الموضوع وتفرعه من دون الدخول في تفاصيل مهلكة. تلك البساطة في الكلمات التي يصاحبها التنوع الموسيقي الغني، يصل بالأغنية إلى السهولة والإمتاع لمختلف الفئات والأعمار، وهكذا ينجح شاهين العبقري وعمر بوفلوت بتأليف وإنتاج أغنية بعيدة عن ما هو مألوف وتقليدي في الراب المصري.

المزيـــد علــى معـــازف