وهن على فراقه راقصات | عن فن عمر فتحي

انتشرت في الثمانينيات عادة أن تشترِ الفتيات أجندة بداية العام في مستهل امتحانات منتصف العام الدراسي، ليحفظن أسرارهن. كنت طفلاً وسمح لي الوغول في هذه الأجندات الممتلئة باعترافات وخواطر ورسومات، حتى تعلمت منها القراءة والتصقت برأسي عبارة تكررت بين فواصل الشهور والوردات ابسط يا عم ما تشيلش هم أهي ماشية معاك آخر حلاوة“.

لم أرَ بكاء أمي على عبد الحليم، لكن الواقعة صارت حكاية من الإرث العائلي يكيد بها أبي أمي قعدت تعيط عليه وأنا أقول لها النحنوح مات، لكني، في شتاء ١٩٨٦، لمحت بكاء أختي الكبرى على شخص لم أكن أعرفه وسألتها مين عمو عمر اللي مات؟“.

في الصباح التالي نست أختي بكاء المساء، كان حزناً عابرًا مثل موت صاحبهعادت ابسط يا عم ما تشيلش هم  يبدو صوت عمر فتحي مريضًا مقارنة بالتسجيل التلفزيوني وربما كان هذا تأثير البدلة التي خلعها، غاية ما في الأمر أن التسجيل يوضح مدى الامتزاج بين المطرب والجمهور، فاعلًا ذلك ببساطة دون هتاف مثقفي المسرح 'ليسقط الحائط الرابع !” مسموعة من التسجيل الناشيونال ذي اللمبات الحمراء الصغيرة الذي سماه الباعة مازحين التسجيل اللي بينور زي طياز القرود، وعرفت إن عمو عمر هو المغني.

عمر جوهر وقلق السبعينات

يمكن تقسيم الربع الأخير من القرن العشرين في الغناء المصري السائد إلى نصفين غير متساويين، العقد الأول (١٩٧٥-١٩٨٥) والثاني (١٩٨٦-٢٠٠٠)، بدا الأول عقد حيرة المخاض، إذ أعاد موت الأم (الست أم كلثوم) طرح أسئلة انتابت الساحة المصرية وخاصة بعد نكسة ٦٧ – عن الإرث. كان الشباب في مجملهم متأثرين بـ ذ بيتلز وتوالى ظهور الفرق الجديدة بأسماء انجليزية، أكثر الشباب دلالة على تلك الحيرة هو أحمد السنباطي الوريث الشرعي لرياض السنباطي، الذي ظهر في تلفزيون الدولة طويلًا مهيبًا حاملًا جيتاره بدلاً من عود والده.

حمل سؤال الإرث أسئلة هامة حول وظيفة الموسيقى ذاتها ووظيفة الأداء الصوتي، ما بين المغني الفرد والفرقة، هل يكون مطربًا بالمعنى التقليدي ببدلة منشية وخلفه الفرقة أم يكون الصَوّيت Vocalist بمعنى آخر مستعار من حقبة الروك؟ ساد التجريب في ذلك العقد إجابة على سؤال الإرث، وساد صوت الصوّيت المشارك لا المغني الفرد.

ساعد على ذلك اكتمال عملية تبسيط الخطاب النغمي حتى نهايتها، فعلى الرغم من جماعية الخطاب السياسي الاشتراكي في العهد الناصري في الغناء كان الصوت الفرد هو المهيمن، فرضت الستينيات صوتًا مهمينًا واحدًا فجاء زمن الانفتاح الاستهلاكي أيديولوجيًا ليعكس صورة مخالفة في الوسط الفني. مقابل فردية الانفتاح سادت جماعية الغناء، وغاب صوت المطرب المهيمن ليتحول لآلة الصوت البشري وسط فرقة العازفين.

في وسط ذلك المخاض بدأ محمد هندي مشواره، قبل أن يصبح عمر جوهر ثم يفتح الله عليه بعدها فيصبح عمر فتحي، مطربًا في قصور الثقافة الجماهيرية. التقطه علي رضا وألحقه بفرقة الفنون الشعبية، ثم انضم لفرقة المصريين في شريطهم الأول باحبك لا، ورغم شهرة باحبك لا دليلًا على تلك الانتفاضة الموسيقية المغايرة، تبدو في يوم ٨ ديسمبر من كلمات مرسي السيد وألحان وتوزيع محمد الشيخ أكثر ثورية بالنسبة لي.

الأغنية على مستوى اللحن مُبسطة نغميًا إلى أقصى حد مما يبعدها حتى عن ميراث الأغنية المقامية العربية، مع تأثيرات ثورة الروك الواضحة، تبدأ الأغنية بهيمنة لإيقاع ٢/٤ بخطوة ثابتة مع حضور لمقاطعة كوردات من كيبورد للإشارة للمرور العابر لناس الشارع يُشعر اللحن من بدايته بحالة التسكع مع الإلقاء السردي الحر في يوم ٨ ديسمبرثم يعود إيقاع ٢/٤ أسرع ومهيمنًا كمارش في جملة تحت المطر والريح جريح شكى لجريحمع خفوت صوتي للسارد وإعادات منسجمة مع الإيقاع كان يوم لكل الناس لكنه كان يوم ناسويستمر السارد المغني مع هيمنة الإيقاع الخلفي 2/4 شبيهًا بخطوة الزمان، مع نهاية بسلم هابط على الكيبورد.

غنائيًا يتحول عمر جوهر المغني الذي لم يستقر بعد على اسمه إلى سارد مع الآلات أكثر منه مطرباً. الانقلاب الحقيقي ليس هنا بل في مرسي السيد نفسه، الذي يبدو أنه لم يأتِ من رحم أحد. انقلاب يحدث بداية من العنوان الذي أصبح سؤالًا ملحًا على أذهان الجيل الذي عاصر ولادة الأغنية حصل إيه يوم  ٨ ديسمبر، كان العنوان تحريرًا للغناء من هيمنة الناصرية في يوم ٢٣ يوليوأو نظرتهم فكرتني بأيام ٥٦فيمكن لنا أن نعد امتلاك الزمن المؤمم من الدولة بالحكي عن يوم ٨ ديسمبر الذي يخلو من أية دلالة، إنه يوم لكل الناس ويوم لناس، الأطرف أن الشريط نفسه صدر سنة ٧٧، فربما مارس مرسي السيد لعبة أخرى تتقاطع مع لعبة التأريخ القديمة بحساب الُجمل وقرر التأريخ للشريط بأغنية فيه.

العُمْر فتحًا بين محمدين ورضا وسفينة عجائب

في الثلاث سنوات التالية لـ ٨ ديسمبر سنة ٧٧ توسط فتحي ثلاثة تيارات في قلق الموسيقى المصرية وقتها، تجديد حداثي وتجديد وسط وتجديد ماضوي، وأبحر في تجربة حليمية سريعة مع سفينة العجائب. في هذا السياق، يمثل محمد الشيخ (المتوفى في ١٩ نوفمبر ٢٠١٦) تيار التجديد الحداثي، القائم على المزج مع معرفة جيدة بالموسيقى العربية ودراسة أكاديمية، التيار القلق في أرجاء معاهد الموسيقى في ذلك الوقت، ولأن عمر فتحي وسيط متلاشي وسيط عابر بين فكرتين متناقضين ينشأ لحل التناقض بينهما ثم يتلاشى  بين التيارات لم يكن عجبًا أن يختصه محمد الشيخ بأغلب ألحان شريطه الأول على قلبي (١٩٨٠)، سادت ملامح قلق التطوير الحداثي أغلب الأغاني، ففي سيبك على سبيل المثال يصنع محمد لأخيه شنودة الثيمة اللحنية للونجا ٨٥ اللاحقة، وفي على قلبي يلعب إيقاع الطبلة دورًا أهم من اللحن ذاته، بل يخلي له اللحن عدة موازير في جملة مستمرة لمدة نصف دقيقة تختم بها الأغنية.

الأغنية الأبرز، بالنسبة لي، هي عشقستان (كلمات صلاح جاهين)، لحنيًا تحاول الأغنية إنتاج الموشح الحداثي في صورة تلميح للموشحات القديمة مع غياب قواعد الموشح التقليدية، بتقطيع الكلمات المتجانسة لفظيًا بشكل يوحي بالسلسلة وقفل الخانة أنا أغنى الناس أنا أهنى الناس” “يا أبهى يا أزهى يا أشهى“. نصيًا تُعتبر من نوادر فصحى جاهين، ونوادر لمحاته الذكية حيث لم يترك فرصة اندلاع حرب أفغانستان في ديسمبر ١٩٧٩ دون ترك بصمته بأول ستان في ربع القرن الأخير.

إن كان محمد الشيخ يمثل قلق الحداثة الموسيقية، فمحمد قابيل (المتوفى في ١٩ ديسمبر ٢٠١٤) يمثل قلق الوسطية الموسيقية المصرية في ذلك الوقت التي حاولت إكمال مسيرة ما سُمي بزمن الفن الجميل. شاء القدر أن يلعب عمر فتحي دور البطولة في استعادة عمل فني من زمن الفن الوسيط، قصة حسن ونعيمة التي مثلت في ١٩٥٩ حدثًا هامًا في مسيرة تأميم التراث الشعبي لصالح السلطة الناصرية وإعادة روايته وتقديم فيلم عبد الوهاب (المنتج) وجهًا جديدًا (محرم فؤاد) للساحة الموسيقية غير تلميذه النجيب حليم ووجهًا نسائيًا هامًا، سعاد حسني. في سنة ١٩٥٩ لعب عبد الوهاب وبحكمة دور المهندس الأعظم، فهو المنتج ولم يلحن أي أغنية في الفيلم تاركًا الألحان لأحد أبناء جيل التلاميذ، محمد الموجي.

في أول عقد الثمانينيات تمثل استعادة قصة حسن ونعيمة في ثُمانية الليل والقمر حدثًا مختلفًا، لو اعتبرنا ١٩٥٩ بداية تأسيس فمفتتح الثمانينات إعادة التأسيس، بملحن يحمل اسم محمد أيضًا وشاعر غنائي من خارج الوسط، صحفي أضاعته صنعة التنوير هو الراحل فرج فودة موسوعة الغناء في مصر، حيث يذكر محمد قابيل إن فرج فودة ملحن ٥ أغنيات في المسلسل ثم يعود ليذكر أن الأغنيات أكثر من ٥، ونظرًا لعدم توافر تترات بداية المسلسل في التسجيلات المتاحة عبر الشبكة، افترضت أن الدكتور فرج فودة هو مؤلف جميع الأغاني لكنها فرضية لا تخلو من مخاطرة ويجب أخذها على حذر وتحقيقها لاحقًا، ومطرب جديد يعبر كل الحدود، فهو يصلح كصوّيت فرقة متأثرة بالروك والجاز ويصلح مغنيًا شعبيًا كذلك، يصاحبه وجه شيريهان الأنثوي النَغِش، وارثة عرش الجمال المصري ذي الشعر الأسود الفاحم والبشرة القمحية ولطافة الصوت الخجول. في سياق القلق الموسيقي وتوسط الفنان لحله، كان عمر فتحي نحلةً دؤوب تمتص الرحيق من أوساط القلق الموسيقي السائدة وكانت شيريهان فراشة تعبر الدوائر بخفة دون أن تترك أثرًا سوى رفة جناحين.

بداية من تتر البداية يبدو قلق وسطية محمد قابيل، الأغنية على مستوى اللحن تحاول أن تظل ضمن السُنن الموسيقية الموروثة من زمن الفن الجميل مع غياب تام للآلات الثابتة مثل الكيبورد، واستبدالها بالآلات الوترية القادرة على ضبط مسافة الثانية المتوسطة المعروفة شعبيًا باسم الربع تون. مع حضور راسخ للبياتي بتلميح سريع للصبا بجملة الناي، يبدأ عمر فتحي الغناء مرسلًا بطريقة الموال لا طريقة الحكي، كأنه شخص آخر غير عمر جوهر في يوم 8 ديسمبر، مع حضور الوتريات في ترجمة اللازمات، ثم مع دخول الإيقاع نعود لإيقاع بياتي الفلاحين الفرح عينيكي ميت سفينة وقلبي سندباد، إلى نهاية الأغنية مع حضور كورال رجالي نسائي في الخاتمة يا عيني ع الولادوممارسة حيلة توزيعية هي ترجيع صدى صوت عمر فتحي في الخلفية البعيدة، وهي حيلة ستتكرر في ألحان تترات الفترة مرات أُخَر (على سبيل المثال لحن إبراهيم رجب (١٩٨٥) لتتر مسلسل مأخوذ عن سيرة شعبية أخرى هو علي الزيبق واستخدامه لترجيع صوت المنادي في الختام يا علي يا زيبق“).

أتى القلق الموسيقي الثالث في تلك الفترة من الرحم الأول لعمر فتحي، فرقة رضا، على يد فؤاد عبد المجيد المستكاوي، أحد المحاولين في سكة التجديد الماضوي عبر استدعاء تراث الموشحات، استدعاء سبق أن بدأ في الزمن الجميل الستيناتي بمحاولات مجدي نجيب مزج الموشحات بالشعبي في كامل الأوصاف (لحنها الموجي وغناها عبد الحليم حافظ)، أو بالأحرى مزج إيقاع السماعي بالمقسوم وهو ما يبدو واضحًا في لحن لإبراهيم رجب لا يخلو من جمال رغم سذاجة المزج، هو خليك معانا سهران يا قمر.

لكن فؤاد عبد المجيد المستكاوي قضية أخرى، الهاوي خريج كلية الزراعة الذي تتلمذ موسوعة الغناء في مصر، مصدر سابق حين بلغ الثانية والثلاثين من عمره على يد قامة هامة مثل صفر بك علي، واكتشفه علي رضا وعبد الحليم نويرة بعد عشرين عامًا في سن الرابعة والخمسين. فهو يمثل قلق الموسيقي القديم واستعاداته النويرية التي وصلت لحارة سد خير تمثيل لمزيد عن نقد عبد الحليم نويرة رجاء العودة للمقابلة مع الباحث فريدريك لاغرانج http://ma3azef.com/%D9%81%D8%B1%D9%8A%D8%AF%D8%B1%D9%8A%D9%83-%D9%84%D8%A7%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D9%86%D8%AC-%D9%85%D9%82%D8%A7%D8%A8%D9%84%D8%A9/، وحصة فؤاد عبد المجيد من الموشحات ما كان منها على أوزان السماعي، وفي أغلبها استعادات لما بدا يتثنى، الموشح الأشهر بعد هرمنته على سلم المينور، مع مزج الاستعادة بخيال راقص استشراقي عن أندلس متخيل.

يبدو ذلك واضحًا في يا من نشا (من كلمات وألحان فؤاد عبد المجيد) رغم جمال اللحن الذي لا ينكر. يبدأ الموشح بتقسيمة للقانون على عكس عادة فؤاد عبد المجيد ببدء اللحن بتقسيمة العود، ثم يدخل الإيقاع الدارج الراقص المشابه للڤالز، مع غناء مجموعة الفتيات الخانة الأولى يا من نشاكفرش بطانة لعمر فتحي الذي يغني من طبقة وسط، لتعاود المجموعة الخانة الثانية ثم مصاحبة آلية ليعود عمر فتحي لمن نشا مرة أخرى بلحن مختلف، والملاحظ رغم تقليدية اللحن هو رغبته التجديدية الماضوية، باستعادة الماضي وإعادة هرمنته وإدخال الپركشن عليه بدل الإيقاع التقليدي في التخت.

تلك ثلاث دوائر قلقة لامسها عمر فتحي ولم يستطع معها صبًرا، أما السفينة فهي لماسبيرو التلفزيون المصري الرسمي، وماسبيرو هو اسم شارع كورنيش النيل الذي يقع فيه مبنى التلفزيون، أنتجها التلفزيون كعمل استعراضي غنائي، أشار له عمر فتحي في لقاء خاطف معه، لكن هذا العمل القائم على استكشات غنائية يجمعها رابط درامي ضعيف يمثل حيرة عمر الذاتية لا حيرة الدوائر الموسيقية الموضوعية، بداية من مظهره الحليمي، مرورًا بالألحان الموضوعة التي جاءت عكس ألحان المصريين له وأجبرته على أداء تفاعيل طويلة مليئة بالزخارف، ويبدو ذلك واضحًا في مكتوب لنا من كلمات عبد الرحيم منصور وألحان محمد علي سليمان

لحنيًا تبدو الأغنية من مرحلة حليم قارئة الفنجان أو أقرب لأداء كاريكاتير حليم في تلك الفترة، هاني شاكر، ويبدو صوت عمر فتحي خارج بؤرة جذب المستمع، والمصاحبة الآلاتية في اللازمات يَكثُر فيها التوزيع الكيبوردي دون داعي، أما التعبير الوجهي لعمر فتحي فهو تعبير حليمي بحت، وفي جملة بعاد عن أهاليناتخشى خروج عبد الحليم من قبره ليكمل سافرت كتير معاه، وهي محاولة لم يعد لها عمر فتحي ثانية، أو حسب إجابته الدبلوماسية وهو التلفزيون أنتج عمل استعراضي غنائي وأنا رفضت؟

كدا وكدا وكدا وكله

في تسجيل للتلفزيون المصري يتقدم عمر فتحي للجمهور، الذي يهتف مطالبًا إياه بـ على فكرة، داعيًا إياهم للاستماع لأغنيته الجديدة بتفكرني الغناوي قائلًا غنوة صعيدي، ثم يعقب على تعليق أحد الجمهور باسمًا أهو كدا وكدا وكدا وكله، ففي مراحل القلق الموسيقي يأتي الوسيط العابر ليمارس كل الأفعال المتاحة ويلعب في كل الثيمات، وإذا كانت الدوائر الموسيقية قد أتمت في ذلك العقد (١٩٧٥-١٩٨٥) مسيرة التبسيط النغمي، صار مركز الثقل في الأغنية التوزيع والإيقاعات والثيمات أو بعبارة أخرى كدا وكدا وكدا.”

١ – الفولكلور الرضائي

أُنشئت الفرقة القومية للفنون الشعبية (فرقة رضا) سنة ١٩٦٠، بغرض تجميع وإعادة فلترة التراثات الفولكلورية المصرية وتقديمها بصورة أخرى صالحة لتمثل مصر كمنتخب قومي للفنون الشعبية قصة ما قبل تأسيس فرقة رضا عند يحيى حقي في كتابه يا ليل يا عين، كانت الفرقة قد أتمت مسيرة الفلترة حين التحق بها عمر فتحي، لذا يستخدم تعبير أغنية صعيدي في تقديمه لبتفكرني الغناوي، دون أن تكون من الفولكلور، ويرقص رقصة تحطيب مُمدنة في يا جريد النخل العالي، وفي يا أبو عيون كاحلة تكون الرقصة حاجة بزرميطلا بدوية ولا خليجية، وحتى في شريطه الأول على فكرة (١٩٨٠) المكرس كليًا لقلق الدائرة الحداثية (محمد الشيخ) يخص ملحن الفرقة كمال هلال ملحن الثلاثية السابقة بأغنية جرحوني عيوني يا اباه (من كلمات سمير محبوب).

أغنية لا تخلو من طرافة لحنية مع حضور الكمان الشرقي في بداية الموال، ثم دخول راقص لإيقاع الواحدة مع تصور مُمَدن لرقصة الحجالة التي يمارسها بدو مطروح، وهي هنا مطروحية حسب تصور فرقة رضا، وتتبين قدرة عمر فتحي الراقصة في لحظة تكوين الدائرة الرباعية عليه من الرجال، وحجله صعودًا وهبوطًا دون أن يقع منه إيقاع الغناء أو الرقص.

٢- الشعبي المودرن

الوجه الآخر لقومية الفولكلور هو الشعبي المودرن، وهو من ثيمات قلق العقد (١٩٧٥-١٩٨٥). يبدو هذا الوجه عند عمر فتحي في أغنية طالعة من بيت أبوها (كلمات عبد المنعم كاسب ألحان حجاج عبد الرحمن من شريط على شرط) ففيها يعيد كاسب كتابة طالعة من بيت أبوها الشعبية التي روتها جدتي بروايتين عن نساء القاهرة في الحرب العالمية الثانية طالعة من بيت أبوها رايحة بيت الجيران واخدة من الشمس الطرحة ومن القمر فستان وسع يا جدع ليها دي لابسة شغل محمد عثمانوالرواية الأخرى إباحية تُروى في ليلة الحنة بين النساء فقط، طالعة من بيت أبوها رايحة بيت الجيران وسع يا جدع ليها دي لبوة وبتاعة جدعان، كنوع من مداعبة صاحبات العروسة لها وخاصة لو كانت زيجتها الثانية أو الثالثة، لكن هنا يعيد عبد المنعم كاسب كتابتها بدون لباوي وبدون توسيع للطريق، وهو ما يفعله أيضًا سمير الإسكندراني في تسجيل مقارب زمنيًا لتسجيل عمر فتحي.

لكن قضية الشعبي المودرن لا تقتصر فقط على استعادة ثيمات شعبية، ففي قشطة (١٩٨٠) من كلمات مصطفى الشندويلي وألحان منير الوسيمي، تستعاد فكرة الموال القصصي في إطار تصوير تلفزيوني أقرب لأغاني المطربة الإيطالية الشهيرة في مصر وقتها رافايلا كارّا، والأغنية لحنيًا تعتمد على إيقاع ثابت من الكيبورد مع إشارات بالناي لإعطاء جو الموال الشعبي، وترديد راقص من الكورال لآه يا اباه يا اباه، لكن حتى هذا الموال القصصي المودرن لم يخلُ من مقص الرقيب الذي لا يسمح بالشعبي غير المنقح بالعرض على شاشاته، ففي مقطع قلت لها تعالي نكتب كتابنا ونرد بابناتأخذ الشندويلي الجلالة الشعبية فيكمل القشطة دابت وأنا روحي راحتفيتدخل رقيب الهواء بكتمها كما يبدو من الفيديو، ثم يتدخل رقيب المصنفات لتصدر في نسخة الشريط “الفرحة بانت“.

٣- الطرافة والعلائيات

تحرر الخطاب الموسيقي في هذا العقد (١٩٧٥-١٩٨٥) من رغبة التعقيد، ويبدو ذلك واضحًا في تفسير عمر فتحي لسر تكرار على في عنوان شرايط، ففي تسجيل على إيدك اتعلمنا يفسرها ببساطة إنها نوع من التفاؤل، غير إن بساطة التفاؤل تلك تخفي طرافة النصوص عند عمر فتحي مقارنة بمن سبقوه، ففي على فكرة (١٩٨٢) “على فكرة على فكرة على فكرةكتنبيه لما يأتي، تهربي مني تبعدي عني قلبي يحبك موت، وفي على سهوة (١٩٨١)، وكلاهما من الشعبي المودرن ألحان حجاج عبد الرحمن، العنوان مخادع فكلمات المذهب تخلو من أي سهوة ورمشك غمز قلبي صحى الهوى فيا زقزقت عيني الشوق ضحك الهنا لياولا تأتي على سهوة إلا في الكوبليه خدني هواكي على سهوة قبل هواكي ما كنت أهوى من يوم ما شفتك عشقت لحبك ونسيت طعم الشاي والقهوة، وهي كلمات لا تخلو من بساطة ولطافة.

٤- التمويه الإيقاعي والإشارات

تحررًا من الموروث السابق وارتباطًا به اخترع عقد بداية ربع القرن العشرين التمويه الإيقاعي بإيقاعات المقسوم والواحدة والبمب مع توزيع الكيبورد، كنوع من التلميح إلى شرقية اللحن رغم غربية سلمه، ففي البنت ديه من شريط على سهوة (١٩٨١)، كلمات مرسي السيد وألحان حسين ومودي الإمام، يمارس الملحنان التمويه الدائم بإيقاع البمب كأن الأغنية تحميلة أو موال مُوقع، وفي يا حلوة ما تدبيش كلمات سمير محبوب وألحان علي رضا، يمارس رئيس فرق رضا نفس اللعبة ليرقص السامع ترقيصة كرة قدم من زمن مارادونا دون أن يتم الغناء على البمب أصلًا، وفي يا مركبي عدي يمارس هاني شنودة الإشارات الإيقاعية بتصفيق البحارة مع كوردات الكيبورد.

٥- الدراما والفوازير والغنوة التلفزيونية

حسم تأسيس ناصر للتلفزيون العربي (١٩٦٠) أمر السينما الغنائية وأخرجها من عرشها الذهبي الذي تربعت عليه في الأربعينيات والخمسينيات، كانت السينما الغنائية بديل الأسطوانة فجاء التلفزيون لينهي هذه الهيمنة، ومع انتشاره في عقد من نصف السبعينات إلى نصف الثمانينات، لم يكن أمام مغني الجيل بديل سوى أن يتحول لممثل درامي، وهو ما فعله عمر فتحي مرتين مع شيريهان، في الليل والقمر وفوازير رمضان ٨٥، ومرة مع يسرا في سيدة الفندق (١٩٨٣) بكلمات عبد الرحيم منصور والألحان لهاني شنودة رفيق البداية في باحبك لا.

في ناس قبلينا راحوا يبدو نضج صوت عمر فتحي واضحًا، بالرغم من من سيطرة ثيمة صولو شجي من العود لحنيًا في حوار ما بين فرادش الوتر المستمر غير الموقع مع توقيع الكيبورد المستمر والتمويه الخفي من الدرامز، لا يسقط صوت عمر فتحي في فخ الحزن التقليدي مثل سفينة العجائب، بعد أربع سنوات من بداياته يبدو صوته واثقًا وقائدًا للآلات.

٦- تجنب الكبار

يخلو سجل عمر فتحي من تقاطعات مع الملحنين الكلثوميين إلا تعاون عابر مع الموجي، في فيلم رحلة الحب والشقاء (١٩٨١)، في أغنية كان اللي بيننا كلمات محمد حمزة يبدو فيها عمر فتحي كصورة باهتة من عبد الحليم حافظ وربما كانت الأغنية سببًا في ابتعاد عمر فتحي عن الموجي بقية حياته، غير أن عمر حتى لم يذهب طوعًا إلى بليغ حمدي رغم شغف بليغ حمدي بالثيمات الشعبية وعمل عمر فتحي كثيرًا مع عبد الرحيم منصور شريك بليغ حمدي في كثير من الألحان، ولم يذهب لسيد مكاوي كذلك رغم تعاونه مع صلاح جاهين، رغب عمر فتحي أن يكون جديدًا وعلى مية بيضا، فراح لمحمد الشيخ وهاني شنودة ومحمد قابيل وحجاج عبد الرحمن ومنير الوسيمي، ولما أراد أغنية تطريبية بمنطق طرب ستينيات شادية وفايزة أحمد ذهب إلى خالد الأمير.

٧- مغازلة الصغار

تتكرر تلك الثيمة بصوت خافت حينًا وصريح حينًا في مسيرة الغناء المصري، حالة من الغزل المتبادل العابر للسن منذ طقطوقة أبوها راضي وأنا راضي لصالح أفندي عبد الحي، مرورًا بصغيرة على الحب لسعاد حسني، حين خدعتنا سعاد بوعدها أفتح عيني وأغمض ألقى عمري بقى 20 على شان أعجب شاب يكون ٣٥، فوصلنا الـ ٣٥ صلعًا شيبًا دون أن تشمنا قطة عابرة، وليس نهاية بيا ريت سنك يزيد سنتين لعمرو دياب.

تظهر الثيمة عند عمر فتحي بوضوح في أغنيتين، بنت ١٧ شمعة (شريط على إيدك ١٩٨٥) وهي أغنية تقليدية من كلمات محمد سعيد أحمد ألحان فتحي خالد، يبدو فيها فتحي كهلًا خمسينيًا لا رجلًا ثلاثينيًا حين يغني وفي يوم قالت لي حاسب السن مش مناسب والله ما إنت كاتب بس هتعمل لي سمعة، مقابل رغم حداثة سنك التجريبية (شريط على قلبي ١٩٨٠) كلمات صلاح فايز ألحان محمد الشيخ، فيكي حاجات عاجباني جديدة لا إنتي حنونة ولا إنتي عنيدة، وهذه الثيمة تتقاطع مع مسألة السن، حتى لو طرحتها فرقة المصريين في إطار العلاقة بين الأب والابن، فالحاصل أن قلق فكرة الأجيال وتحقيبها كما نعاصرها حاليًا كان حاضرًا في موسيقى ذلك العقد، سواء بين الحبيب والحبيبة، أم بين الأب والابن.

الموت في المفرمة

حسب رواية أصدقائه في لقاء إذاعي، مات عمرو فتحي في ٢٦ ديسمبر ١٩٨٦ موتًا دراميًا بسبب مفرمة لحم، فعمر، المصاب بخلل وراثي في القلب، رأى خادمته تسرق مفرمة لحمٍ معدنية لا تساوي خمسة جنيهات بسعر ذلك العصر وقت كان الدولار يساوي ١٨٠ قرشًا، فانهارت أعصابه لا لفداحة السرقة ولكن للإحساس بالخيانة والغدر وخبط على صدره خبطة ثم مات.

ورغم درامية الموقف لكن للمفرمة دلالة، مات عمرو فتحي العابر كبسمة في الوقت الذي كان يجب أن يموت فيه، في مفتتح النصف الثاني من الربع الأخير من القرن العشرين، كانت لحظة المخاض قد ولت وأنجبت جمودًا سياسيًا استمر حتى مفتتح القرن الحادي والعشرين، على مستوى الخطاب النغمي عاد الصوت الفرد من باب خلفي بالمنطق التجاري لا الطربي، تبلورت الأشياء وتماسكت فتفككت الفرق تباعًا، ساعد نظام التراكات في إبراز صوت المغني الضعيف وأنهى تجريبية مزج صوت المغني كصوّيت مع الفرقة، واستبدلت المرحلة مسمياتها، أعادت طرح الحالة مقارنة بالطرب الستيناتي فصارت الحالة الحميدية هي زمن الفن الجميل الجديد، وأعادت الحالة صوت المطرب الفرد مقابل المطرب المشارك، وعلى رغم إبراز هذه المرحلة في محاولات التأريخ الحالية، كان النصف المتمم للربع الأخير من القرن العشرين الأقل جرأة مقارنة بتجريبية عقد المخاض الفاشل (١٩٧٥ – ١٩٨٥)، وكان الأكثر ثباتًا وانتصارًا.

لذلك لم يتم استدعاء عمر فتحي سيد درويش الثمانينيات مثلًا رغم موتهما في سنٍ متقاربة. ففي حالة سيد درويش تم الاستدعاء لتبرير الوراثة والتجديد والأهم اختراع الأصالة، لكن عمر فتحي ميت بلا مواريث وبلا أرشيف ولم يتم استدعاؤه سوى في إعادة توزيع من حسام حسني، ابن منطقة سراي القبة مثل عمر فتحي، وربما كان الاستدعاء نوعًا من الوفاء للجيرة لا أكثر، وربما كان نوعًا من المقاومة الصامتة للجبهة الحميدية المهيمنة من موزع شبه منسي.

ما الذي يعنيه استدعاء عمر فتحي من كاتب عاصر موته طفلًا؟ ربما كان استدعاء فتحي الآن محاولة لفهم تعددية الصوت مقابل محاولة التأريخ الحالية للتمانينات البعيدة يا كابو، فالسقوط في هيمنة صوت واحد وتحقيب دارويني الطابع يعني إننا سنعيش سنة ٢٠٣٠ زمن أزمة موسيقية أخرى يعتبر فيها الجيل التالي حميد الشاعري سيد درويش المرحلة أنظر إشكالية سيد درويش في مقابلتي الشاملة مع فريدريك لاغرانج في معازف، مصدر سابق.، ربما كان استدعاء العابر الملامس لأغلب الدوائر محاولة في سبيل تعددية أصوات التأريخ الموسيقي للربع الأخير من القرن العشرين.